تقديم
هل دخلت التيارات السلفية في منعطف جديد إثر المتغيرات السياسية التي شهدتها دول الحراك العربي؟ هل ثمة تحولات في خطاب السلفيين خصوصاً من ارتأى دخول العمل السياسي لا سيما في الحالة المصرية؟ ألا يؤدي سقوط الإخوان المسلمين في مصر إلى إمكان تمدد الخريطة السلفية داخل المجتمعات العربية أم العكس؟ أليس من الممكن القول بشيء من التجاوز إن لوناً جديداً من ألوان السلفية قيد التشكل، بعدما استخدم البعض مصطلح السلفية السياسية الجديدة؟
يحاول كتاب المسبار المعنون: «السلفية المُتحوِّرة وأخواتها: الحالة والمجالات», العدد الثالث والثمانين، نوفمبر (تشرين الثاني) 2013، الإجابة على جزء من الأسئلة المطروحة. ورغم أنه لا يُغَطِّي مُجْمَل الجماعات السلفية الممتدة في أصقاع الأرض بهدف قراءة واقعها الراهن إثر المتغيّر الاحتجاجي غير أن الدراسات سعت إلى فهم مؤشرات وآليات التحول المُشار إليها أعلاه.
قَدَّم الأكاديمي المصري محمد حلمي عبد الوهاب دراسة بعنوان «مسَارَاتٌ مُتَعَرِجَة: السلفيون في خِضَمِّ التحول الديمقراطِي». درس الباحث السياقات التاريخية للسلفية التقليدية المصرية (جماعة أنصار السنة المحمدية، والجمعية الشرعية، وغيرها) مشيراً إلى أبرز تشكيلاتها، واتساع رقعتها في النسيج الإسلامي المصري، عِلماً أن السلفيين يعملون بلا تنظيم هرمي، ينخرطون فيه ويسيّرون شؤون دعوتهم. يرى الكاتب أن السنوات الخمس الأخيرة شَكّلت منعطفاً مُهماً في تاريخ السلفية المصرية، نتيجة ظهور الفضائيات الدينية، والحضور الكثيف لمشايخ التيار السلفي فيها، بعدما ظلت لعقود طويلة أسيرة الخطاب الدعوي الذي لا يتعدى محيط المساجد. وإثر ثورة 25 يناير (كانون الثاني) ومع عودة الحريات، حاول سلفيو مصر استغلال الوضع الجديد رغم غيابهم عن الحراك الميداني الاحتجاجي، وظهر إلى جانب الكيانات السلفية القديمة كيانات جديدة تُعَبِّر عن تجليات الثورة في الفضاء السلفيّ الجديد، منها «الهيئة الشرعية لحماية الحقوق والحريات» و«سلفيو كوستا» و«ائتلاف شباب مصر الإسلامي» و«الجبهة السلفية». ويفند عبد الوهاب التحديات إلى تواجه السلفيين في المرحلة الانتقالية التي تمر بها مصر، وينتقل للحديث عن حزب النور السلفي الذي يطرح نفسه بديلاً عن الإخوان المسلمين وكيف أنه ينتهج النهج البراغماتي في تعامله مع المستجدات السياسية التي أعقبت ثورة 30 يونيو (حزيران).
كما درس الباحث السوري في الفكر الإسلامي حمّود حمّود في ورقته «جهاديو دمشق بين الجهاد المقدّس وجهاد الطوائف» خريطة الجهاديين في سورية، التي تشكلت بعد تفاقم مظاهر العسكرة. يقول في فرضيته الأساسية: «كما أنه ليس هناك من ضامن في تحوّل السلفية العلمية إلى السلفية الجهادية، أو بالعكس، فكذلك الأمر ليس هناك من ضامن يضمن عدم تحوّل الإخوان المسلمين (في سوريا) إلى الإرهاب ما داموا إخواناً؛ أي إخواناً عقيديين». ويرصد الكاتب واقع الظاهرة الجهادية السورية، الشيعية منها والسنية، في سياق «أشكلتها» الطائفية، والتي أنتجت مطحنة للجهاد والجهاد المعاكس. تناول حمّود بالدرس والتحليل نماذج من الأطراف الجهادية السنية؛ (الدولة الإسلامية في العراق والشام، جبهة النصرة، الإخوان المسلمون)، والأطراف الجهادية الشيعية؛ (حزب الله، كتائب سيد الشهداء، لواء أبو الفضل العباس)، فضلاً عن تطرقه إلى ظاهرة «المجاهدين الأجانب». انتقل بعدها إلى توضيح العامل الطائفي، وإشكاله مع ما أطلق عليه مسمّى «جهاد الطوائف».
وتحت عنوان «الحركة السلفية في لبنان: من الدعوة إلى الجهاد» قدَّم الباحث اللبناني في الفكر الإسلامي هيثم مزاحم، ورقة قارب فيها واقع الحركة السلفية في لبنان. إذ يرى مراقبون أن الصحوة السلفية في طرابلس (شمال لبنان) ومناطق لبنانية أخرى، لها ثقل ديموغرافي سُنّي، تعود إلى عاملين: الأول, الفراغ السياسي عند الطائفة السنيّة، بعد الإطاحة بحكومة سعد الحريري نهاية العام 2010 ومغادرته البلاد؛ والثاني, عدم قدرة القيادات السنيّة التقليدية على تخطي المأزقين الداخلي والسوري. يعرض الباحث لتاريخ السلفية اللبنانية، نشأتها ورموزها وخطابها واتجاهاتها، وتفاعلها مع الأحداث السياسية والأمنية، مفصلاً الكلام عن السلفيين الجهاديين الذين تقدم حضورهم في البانوراما اللبنانية مع التطورات الدرامية في سورية والدعوات التي أطلقها شيوخ سلفيون، وفي مقدمهم أحمد الأسير، للجهاد في سورية دفاعاً عن الشعب السوري، والتصدي لعناصر حزب الله. وفي موازاة الانتشار السلفي التقليدي، يستند الباحث إلى تقرير حدّد المجموعات المتهمة في الارتباط بتنظيم «القاعدة»، وهي مجموعات تتبنى أيديولوجيا جهادية تكفيرية، وقد قسَّمها إلى أربعة أطر: الأولى، معروفة من قبل الأجهزة الأمنية اللبنانية، تضم على سبيل المثال لا الحصر، مجموعة السعودي ماجد الماجد، والفلسطيني زياد أبو النعاجح، المجموعات الثانية، تُعتبر امتداداً للمجموعات العسكريّة السلفية الناشطة في سورية؛ والثالثة، مجموعات عرسال، البلدة الحدوديّة اللبنانيّة في الشمال، وأخيراً الخلايا النائمة. في الختام يخلص، مزاحم إلى أن الوضع السلفي في لبنان يحتاج إلى إعادة تقويم سواء من العلماء السلفيين، أو من قبل الحكومة وأجهزتها الأمنية، داعياً ممثلي الطيف السلفي المعتدل إلى عدم الانجرار وراء الغرائز الشعبية الطائفية والمذهبية وتغليب خطاب الاعتدال والتسامح الإسلامي والابتعاد عن العنف والإرهاب.
ثم يتطرق الباحث المغربي في علم الاجتماع الديني، عبدالحكيم أبو اللوز، إلى الحركة السلفية في المغرب، ويصنفها في خمسة اتجاهات؛ الأول: تنطبق عليه محدِّدات الطائفة بالمعنى السوسيولوجي. الثاني: تطور نحو المنحى الراديكالي، متأثراً في الانشقاق الحاصل في المصادر المرجعية للدعوة السلفية بعد حرب الخليج الثانية. الثالث: حركات تخلت عن طابعها الطائفي من خلال تفاعلها مع السياق المحلي. أما الاتجاه الرابع: فيستلهم سلفيته من سلفية محمد رشيد رضا. وأخيراً: سلفية ناتجة عن انشقاقات في المؤسسات الدينية التقليدية. ويركز الكاتب في دراسته المعنونة «المغرب: السلفية بوصفها حركة اجتماعية» على تنظيم واحد، يُعتبر الأكثر شعبية وانتشاراً في المغرب، وهو «جمعية الدعوة إلى القرآن والسنّة» حيث يدرسها ضمن ثلاث زوايا: النشأة التاريخية، تحليل أنتروبولوجي لخطابها، الانتشار والتوزيع الجغرافي. يذهب الكاتب في ختام ورقته إلى أن السلفية في المغرب، هي نوع من الحركات الاجتماعية الدينية الوعظية، التي تتبنى فعلاً جماعياً، يسعى إلى تغيير القيم وتجديد الأخلاق، لكن أنماط عملها تبيّن حقيقة أخرى، فإلى جانب الدوافع المثالية التي تحرك هذه الحركات، فإن ثمة مصالح نفعية دنيوية، تعتبر الأساس المفسر لقدرتها على التعبئة الاجتماعية.
كما قارب الباحث السعودي منصور النقيدان، في مقاله «الإسلام السياسي والعنف ومستقبله في الخليج» فقه الجماعات الإسلامية التي تبنت منذ نشأتها العنف المسلح. هذه الجماعات التي تعتمد على تأويلات خاصة للنصوص الدينية (القرآن- الحديث)، ما أدى إلى تأسيس «الفكر الجهادي التكفيري»، مستعينة بتخريجات فقهية، كان لها ظرفها التاريخي وأتت استجابة لأوضاع مُضطربة مرّ بها المسلمون. يهدف الكاتب إلى تأكيد أن العنف الذي يشهده عصرنا الحديث مبني على «فقه جهادي محدث»، ولد من فراغ السلطة وانهيار الممالك الإسلامية، وجاء سقوط الخلافة العثمانية كي يمنحه تجذراً وعمقاً، ويُرسي له أرضية صلبة، بزغت نواته منذ منتصف القرن التاسع عشر، وأخذ يتشكل طوال العقود العشرة التي أعقبته، ولكن الفكر الجهادي لم يكتسب قُوَتُه الضاربة إلاّ على مشارف السبعينيات من القرن الماضي، حيث تأسس بكل تياراته على قاعدة سلفية عقدية «تكفيرية».
ويتناول الباحث الأردني محمد مصطفى في ورقته «هل خطفت السلفية المصرية بريق الوهابية ومركزيتها؟» آلية التحول التي شهدها التيار السلفي المنخرط في ثورة 25 يناير (كانون الثاني). فقد تباينت المواقف التي أطلقها سلفيو مصر إزاء الحدث الثوري بين معارض ومؤيد، وتمخض عن هذا السجال تأسيس أول حزب سياسي سلفي هو حزب النور، الذراع السياسي للدعوة السلفية، حيث تمكن في أول انتخابات من الحصول على نحو 23% من مقاعد مجلس الشعب 2011-2012.
لا تكمن أهمية الأفكار المطروحة في تعقب المتغيرات التي فرضها الضغط الثوري على بعض الاتجاهات السلفية فحسب، بل في محاولة الكاتب الإضاءة على الإشعاع السلفي المصري، الذي في رأيه خرج عن دائرة السلفية الوهابية، بما شكلته من حاضنة تاريخية للسلفيين المصريين. ويرى مصطفى «أن الربيع العربي أدى إلى تحولات بنيوية في ثوابت خطاب الإسلام الطُهوري السلفي ذو الأصول الدينية الوهابية في مصر، ممثلاً في الدرجة الأولى بالدعوة السلفية في الاسكندرية التي انطلقت منها شرارة التغيير والانقلاب على التاريخ نحو العمل السياسي، ومن ثم ظهرت محاولات سلفية في عدد من دول الإقليم للأخذ بالأنموذج السلفي المصري وإجراء مراجعات في النسق الفكري التاريخي للمصادر الفكرية الوهابية».
كما أجرت عضو هيئة التحرير في مركز المسبار الباحثة اللبنانية ريتا فرج، حواراً مع مؤسس التيار السلفي في لبنان داعي الإسلام الشهال، لأخذ رأيه حول قضايا عدة في مقدمها الموقف من النشاط السياسي السلفي، لا سيما في الحالة المصرية. إلى جانب هذه القضية الشائكة تحدث الشهال عن الأخطاء التي وقع فيها الإخوان المسلمون في مصر، حيث حدّدَها بثلاثة: التفرد بالحكم، وإدارة الظهر لأغلب المجتمع المصري، والتقارب والإنعطاف الخطر نحو إيران. «ثالوث الخطأ المدمر» بتوصيف الشهال هو الذي أسقط الجماعة «في هذه الهوة السحيقة»، بعدما غلَّبت أولويات التنظيم على أولويات الدولة. وأشار الداعية السلفي في حواره إلى رؤيته إزاء المراجعات النقدية لدى الإسلاميين، بهدف توضيح العلاقة بين الديني والسياسي، كما كشف عن رأيه حول الدولة المدنية وتولي المرأة والقبطي لرئاسة الدولة، محدداً عوامل دعم السلفيين في لبنان «للثورة السورية»، وموقفه من جبهة النصرة، أبرز تنظيم جهادي سني مقاتل في سورية. يعتبر الشهال أن علاقة تياره مع السعودية «الأب الحنون والأم الرؤوم» كانت دائمة طبيعية، وعمّا إذا كان يتلقى أي دعم منها قال: «إن المملكة تدعم الحكومات والجهات الرسمية ومؤسساتها قد تدعم مؤسسات قانونية بالطرق المشروعة في الجوانب التقليدية المعهودة مثل المساجد والمعاهد الدينية والخدمات الصحية والتعليمية الاجتماعية».
وعالج الباحث الأردني محمد العواودة، نشأة حماس وعوامل التأثير المصري والسوري والإيراني في الحركة. فاتحاً أمام القارئ أسئلة كثيرة، خصوصاً بعدما خسرت الحركة إثر ثورة 30 يونيو (حزيران) أهم حليف لها. وتأتي هذه الورقة البحثية وسط معطيات تدل على سعي حماس نحو إنهاء ملف خلافاتها مع التيار السلفي الجهادي، وعقد ما يشبه الهدنة معه، تتيح للأخير حرية أكبر في الحركة ونشاطها التدريبي والعسكري، في الوقت الذي ترجو فيه الحركة أن يساعدها ذلك، على تخفيف الضغط عنها، لا سيما بعد الخسارة التي منيت بها في مصر بإزاحة الإخوان المسلمين عن الحكم. فهل يعني ذلك أن حماس تستجيب للإخوانية المتسلفنة أم أنه ما زال أمامها رهانات أوسع؟
خصّص المركز لهذه العدد تقريراً عن الحالة الإسلامية في تركيا أكتوبر (تشرين الأول 2013) رصد فيه الأكاديمي المصري والباحث في الشؤون التركية طارق عبد الجليل، خمس قضايا أساسية كان لها موقع الصدارة في الصحف التركية في الفترة الأخيرة: رفع الحظر عن الحجاب، حزب العدالة والتنمية وتحول 30 يونيو (حزيران)، افتتاح متحف «بديع الزمان سعيد النورسي»، تأدية الرئيس التركي عبد الله غول فريضة الحج، وأخيراً ردود الفعل المعارضة التركية على تدشين مشروع «مرمراي» تزامناً مع العيد الوطني لتأسيس الجمهورية.
وأجرى عضو هيئة التحرير في مركز المسبار إبراهيم أمين نمر، قراءة لكتاب «السلفيون والربيع العربي: سؤال الدين والديمقراطية في السياسة العربية» لمؤلفه محمد أبو رمان،الذي يتحدث عن دخول السلفيين معترك العمل السياسي ويجيب عن إشكالياتٍ منها، ما هو موقفهم من الديمقراطية والدولة المدنية؟ وكيف ينظرون إلى الأقباط؟ وهل يستنسخ السلفيون تجربة الإخوان؟
في الختام يشكر مركز المسبار الباحثين الذين شاركوا في هذا الكتاب ويخص بالذكر الزميل عمر البشير الترابي الذي نسَّق العدد، ويتمنى أن تجدوا في سطوره شيئاً من بغيتكم.
رئـيـس المـركـز