(عرض)
توفّي البروفسور محمد أركون يوم 14 سبتمبر 2010، بعد عقود من العطاء الفكري صنفته ضمن الشخصيات الثقافية الأكثر شهرة في العالم العربي، والأكثر جدلا أيضا. كما حظي بمكانة مرموقة في بقية العالم الإسلامي وفي الجامعات الغربية. ومع أن أركون قد أدركته المنية في سن متقدمة، فإن وفاته مثلت مفاجأة كبرى لأسرته وأصدقائه، إذ تدهورت صحته بسرعة لم تكن متوقعة. وكان أركون يعمل أثناء المرض على مجموعة من النصوص لم يبلغ بها صيغتها النهائية، وما نقدمه هنا يمثل أحد هذه النصوص الأخيرة غير المكتملة، وقد بدأت قصتها كما يلي: كنت قد عرضت على أركون نصا كتبته في التعريف به ضمن دراسة عن مجموعة من المثقفين المعاصرين موجّهة إلى جمهور غربي، وطلبت منه إبداء الرأي، فأعلمني أنه غير موافق على بعض المسائل وطلب مني إمكانية تنقيحها، ولما كانت الغاية من نصي أن أعرّف به وبغيره من كبار المثقفين العرب المعاصرين فقد أجبته بأني لا أرى مانعا من ذلك، لكن أركون شرع يطيل المراجعات وتفتحت لديه شهية الكتابة بما لم أعهده منه، فقد كان دائما قليل الرغبة في مراجعة مساره الفكري من البداية إلى النهاية وتوضيح ما أشكل منه وما غمض فيه. ومضينا فترة نتجادل في المسائل المختلف فيها، واستقرّ الرأي في النهاية على أن نكتب نصين منفصلين، أحدهما يعرّف فيه أركون بكامل مساره الفكري، والثاني أقدّم فيه أنا قراءتي الشخصية لهذا المسار. وقد تجمع لدينا في هذه الأثناء هذا النص الطويل المعروض هنا والمكتوب بضمير الغائب، جزء منه محدود من صياغتي والجزء الأكبر من صياغة أركون. فدعوته ليقدم النص في محاضرة بمناسبة ندوة موضوعها «دور الجامعات ومراكز البحث في حوار الأديان» واستجاب إلى الدعوة وقدمت المحاضرة في تونس شهر أبريل 2010، وكان لقاؤه مؤثرا مع مجموعة من الباحثين الشبان، ومع أن علامات المرض والإعياء كانت بادية عليه، فقد تحدث إليهم أكثر من ساعة ليعرض مساره الفكري بحماسته المعروفة، وقمت بتدوين بعض المسائل الجديدة، واتفقنا في النهاية على أن نلتقي في باريس شهر سبتمبر، ويعيد أركون كتابة النص بضمير المتكلم مع تعديل ما ينبغي تعديله من النص، وأن أستقلّ بنص يحمل اسمي، ثم ننشر النصين في مؤلف واحد. ولما قصدت باريس شهر سبتمبر كانت الحالة الصحية للبروفيسور أركون قد تعقّدت فأرجأنا المشروع إلى فرصة قادمة، ثم جاءت وفاته المفاجئة بعض الشيء لتترك النص يتيما، مع أنه نص ثري وجدير بأن يعرض على القراء، وقد استغرق وقتا وجهدا من أركون، فلا أقل من أن أعرضه في شكله الخام لأنه من آخر ما كتب الراحل، وهو أطول نص يعرض فيه مساره الفكري من البداية إلى النهاية. لقد تركته على حاله باستثناء بعض المراجعات القليلة التي يقتضيها السياق، وقمت بتعريبه من الفرنسية ليبلغ جمهورا أكبر من قراء الفقيد والمهتمين بشؤون الفكر الإسلامي الحديث. وأرجو أن يسهم هذا النص في التعريف بأركون كما كان هو ينظر إلى فكره ودوره.
د. محمد الحدّاد
اقترح محمد أركون، أستاذ تاريخ الفكر الإسلامي في جامعة السوربون المرموقة، منذ 1976، تأسيس مبحث يدعى «الإسلاميات التطبيقيّة»، وأراده مختلفا اختلافا بيّنا عن «الإسلاميات الكلاسيكية» أو «الدراسات الإسلامية» (Islamic Studies) بالإنجليزية، أو «علم الإسلام» (Islamwissenchaft) بالألمانية. لقد كان للإسلاميات الكلاسيكية الفضل منذ القرن التاسع عشر في استعمال المنهج الفيلولوجي والتاريخي – النقدي لنشر النصوص القديمة ودراستها، وهي نصوص كانت قد أنتجت في إطار دولة الخلافة ذات الشكل الإمبراطوري في ثقافة ذات تعبير عربي واستلهام إسلامي. وبعد استقلال البلدان، أخذت المصنفة ضمن العالم الإسلامي، أخذت العلوم السياسية المشعل من الإسلاميات الكلاسيكية كي تستكشف «العالم الإسلامي» أو «الإسلام»، مع منح الأوليّة للأحداث والممارسات التي تتنزّل في الأمد المتوسط أو القصير، تاركة للمؤرخين مهمة دراسة التطورات على المدى الطويل. وقد استقرت زاوية النظر على الكلمة «إسلام» والصفتين «إسلامي» و«مسلم». وقد يتطرق الحديث أحيانا إلى المجتمعات، لكنّه يقلّل من أهمية الممارسات الميثو-أيديولوجية (mythoidéologiques) التي يقدم عليها الفاعلون الاجتماعيون (acteurs sociaux) -من الذين يطلق عليهم دائما لقب «مسلمين»- في تعاملهم مع التاريخ على المدى الطويل والمتوسط. وقد سعت الإسلاميات التطبيقية إلى إقحام قطيعة هدم فكري في العلاقة بالميثات-الأيديولوجيات التي ينشرها الفاعلون المعاصرون من أصحاب تاريخ شديد التعقيد ومطبوع بمآس إنسانية مبرمجة سياسيا في كل السياقات الموصوفة بالإسلامية. وسعت الإسلاميات التطبيقية إلى إقحام قطيعة من الصنف نفسه أيضا مع اختصاصي الإسلاميات الكلاسيكية والعلوم السياسية، وهما اختصاصان يجمعان البحث الغربي المتصل بكلمة «إسلام» التي تشمل لديهم كلّ شيء.
تتنزّل هذه القطيعة في المستويين المنهجي والمعرفي، فهي تتخلّى عن المقاربة السردية الوضعية الظرفية المتعالية وغير المبالية بالممارسات الخطابية ذات النزعة الاستلابية، والمعارف الخاطئة التي تنشرها وسائل الإعلام والخطب الرسمية التي تلقى بإشراف الأحزاب – الدول المحتكرة لممارسة العنف الشرعي في الفضاءات الاجتماعية، حيث يظل مؤشر الهويّة ومحرك الفعل التاريخي منحصرين في الإسلام المنظور إليه بصفة الإطلاق، ولا سيما لدى الأصوليين. وهي تستبدل تلك المقاربة بأخرى ذات طبيعة إناسية-تاريخية anthropo-historique في تعاملها مع اللّغات والمجتمعات والثقافات والعقائد والبناءات الاجتماعية للواقع. تقوم الإسلاميات التطبيقية بعكس وجهة استكشاف الزمنيات (Temporalités)، فتتخلّى عن أساطير الأصول والأزمنة المدشنة لتاريخ الخلاص، وهي العناصر التي تغذّي الرؤية المتراجعة للمصلحين الدينيين المتمسكين بالمصادر الثابتة للشريعة الإلهية. وتتحرّر الإسلاميات التطبيقية من البناءات العقائدية للأنظمة الإيمانية وغير الإيمانية، تلك التي تفرضها الخطابات اللاهوتية والعقائد الرسمية للدين القومي، فتعمل على إعادة قراءة التاريخ قراءة استرجاعية (à rebours) تكشف وتعيد إبراز الروابط الخيالية التي نسجها الدين القومي مع حقب ماضية، كانت قد تكيفت أيضا بآليات الإنتاج الاجتماعي نفسها. وتحظى القراءة الاسترجاعية بقيمة كبرى؛ فهي تتضمن وظيفة تحريرية للوعي والذاكرات الجماعية المستلبة تضاهي قيمة النزول بالتحليل النفسي إلى أعماق نفسيّة الذوات البشرية. فتصبح كل المجموعات الاجتماعية والتجمعات التمويلية المحكومة بتضامنات وهمية خاضعة لمعالجة سريريّة ولرقابة متقاطعة من أطباء مدربين على التشخيصات والمعالجات الضرورية.
بيد أن أركون لم يقطع مع المرحلة التي لا مناص منها، أي مرحلة التحليل الفيلولوجي والمنهج التاريخي-النقدي، فلا مناص من أن تشمل هذه المعالجات تقاليد ثقافية تجهل المكاسب الصلبة لهذه اللحظة الحاسمة في كل كتابة تاريخية. وقد أكّد أركون أهمية الجهود التي قام بها الباحثون والمثقفون «المسلمون» في الفترة المتراوحة بين 1830 و1950 لتبيئة الفيلولوجيا وممارسة ضرب من التاريخانية في الدراسات حول الشأن الإسلامي عامة، بيد أنّ مسيّري الأرتدوكسيات الدينية والسياسية قد مارسوا الرقابة الظلامية ضد المستشرقين الذين اتهموا بنية تحطيم الإسلام. ونأى أركون بنفسه عن النقد الموجّه ضد ما لم يعد يدعى اليوم بالاستشراق، إذ قد تغلب فيه التمجيد والأيديولوجيا على العلم. بيد أنه كان يتأسف لكون عملية توسيع اختصاصات المؤرخ والتي انطلقت مع بعث مدرسة الحوليات بفرنسا منذ 1930 لم تشدّ اهتمام عدد كبير من المتخصصين في الإسلاميات إلى حدّ السبعينيات، سواءً كانوا مسلمين أو غير مسلمين. وقد حرص على أن تنشر مجلة «أرابيكا» التي تولّى رئاسة تحريرها من سنة 1986 إلى 2008 تقديمات لمنشورات مهمّة، كي تبيّن الفارق كل مرّة بين البحث السردي الوصفي، وما يدعوه أركون الاستراتيجيا المعرفية للتدخل في كل الميادين المرتبطة بتوجيهات الشأن القرآني والشأن الإسلامي. وأقحم أركون تمييزا صارما بين كتابة الباحث-المفكر (chercheurs-penseur) والبحاثة المحايد الذي يترك وراءه حقل دمار بعد أن يكون قد أثبت بنجاح انتحال الشعر الجاهلي أو تطرق في بحث أكثر خطرا إلى المدونات العقدية.
لقد خصّص أركون في كتابه الصادر بعنوان «الأنسنة والإسلام» فصلا مطولا يتضمن استعادة وإضافة لما كان قد كتبه حول أستاذه كلود كاهين (Cl. Cahen)، صاحب الأعمال العلمية النموذجية، فعمل من خلال هذا الفصل على أن يقدّم مثالا واضحا للفارق بين ميدان التاريخ عامة، كما يمارسه المحترفون فيه، وقد كان كاهين أحد ممثليهم الكبار، والتاريخ التأملي للفكر في الفضاء الجغرا-تاريخي المتوسطي، مع الرغبة في تضمين مثال الفكر المعبّر عنه باللّغة العربية، باعتبار إضافاته الإيجابية ولحظاته التراجعية منذ القرنين الثالث عشر والرابع عشر. ويتضمن عنوان الفصل ثلاثة أفعال: انتهاك ونقل وتجاوز. إنها ثلاث عمليات ذات غايات معرفية تهيّئ لمنهجية متعدّدة الاختصاصات (شبكة مرنة من المناهج المطروحة للمراجعة المستمرة) ولإبستمولوجيا تاريخية متكيفة مع القطائع، وليس المقصود قطائع الأفكار والمذاهب فحسب، لكن المقصود بأكثر دقة تحقيب الإبستيمات للعلوم الدينية من جهة والعلوم العقلية من جهة أخرى، كما تعاقبت من الميتافيزيقا المتمركزة حول العقل إلى الفيلولوجيا التاريخية إلى التفكيك النقدي لأنظمة التفكير، وصولا إلى الأزمات العالمية المتتالية التي نعيشها منذ 11/9/2001 تحت الضغوط المتعاظمة للعقل الاقتصادي والفقاعات المالية والعقل الغائي-التقني-العلمي (raison télé-techno-scientfique)
من خلال العديد من المقالات المتناثرة والمحاضرات الملقاة في مختلف أرجاء العالم منذ الستينيات، لم يفتأ أركون يوسّع ويراجع حقولا بحثية كبرى ومتداخلة، إنها حقول الإسلاميات التطبيقية التي يرافقها باستمرار نقد العقل الإسلامي في معالجته للتاريخ، سواءً كان تاريخا عاما أم تاريخ التشريع أم التاريخ السياسي أم التاريخ اللاهوتي أم التاريخ الفلسفي، مع إدراج ما تراكم من «لا مفكر فيه» وما هو غير قابل للتفكير في كل من هذه الميادين منذ القرون الحادي عشر إلى الثالث عشر، وقد زاد هذا الوضع خطورة منذ 1945 عندما غزت الأيديولوجيات القومية التحريرية الحقل السياسي وإدارة المجتمعات، ثم غزتها الإعلانات التي ما فتئت تفشل في تحقيق الوحدات القومية. لقد حرص أركون على أن يؤكد في مناسبات كثيرة الضرورة التاريخية للنضال من أجل التحرير، وعندما كان طالبا شابا بالجزائر ثم بباريس بدأ يتساءل في خضم حرب الجزائر(1954-1962) عن المهام المتأكدة التي يتعيّن على الدول القومية الاضطلاع بها بعد تحصيل الاستقلال. وما هي المكاسب التي لا مناص من اقتباسها من الحداثة في كل ميادين الفعل التاريخي بعد الخروج من النظام الاستعماري؟ هل يتعيّن العمل على الإدماج في التاريخ العام مجتمعات وقع إضعافها بعد أن خضعت طويلا لأنظمة بالية ومسارات لا تنتج غير التخلف؟ وإلى حدّ الآن نلاحظ أن هذا التساؤل الحيوي لم يطرح بهذا الوضوح الفكري، كما لم يحصل التوقّع للانحراف الأيديولوجي الذي بدأ مع اللحظات الأولى للاستقلال من أندونيسيا إلى المغرب ومن القوقاز إلى جنوب أفريقيا.
لقد تفطّن أركون لمحورين في البحث وبادر بطرحهما وقد تضمنا الصدمات المستقبلية التي تلت التحرّر الوطني. ومثّل شمال أفريقيا ميدان معايناته وتحاليله، وكان ينتمي إلى مجموع الطلبة الذين كانوا منضوين في جمعية الطلبة المسلمين من شمال أفريقيا (Association des Etudiants Musulmans Nord Africains) وقد تحوّل مقر الجمعية إلى عنوان تاريخي: 115 جادة سانت ميشيل (باريس). ويحلو لأركون أن يذكّر أن شباب تلك الجمعية كان يتحاور بصراحة حول كل القضايا التي صودر القول فيها لاحقا، أو نسيت أو حذفت، إما بحميّة دينية أو باندفاع وطني، فلم يسمح بالتعبير إلا للبرامج السياسية التي اختارتها الأحزاب-الدول الوطنية. وتمثل التسمية في ذاتها شاهدا ذا دلالة، فقد كان يقال آنذاك «أفريقيا الشمالية» (Afrique du Nord) كما يقال جنوب أفريقيــا Afrique du) (Sud، ثم استعملت عبارة «المغرب الكبير»(Maghreb) لكن خاب الأمل في تحقيق الوحدة ضمن فضاء جغرا-تاريخي مشترك يظل سجين منافسات وانقسامات ترتبط بإرادات السيادة لدى الأحزاب-الدول أكثر من ارتباطها برغبات المجتمعات المدنية في طريق التكون، أو الشعوب التي تمجّد في الخطابات الرسمية وتهان في الممارسة السياسية.
لم يحدث أن طرحت مناقشات واسعة وعميقة ذات بعد تاريخي وجيوسياسي وثقافي ولساني حول التسميات المتعاقبة، التي أعطيت لفضاء جغرا-تاريخي شاسع من قبل الغزاة الذين تعاقبوا عليه منذ الفينيقيين والحروب البونيقية والرومان والفندال والعرب والأتراك العثمانيين وأخيرا فرنسا. وقد أطلق الرومان على السكان الأصليين لقب «البربر» وأخذه العرب عنهم، وطبعت لغة العرب وثقافتهم، ثم –خاصة- دينهم الجديد بصفة دائمة وعميقة تاريخ كل الذاكرات الجماعية إلى حدّ نسيان آثار اللّغات والثقافات السابقة أو تحويلها على رواسب. وهذا ما يفسّر لفظ المغرب الكبير Maghreb الذي احتفظ به لتسمية هذا الفضاء الجيوسياسي الذي يضمّ الدول الخمس الحالية: ليبيا وتونس والجزائر والمغرب وموريتانيا، وهي تنتمي جميعا إلى جامعة الدول العربية. يبقى أن «مغرب» يعني مكان الغروب إذا أتينا من المشرق. ولا تضيف الصفة «عربي» توضيحات حول الهويات المعقدة لهذا الفضاء الجغرا-تاريخي والأنثروبولوجي المعقّد. وقد فضّل الفرنسيون تسمية «إفريقيا الشمالية» لكنها كانت أيضا تسمية فضفاضة تتجاهل الهويات والمسارات التاريخية الحقيقية للمناطق والشعوب. ثم إن هذه التسمية تقصي مصر ولا ترشد حول «المقاومات الأفريقية للاحتلالات المتواصلة». وقد رسّخ ابن خلدون تسمية «بربر» من خلال عنوان كتابه في التاريخ، بيد أنّ غياب وثائق مكتوبة بأيدي ممثلي هذا الشعب معتمدة لغته الخاصة، جعلت ابن خلدون يتحدث عنهم بضمير الغائب، مثلما تعوّد على ذلك المحتلّون المتعاقبون الذين توافرت لهم لغات مكتوبة. ثم إن هناك العديد من البربر المستعربين الذين يتحدثون عن أنفسهم على أنّهم عرب اللسان ومسلمون لغياب وعي واضح لديهم بالرهانات المعرفية لكل كتابة تاريخية.
لا يقصد أركون بهذه التحاليل استعادةً أيديولوجيةً لهويّة معينة، بربرية كانت أم عربية، تتسبب في انشقاقات قومية في مجموع الفضاء المغاربي. بل إن أركون ندّد بقوّة بالتيهان الأيديولوجي للمطالبات البربرية المتطرفة التي تردّ الفعل على التشدّد السيادي للعروبة والإسلامويّة. فهذه الانحرافات تسيء إلى الاستعادة الموضوعية للواقع التاريخي والأنثروبولوجي استعادة تفسّر «اللامفكر فيه» (impensés) وغير القابل للتفكير (impensables) المتراكم في المجتمعات المغاربية بسبب جغرافيتها وجغرا-تاريخها اللتين لم تكتبا بالوسائل الجديدة للنقد، تلك الوسائل التي ينبغي أن تستعمل في الكتابات التاريخية التي تطغى عليها المعتقدات حول السير، وتستعمل اليوم بكثافة في التعريفات المفروضة من الدول-الأمم. إنّ السّير التي تغذّي التديّن الشعبوي وتبلغ «النخب» نفسها تؤثر تأثيرا كبيرا في المخيال المغاربي منذ أن انطلقت المزايدة المحاكاتية بين الأحزاب-الدول والمعارضات السياسية ذات الحساسية الدينية كي تستحوذ على الاحتكار للشرعية الإسلامية، التي تعلو على الشرعية الديمقراطية، المترددة إلى حدّ الآن. هنا يكمن الضعف الهيكلي الذي لم يقع تجاوزه طوال التاريخ الطويل للفضاء المغاربي.
إنّ اختيار دول ما بعد الاستعمار لتسمية المغرب الكبيرMaghreb قد ترتّب عليه قبول مجموع المفكر فيه وغير القابل للتفكير والتراجعات والتفقير وكل ما ارتبط بالمسار التاريخي للفكر والثقافة واللّغة العربية ذاتها. وما زلنا نتحدث إلى اليوم عن خيبات التعريب المتسرّع الذي استعمل في غايات أيديولوجية، بل دماغوجية أحيانا، بدل أن يكون التعريب برنامجا علميّا يتعهده لسانيون ومؤرخون وأساتذة وخبراء من ذوي التكوين الجيّد. ولقد تميّز الفقيد مصطفى لشرف في الجزائر، عندما طرح في السبعينيات نقاشا واسعا وذكيا حول المشكلات العسيرة التي يطرحها تأهيل اللّغة العربية، خاصة في تعليم علوم الإنسان والمجتمع. صحيح أن الدول قد قيّدت انتشار هذه العلوم والفلسفة بتسريع تعريبها. وقد ظلّت العلاقة بين اللّغة العربية والفكر الإسلامي وسياسة اللّغة والمعرفة العلمية، ولا تزال، في محاور رئيسة في برامج البحث والتعليم كما أطلقتها الإسلاميات التطبيقية ونقد العقل الإسلامي. ومع الأسف فإن الباحثين الغربيين في الإسلاميات والحضارة العربية، لم يندمجوا في هذين الورشتين ولم يعتبروهما ذات أولوية، معتقدين أنهما من اختصاص الدول والمواطنين في العالم العربي والإسلامي. بيد أن هذه الدول وهؤلاء المواطنين قد فضلوا توجيه جهودهم نحو أسلمة الهويات القومية بإعادة تفعيل المعجم العربي للمدونات القديمة للإيمان بعد إعادة النظر فيها، وإضعافها وقصرها على الإسلام الطرقي والشعبي، ثم خضع هذا الإسلام ذاته إلى المراقبة والانتشار العالمي في صيغة وهابية لدى السنة، وخمينية لدى الشيعة. وهكذا ذهبت اللّغة العربية والفكر النقدي ضحية الإسلام الأصولي.
تطارد الإسلاميات التطبيقية التيهان المأساوي للأيديولوجيا المتألهة، التي تنتهي بالتهام الذين وضعوها وغذوها وفرضوها على شعوب لم يتم مشاورتها، وقد علمتها الخطابات النبوية التوحيدية أن ترفض الآلهة المزيفة. وقد شهدنا بعد الاستقلال بعض الدول تساند مقاومة الطرقية وتسعى إلى الخروج من الإسلام الطرقي، وإلى تشجيع إسلام متضامن مع التاريخ الحديث، بيد أن هذه الدول نفسها أصبحت تسعى اليوم بحماس إلى إحياء ذلك الإسلام الطرقي بعد أن فقد شعبيته؛ لأن هذه الشعبية كانت جزءا من الثقافات الريفية والرعوية، وقد تحوّلت اليوم إلى شعبويّة. فتأميم الأراضي خاصة في مصر الناصرية والجزائر على عهد بومدين قد اجتث ثقافات عريقة وحطمها، وتضررت الأراضي والأدمغة في الآن ذاته، ووجدت الأجيال الجديدة نفسها مضطرة للعيش في الأحياء القصديرية على هوامش المراكز الحضرية. وقد أصبح كل المهمشين القاعدة الاجتماعية للإسلام الأصولي، وأعان على ذلك العامل الديموغرافي وطريقة تدريس التاريخ في المدارس. كما وجد الإسلام ضالته لدى فئة أخرى تكشف الطابع المتسرع والاعتباطي للسياسات التعليمية، وهي فئة طلبة العلوم المدعوّة بالصحيحة أو الصلبة، فمن بين المستهلكين الكبار للأدوات الإعلامية تخرّج المناضلون المتحمسون للأصولية الملتبسة بسبب الاختلاط بين الدين والأيديولوجيا في الأدمغة المعدّة للنجاعة التقنية والخاوية من كل حسّ نقدي، ومن ملكات التمييز والمعرفة التأملية.
من المفيد أن نذكّر هنا بأن الصدام بين العقل الفلسفي والعقل الغائي–التقني-العلمي قد استورد من الجامعات الغربية التي تمنح المصادقة والتأهيل في العالم كله بشأن للمعرفة العلمية والهندسة وإدارة الموارد البشرية. ولا تدرّس الفلسفة في العديد من البلدان، وكانت الفلسفة في التقليد الإسلامي قد شهدت تطوّرا على النمط الإغريقي وباللّغة العربية بين القرنين الثامن والثاني عشر، وبدأ البعض يعتبرها دخيلة على العلوم الدينية منذ القرن التاسع. وبعد استقلال الدول المغاربية أصبح تدريس الفلسفة، وقد أقحم عبر النظام الفرنسي، هدفا لدعاة الأسلمة الراديكالية للأفكار. وفي هذا السياق الأيديولوجي تأكدت الآثار السلبية للاحتكار الذي منح للعقل الغائي-العلمي-التقني (télétechnoscientifique)، وبلغت الحالة حدّا من الاستلاب الذهني جعل العقول غير قادرة على التفكير في المسائل الأكثر بساطة، مثل الدولة والشرعية والقانون والمنظومة الأخلاقية، والتاريخ بصفته وعيا بالروابط الحقيقية بالماضي، والدين بصفته بناء اجتماعيا للعقائد والمخيالات الاجتماعية… إلخ.
نرى كيف عمل أركون على التفكيك المتأني للإبستمي المتضمن في البرامج السياسية وخطابات دول ما بعد الاستعمار، كي يخلّص تاريخ الشعوب، ويخلّص الدين والسياسة واللغة والثقافة والفكر النقدي من السيطرة الشمولية للأيديولوجيا المتألهة. وكيف أنه عيّن الآليات التي سمحت للدول بأن تجعل شعوبها تشاركها المصادرات الإبستيمية التي تحوّل الأيديولوجيا المتألهة إلى إسلام أصيل موحّد ومخلّص في العالمين. وقد نشر هذا التحوّل بصخب في العالم كلّه وأصبح من تحصيل الحاصل حتى إن الرئيس أوباما في خطابه بالقاهرة قد كرّس وجوده بين الأمم المعاصرة!(1).
لقد سعى أركون إلى تجاوز كل المعارك الأيديولوجية حول الهويات اللّغوية والدينية والقومية، وفتح مجالات جديدة لم تكن مطروحة للبحث أمام التاريخ المحرّر لمجتمعات مثل المجتمعات المغاربية، التي تحمّلت وراثة فكر ذي تعبير عربي في حدود الرؤية والتأويل والمعرفة والسلوك الشخصي، التي ضبطها الإله في كلامه المنزّل والحديث النبوي وأعمال الجماعات المؤوّلة. وهنا مداخل هذه المجالات:
كيف تعمل في كل مجتمع إنساني جدلية القوى (puissances) والرواسب (residus) بين العناصر الدائمة التي تتمثّل في 1- كل تشكّل لجهاز الدولة. 2- اللّغة المكتوبة. 3- الثقافة العالمة التي أنتجت في هذه اللغة. 4- الأرتدوكسية العقديّة (الدين والدولة أو الدين المفصول عن الدولة في الفترة الحديثة). تتفاعل هذه العناصر الأربعة في الفضاء الاجتماعي الشامل، وتتعارض مع أربعة عناصر أخرى تدعوها الثقافة العالمة ذات اللّغة الرسمية : 1- البنى المجزأة (العشائر والقبائل والجماعات) التي تفتقد مركزا سياسيا. 2- المشافهة (مجتمعات بدون كتابة). 3- الثقافات والتقاليد الشعبية/الشعبويّة. 4- البدع (وهي تمثل في نظر الأنثروبولوجي وجوها من الدين).(2).
إن فكّ رموز القوى العاملة جدليّا في كل فضاء اجتماعي شامل يمكّن من الانتهاك (transgresser) والنقل (déplacer) والتجاوز (dépasser) في حركة هدم واحدة موضوعها المعارك المختزلة حول الهويات والاختلافات والحدود وإرادات السيادة للدول الدينية أو الدول القومية. لدينا إلى حدّ الآن أمثلة من الانتهاك والنقل والتجاوز، ففي الولايات المتحدة تدير الحكومة الفيدرالية سيادات الولايات، وفي مرحلة أقرب زمنيا شيّد الاتحاد الأوروبي فضاء مفتوحا للمواطنة وللسيادة عبر القوميات، يتعالى على دعاة السيادة للدول –القوميات القديمة. ويتطلب تطوّر الفضاء المغاربي في هذا الاتجاه أن يجتاز المراحل التي اجتازتها أمريكا الشمالية وأوروبا، لاسيما استقلالية السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية، وفصل المؤسسة الدينية عن السلطة الروحية والمؤسسة الحكومية عن السلطة السياسية. ويعني هذا أيضا ضرورة إعادة التفكير في مفهومي الشرعية والقانونية في إطار قانون دستوري دولي وخاص متحرّر من المصادرات اللاهوتية للشرع الإلهي والقوانين الإلهية. هنا تكمن المهام الأولى التي وضعها أركون للإسلاميات التطبيقية ولنقد العقل الإسلامي.
محاور تعميمية وتكرار «الوهم الأكبر»
سعت الاستراتيجيا المعرفية لأركون إلى أن تمنح الأولوية دائما لبرامج البحث والمحاور ذات المنحى التعميمي، بدل البقاء في مناقشات محلية محدودة ومتصلة بفضاءات وأزمنة ظرفية، مثل العلامات الدينية المستعملة تحديا سجاليّا مناهضا لتشدّد علمانية جمهورية مختصة بالفضاء والزمن في المسار التاريخي لفرنسا في عصر ما بعد الثورة (المعرب: يشير أركون إلى موقفه المناهض لطرد الفتيات المحجبات من المدارس، وقد ترتبت عليه حملة قاسية ضده، تزعمها بعض زملائه من الجامعيين والمثقفين). فعندما اهتم بمعالجة الوضع المعرفي للخطاب القرآني كان يقصد العمل من جديد على المفهوم والوضع اللساني للخطاب النبوي، كما يعبّر عن نفسه من خلال القصص التوراتي والإنجيلي، وكما استعاده الاستعمال القرآني باللّغة العربية. بذلك يمكن انتهاك الحدود اللاهوتية الدغمائية التي تحدّدت في التقاليد الثلاثة لتأويل الوحي في إطار صارم من ادعاء كل مجموعة أنّها تمثل الدين الحقّ. ودفعته هذه الاستراتيجيا المعرفية ذاتها إلى تحديد الاستعمالات الميثايديولوجية للكتابات التاريخية التمجيدية تحت إشراف الدول-القوميات، وهي استراتيجيا تسمح بانتشار المنهج التاريخي-النقدي.
يترتب على هذه النظرة رفض صفة الكونية عندما يُطلقها كل دين من دون دقة، وبمعنى أنه يمثل وحده الديانة الحق، مبالغا في الإسقاطات غير التاريخية على اللّحظات المؤسسة وتحميلها مفاهيم ومبتدعات من العصر الحديث، مثل التسامح والقيم الديمقراطية والمساواة بين المواطنين ومناهضة العنصرية والحقائق الدينية والكونية… إلخ. تحتفظ محاور الفكر النقدي بالغاية ذات النزعة التعميمية التي تطرحها افتراضات مساعدة على الكشف في كل بحث. ويقدّم فلاسفة الارتياب(philosophes du soupçon) في هذا المجال نموذجا حاسما، وهم: ماركس ونيتشه وفرويد. هؤلاء حوّلوا مجالات غير معروفة إلى محاور بحث بعد أن أغلق التفكير فيها أصحاب العقائد الأيديولوجية، بيد أنها مجالات تظل مفتوحة بفضل مبدأ الارتياب (principe du soupçon) الذي يعتمده العقل باتجاه إنتاجه نفسه، بما في ذلك المنظومات المنطقية والنظريات الأكثر تجانسا واستمرارا. وقد كان مسار فرويد تجاه ما دعاه بـ«الوهم الأكبر» (La grande illusion) مسارا ذا قيمة خاصة في استكشاف أصول الشأن الديني ووظائفه، منطلقا من تساؤلات نشأت عند المراقبة الإكلينيكية لعمل النفس الإنسانية. لقد انطلق من الأديان البدائية في كتابه «الطوطم والتابو» (Totem et Tabou) المخصص للمحرمات الأولى والإحيائيــة ليصــل إلى «مستقبل وهم» (l’avenir d’une illusion) و«قلق في الثقــافة» (Malaise dans la culture) و«موسى والديانة التوحيدية» (Moïse et la religion monothéiste). لم تفتأ هذه المؤلفات تستدعي إعادة القراءة ومزيد التعليق، وقد زادت أهميتها منذ أن عادت من جديد وبصخب الجوانب المهجورة من العقائد الدينية منذ 11/9/2001. بيد أنّ قارات المعرفة التي فتحتها فلسفات الارتياب حول الإنسان تظلّ اللامفكر فيه الأكبر في كل الخطابات المعاصرة حول كلمات شديدة العمومية مثل الإسلام، بما في ذلك خطابات الجزء الأكبر من الباحثين من مختلف الانتماءات المليّة والثقافية.
تتمثل إحدى نقاط القوّة في التدخّل المجدّد لفرويد، وقبله سبينوزا، في جمعه الناجح بين المساءلات الإكلينيكية مع التراث المشهور للتقليد اليهودي للشرح، وهو تقليد يتمسّك في الآن ذاته بحرفية النص المقدس وحرية تأويله. لقد رفض فرويد العقلانية الوضعانية التي كانـت سائدة حـول الموضـوع الدينـي زمن التاريخـوية الموضـوعانية (historicisme objectiviste) وفرض المعالجة المعمقة للقوة التي تحظى بها الأفكار الدينية. ولا تعني كلمة «وهم» لدى فرويد أنّ الدين خطأ، وإنما تشير إلى مجال تعبيرات غريزية متصلة بقوّة منطقية للرغبة يغيب عنها كل منطق للحقيقة. يرى أركون أنه قريب من هذا المسار عندما يتحدث عن الميث-تاريخ (mythohistoire) في بناء العقيدة في ظل ثقافة تطغى عليها العجائبية وما فوق الطبيعة والفضاء-الزمان المقدّس والمقدّس والميثا-أيديولوجيا، فهي تنتج كلها فقاعات ضخمة من التمثلات الخيالية التي تصنّف على أنها دينية؛ كي تخفف من المخاوف الجديدة ومن خيبات الحياة البائسة في أنظمة اجتماعية-اقتصادية قائمة على الإقصاء والانبتات والخيبة. وفي هذا الإطار نفسه السائد في المجتمعات المتراجعة يرصد أركون معالم وبوادر ما يدعوه «العقل المـنبثق» (raison émergente) وهي تشبه ما كان قد ذهب إليه أساتذة الارتياب في عهد البورجوازية الغازية والخطوات الأولى للمجتمع الصناعي في أوروبا.
يتمتع أركون بعدد كبير نسبيا من القراء لمنشوراته المعربة، وينقسم هؤلاء القراء إلى طائفتين: طائفة الذين يتقنون إلى جانب اللغة العربية زادا يمكنهم من مطالعة المنشورات العلمية باللغات الأوروبية، وطائفة الذين لا يقرؤون إلا باللّغة العربية. إنّ غياب معاجم عربية متخصصة في علوم الإنسان والمجتمع يجعل نصوص أركون عسيرة الفهم. ويشكو الكثيرون من ذلك ويرمون بالمسؤولية على الكاتب وحده، مع أنّ الأمر يتعلق بتأخّر تاريخي متراكم للفكر العربي في مجال الاستعمالات العلمية. وليس هنا المكان المناسب لعرض النشأة التاريخية واللسانية لهذا الوضع. ويضاف إلى العائق اللغوي ثقل العربية المستعملة في وسائل الإعلام والاستعمالات الأيديولوجية المحافظة للمعجم السياسي-الديني. وكثيرا ما يسهم الخطاب التعليمي المدرسي نفسه في تضخيم العوائق بدل التقليص منها. وقد كان أركون واعيا بهذه المعطيات الاجتماعية الثقافية السائدة وبهذه العراقيل، فقدّم خطاطة لقائمة مصطلحية في ترجمة كتابه الأخير «الأنسنة والإسلام» تقابل بين المصطلحات الفرنسية والعربية التي يستعملها. ولئن كانت هذه الخطوة مطلوبة، فإنه لن يتوافر لها النجاح إلا إذا تلتها خطوات مماثلة من باحثين آخرين وفرق بحث تسهم في صياغة معجم تاريخي كبير للغة العربية.
لا بدّ أن نذكر سببا هيكليا آخر يقف وراء رفض كل مقاربة نقدية للتراث الإسلامي من جهة كونه منظومة للعقائد واللاعقائد ذات سلطة تقديسية ضخمة. هناك مفارقة ظاهريّة تجعل مجموع المجتمعات المرتبطة بالشأن الإسلامي، تعود إلى ممارسات طقوسية دينية وسلفية معرفية في فترة تشهد تسارع وتيرة التاريخ والثورات العلمية في مستوى عالمي. ففي حين يتجه العالم نحو رفع القداسة ويكثّف مسارات الخروج عن العالم المسكون(désenchantement) والخروج عن الرؤى الدينية للعالم وللتاريخ، فإن ما يدعى على سبيل التعميم «العالم الإسلامي» يكثّف سيره المتراجع نحو قوى تقديسية تمتدّ إلى المجالات الدنيوية. إن مفردات الثورة المدعوّة بالإسلامية في إيران مع الخميني قد أقحمت لغة قرآنية ورموزا إسلامية لاستعادة سلطة إمامية متخيلة للشرعية السياسية. وفي الإسلام السنّي تشتدّ المراقبة الوهابية للعقيدة والممارسات الطقوسية الإسلامية في كل أنحاء العالم، إلى حدّ بعث شرارة الفتنة الكبرى مجدّدا في شكل سياسي، وبعث الانقسام الأكبر بين تعبيرين عن شرعية الحكم الإسلامي لا يلتقيان. ثم أتى السعودي الثري ابن لادن كي يعقّد انتصار العنف القائم على النزوات داخل الإسلام وفي إطار الاستقطاب الأيديولوجي المذهبي للإسلام الذي يقابل ماك-ورلد (islam versus McWorld) ، حسب الاستعارة القوية التي استعملها بنيامين باربر في كتابه «جهاد مقابل ماك-ورلد»(Djihâd versus McWorld). إنّ المحورة الجيوسياسية لنزاع اندلع إثر انهيار العالم السوفييتي، وما زال مستغلا بإفراط في مختلف أنواع التلاعب بالرهانات التاريخية الحقيقية، قد حجب ما يدعوه أركون بحق «تكرار الخيبة الكبرى». لقد رفض استعمال عبارة «عودة الديني» لأن الدين يتغير ويمكن أن يوظفه البشر، ويمكن أن يشهد التراجع والخيبة في بعض الفترات التاريخية، إلا أن الدين باق أبدا في أشكال شتى طالما تواصل الإنتاج التاريخي للوضع البشري داخل المثلث الأنثروبولوجي: عنف ومقدس وحقيقة.
على هذا الأساس وبسبب اعتبارات كثيرة غيره، دخل أركون في نقاش مع بول ريكور وإيمانويل ليفناس ومارسيل غوشه ورينيه جيرار ومؤرخين آخرين يبحثون في مجال الأنثروبولوجيا السياسية والدينية. وانطلاقا من مثال الإسلام، وهو مثال مجهول تماما لدى هؤلاء المفكرين، أو مذكور لديهم بسطحية شديدة، سعى أركون إلى أشكلة وتعقيد مفهوم المسيحية ديانة وحيدة لخروج أوروبا من الدين حسب مرسيل غوشه، أو المفهوم الذي طرحه رينيه جيرار حول الكاثوليكية التي قد تكون وضعت حدّا للعنف في علاقته بالمقدس باقتراح مخرج حبّ القريب، وكان فرويد قد حلّل سابقا هذا الاقتراح واعتبره موقفا يؤدي إلى طريق مسدودة في مستوى التاريخ الفعلي للبشر ضمن المجتمع. وبخوضه كلّ هذه المنافسات حقّق أركون هدفين مزدوجين؛ إذ لفت انتباه المنظرين الغربيين للنموذج الإسلامي، بعد أن كانوا يقتصرون في الغالب على المثال اليهودي-المسيحي، كما دفع المسلمين المصنفين ضمن دائرة الاعتدال -وأولى المسلمين الأصوليين- إلى الخروج من عزلتهم المتكبرة وحنينهم القديم وطرقهم الرثة في المجاهرة بالعقيدة، ودعواهم الحالية أسلمة الحداثة، بدل الاستفادة من المكاسب العلمية للحداثة النقدية، وهي مكاسب لا مناص منها.
هكذا يبسط أركون ويعمّق شيئا فشيئا برنامجا شاملا تتعاضد فيه المعرفة النقدية والعمل التاريخي من دون أن تتفارقا. ويكشف البعد البسيط والمنتهى لما يدعوه حرّاس الإسلام «الصحيح» و«المنقذ» بأسماء تتغيّر حسب السياقات التاريخية مثل «إصلاح» و«صحوة» و«ثورة». إن الاعتماد المتواصل للمنهج الاسترجاعي-المتدرج [méthode régressive-progressive] يمكّن من استعادة التطور التاريخي للانسدادات العقائدية، ولتنامي الفقاعة الميث-أيديولوجية لإسلام وهمي مقطوع عن التاريخ وعلم الاجتماع، وعن كلّ تحليل نقدي للخطابات المحرفة للتاريخ الذي عاشته المجتمعات، وهي تردّد بطريقة شعائرية نصوصا «مقدسة» منفصلة تماما عن سياقاتها. وينبغي أن نذكّر بأن أركون قد انطلق من بحث تاريخي عن أنسنة ذات تعبير عربي ظهرت في القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي، وتمثل هذه اللحظة قمة تاريخ الأفكار في السياقات الإسلامية، فالعلوم الدينية والعلوم العقلية تمكنت من أن تعيش أزمات تعليمية انتهت إلى مبادلات خصبة، بدل أن يقصي بعضها البعض. وقد عاد إلى موضوع الأنسنة في كتابه الثاني ليؤكد -بصفة المؤرخ المترصّد للانحرافات الأيديولوجية والتمجيدية دائما- كيف انطلق مع انهيار الخلافة ببغداد سنة 1258 مسار تحوّل الإسلام إلى إعلانات شعبية للعقيدة توزّع في المساجد والمدارس الدينية، وقد تغلبت هذه الإعلانات تدريجيا على المجهود الفكري والموقف الإنسي كما جسده بنجاح جيل مسكويه وأبي حيان التوحيدي، وقد لقيت تلك الأزمات التعليمية نفسها صدى في الأندلس وباللّغة العربية دائما وقابلت ما كان يحدث في المدن البويهية: بغداد والريّ وشيراز وأصفهان.
من هذه القمة التاريخية لم يفتأ أركون يراقب تطورات الفكر العربي في مساريه الكلاسيكي والسكولائي: فمن جهة، الازدهار المبدع وإرادة المعرفة والتعددية الفكرية ودوائر العلم والمواجهة بين الشخصيات المرموقة (المناظرة ذات العلاقة بشبيهتها في أوروبا اللاتينية والمسيحية) والاندماج بين علوم النقل وعلوم العقل، كما يبرز من خلال مؤلفات التوحيدي، ومن جهة أخرى المسار المتواصل حتى النصف الثاني من القرن العشرين، مع الفاصل المتواضع والسريع للنهضة (1830-1940). فالمؤرخ مضطر أن يغيّر نظرته ومنهجه، فبعد المصاحبة المفيدة للمفكرين الكبار والكتاب والشعراء وعلماء اللسانيات والنحويين والفيلولوجيين وعلماء المعجمية والمفسرين واللاهوتيين والفلاسفة المجددين والمختصين في الجغرافيا والإثنولوجيا والمؤرخين والرياضيين والأطباء والتعدّد المبدع… يقع الانتقال إلى علم اجتماع النسيان والانتخاب والتكفير والخيبات والرفض. ففي أحسن الحالات نجد منتخبات تجمع مدونات تلخص المعارف المنثورة في الكتب الكلاسيكية. بيد أن علم الاجتماع التاريخي لا يمكن أن يكتفي بعرض المعاينات، بل ينبغي أن يحدّد الآليات السوسيو-سياسية والاقتصادية والثقافية واللسانية والأنثروبولوجية التي تسمح بتنامي إسلام شعبي اتخذ شكل الهيئات الطرقية التي تعهدت بالإدارة الاجتماعية والسياسية للمناطق التي يطغى فيها الريفيون والرحل من الذين لا يستعملون لغات مكتوبة، ولا يتواصلون مع مراكز سياسية بعيدة، ويعتمدون اقتصاد الكفاف، ومبادلات ثقافية لا تتجاوز المضامين المتباينة للذاكرات الجماعية. وقد تقلص المعتقد الإسلامي في ترديد الآليات والأحاديث التي تنتقى وتفسّر بصفة سطحية باستعمال اللهجات المحلية من قبل شيوخ الطرق. أما في الأوساط الحضرية القريبة من المراكز السياسية فقد تقلصت اللغة المكتوبة بدورها إلى حفظ المختصرات في النحو أو الفقه، حيث لا يذكر إلا اسم مؤسس المذهب السائد في كل فضاء جيوسياسي لدار الإسلام.
هذا هو إسلام المدارس والزوايا الجهوية الذي تسعى النظم السياسية اليوم إلى إعادة تفعيله بوسائل ضخمة، معتبرة إياه إسلاما معتدلا ومسالما، ومعارضة به الإسلام الجذري الذي يرفض كل تسرّب «لائيكي» أو علماني في الشرع الإلهي. إلاّ أنّ الحالتين تشتركان في رفض علوم الإنسان والمجتمع، فنبقى في وضع الجهل بما عرضته بإيجاز وذكّرت به من مسارات إلغاء للعلوم العقلية وللموقف الإنسوي، لا لصالح العلوم الدينية في العصر الكلاسيكي، بل لفائدة إسلام خضع لعمليات تدمير متواصلة منذ القرنين الثالث عشر والرابع عشر.
ندرك حينئذ العمل الهائل الذي تحدّده الإسلاميات التطبيقية، وتلتزم به عندما تقوم بتبجيل التاريخ وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا لمراجعة الأصول الممجدة والمطمئنة. فسواء عمل أركون على فتح مسالك جديدة لتفحص السياقات التاريخية لكل قراءة للخطاب القرآني بعد أن أصبح نصّا وعرض في المصحف، وقد اقترح له تسمية «المدونة الرسيمة المغلقة»، أو عمل على تحليل هيئات حضور الثقافة العربية في الغرب الإسلامي(5) أو أيضا الاستقطاب الأيديولوجي بين «الإسلام الجذري» وأوروبا والغرب في العهد ما بعد الاستعماري، أو المحصّلة النقدية للحوار الأوروبي-العربي أو الحوار بين الأديان أو المغرب الكبير أو المثاقفة… إلخ، فإن أركون يصرّ على التقيّد بدرس بروديل: إن الأنثروبولوجيا التاريخية لا يمكن أن تمارس بطريقة ثرية ومضيئة إلا إذا وضعنا تحت الرؤية التحليلية نفسها الروابط المنسوجة بين الأمد القصير والمتوسط والشديد الطول، فهذه الروابط لا تتمتّع بوظائفها الهيكلية الحقيقية في التاريخ المعيش في كل مكان من كوكبنا الأرضي المشترك بيننا إلا إذا تخلصنا من الدراسة المونغرافية الشاملة المنحصرة في زمنية محدّدة أو مكان أو أثر أو شخصية رمزية، وقبلنا الذهاب والإياب المتواصلين بين الآماد الثلاثة للزمن المعيش.
والواقع أن المسار التاريخي الطويل للشأن الإسلامي يؤكد الضرورة الإبستمولوجية والمنهجية للطريقة التراجعية-التدريجية. ففي مقابل التواصلات الزمنية التاريخية لمسارات أوروبا المسيحية ثم الحديثة، نجد التقاطعات والتراجعات والحركات العكسية لمسارات المجتمعات التي عمل فيها الشأن القرآني والشأن الإسلامي. فقد عاش الإسلام «أنواره» في الفترة المصنفة في أوروبا بالعصر القديم المتأخر ومطلع العصر الوسيط. وكما سبق أن ذكرنا، فقد بدأت مسارات التراجع الفكري والثقافي والاقتصادي منذ القرنين الثالث عشر والرابع عشر، ومن المفارقة أن هذه التراجعات قد تكثفت مع ظهور الحركات السياسة –الدينية الأصولية.
الوسيط الفكري والثقافي والعلمي
نرى –إذن- أن أركون ينقل القضايا القديمة والجديدة إلى ميدان المناهج والمفهوميات والإشكاليات، وإلى ما يدعوه الإبستمولوجيا التاريخية. ولا بدّ أن نذكّر بأنّه قد بدأ طرح مشروعه في فترة كانت تشهد مخاضا منهجيا ومعرفيا. وقد سعى أركون إلى أن يضع خط الفصل لا بين المسلمين وغير المسلمين، وإنما بين مستعملي المناهج التقليدية والذين يقبلون باستمرار توسيع دوائر البحث وطرق توزيع قضاياه وحفريات المعارف وتفكيك الابتسامات وأنظمة الفكر خارج إطار التاريخ الخطي والسردي للأفكار والمذاهب، فيستوى لديه أن يكون هؤلاء مسلمين أو غير مسلمين. فالهدف النهائي يصبح تحويل الاستراتيجيات المعرفية المطبقة على اليهو-مسيحية والمجتمعات الأوروبية منذ القرن السادس عشر الميلادي إلى الميدان الواسع للشأن القرآني والشأن الإسلامي. وهذا ما يدعوه أركون «الوساطة النقدية» الضرورية في الآن ذاته للممارسات العلمية والثقافية المحوّلة، وللسياقات الإسلامية للتقبل أو الرفض. وتتطلب هذه الوساطة اتخاذ مسالك دقيقة للتحليل والتعليمية لتبيئة أدوات التفكير في لغات ومجتمعات أضعفها الزحف الثقيل لليمثا-تاريخيات المقتبسة من التراث الإسلامي وللميثا-أيديولوجيات المتضمنة في الخطابات القوموية للنضال.
كان لا بدّ حينئذ من التخلص من إمبريالية الأكادموية التاريخاوية والوضعانية، كي تعاد قراءة كل المدونات الكلاسيكية لمختلف المنظومات الإيمانية وغير الإيمانية قراءة تتجاوز الحدود اللاهوتية المسطورة في أدبيات البدع بين من دعتهم تلك الأدبيات بالنحل والفرق الضالة والفرق الخارجة عن الجماعة التي أعلنت نفسها الممثلة للعقيدة السويّة. فلا بدّ أن تخضع كل النصوص المتصلة بطريقة أو أخرى بالشأن القرآني أو الشأن الإسلامي إلى قراءات جديدة تؤكد اختلافها مع الإدارات الأرتدوكسية للتراث والتقليد والتأويلات المختزلة والوضعانية للممارسة الصلبة للتاريخية-النقدية (l’historico-criticisme). هكذا فرض أركون نفسه بين السنوات 1960-1992 في باريس وفي كل البلدان التي كثيرا ما حاضر فيها، فرض نفسه فاعلا ومبلّغا للمجادلات الصاخبة حول أعـمال كلود لـيفي ستروس (Cl. Lévi strauss وكلـيفورد غيرتز (C.Geertz) وروجيه باستيد (R. Bastide) وبيار بورديو (P.Bourdien) وبيتر براون (P. Brown) وبيار نورا(P. Nora) وجاك لوغوف (J. LeGoof) وإتيان جيلسون (E. Gilson) وبيتر برغر (P. Berger) وغريماس (Greimes) ومارتينيه (Martinet) وشومسكي (Chomsky) وبارت(Barthes) ولاكان (Lacan) وفوكو (Faucault) وبول ريكور (P. Ricoeur) وبصفة عامة كل المؤسّسين والمنشطين الكبار لمدرسة الحوليات التي أصبحت تدعى مدرسة الدراسات في العلوم الاجتماعية(Ecole des Etudes en Sciences Sociales). لم يقيد أركون نفسه قطّ بمدرسة فكرية معينة، مع أنه يتهم أحيانا بالانتماء إلى النبوية أو يُصنف ضمن تيار فلسفي أو لساني معيّن. فحرصه على الاضطلاع بدور الوسيط الفكري والثقافي قد دفعه باستمرار إلى تجويد المسالك التعليمية الأكثر كفاءة، كي يكشف ويفسّر مضامين المفاهيم والتوجهات والرهانات الدلالية لكل عبارة ولكل استدلال ولكل مجموعة من المقترحات، ثم أخيرا ليشرح نوع المفهومية والعلاقة بالواقع الملموس الذي يتضمنه كل ضرب من الخطاب (ديني، لاهوتي، تشريعي، تاريخاني، تفسيري، فلسفي، إيتيقي… إلخ). وبالاستناد إلى القواعد اللسانية للتحليل، يتمكن أركون من تحويل مجموع المصادرات الضمنية المنظمة للتجانس الظاهري والمغامر للخطاب المقروء قراءة حرفية وسطحية إلى معطيات صريحة ومكشوفة. وهكذا يعيد تشكيل إبستمات خطابات عصر معيّن أو إطار فكري أسطوري أو ميثا-تاريخي أو أيديولوجي أو ميتافيزيقي أو منطقي أو أدبي… إلخ. وبفضل هذه المقاربة المنهجية ينشئ مثلا مفهوم الخطاب النبوي الذي يتضمن الأشكال الكتابية للتعبيرات الشفوية الأصلية التي تلفّظ بها الأنبياء المتعاقبون في المدونة التوراتية والإنجيلية والقرآنية. ويمكّن هذا المسار التحليلي بإدخال التعقّد في التفاسير التقليدية التي كانت تسلّم بإمكانية توسّط الكلمة الإلهية انطلاقا من النص وليس من تلفظها الشفوي الأول أمام جمهور ينصت ويتفاعل، بينما خاصة النص أنه أبكم وأن كل قارئ يمنحه المعنى حسب علاقاته الخاصة باللّغة المستعملة.
تدفع نتائج هذا البحث الفكر الإسلامي اليوم إلى مراجعة كل العمل التفسيري الموروث عن الماضي، وإعادة التأمل في الوضع المعرفي انطلاقا من «المدونة الرسمية المغلقة» للآيات كما تُضمنت في سياق المصحف بدل ترتيبها الزمني والأوضاع الحقيقية للتلفظات الشفوية الأولى من قبل النبي أمام مستمعين من أصناف شتى، بعضهم مناهض للرسالة وبعضهم متظاهر بقبولها، وبعضهم متحوّل إليها تحوّلا نهائيا. إن العديد من الآيات في المصحف هي التي تقدّم لنا كل هذه التوضيحات. وعليه، فإن هناك قطائع معرفية أساسية تطرح على التفكير للمرة الأولى داخل الفكر الإسلامي الذي تجاسر على استعادة تفسير قرآني سطحي يعتمد على مسار انحطاط متواصل للتفاسير السكولائية، وهي بالضرورة أقل دقة وأقل معرفة من تفاسير القرون الأولى للهجرة حتى الطبري (ت923). ومن جملة هذه القطائع أيضا نجد تلك التي شهدها الفكر السكولائي تجاه المكاسب الإيجابية للفكر الكلاسيكي، وتلك التي شهدها الفكر المعاصر تجاه الثورات العلمية للحداثة معتبرة في وثباتها المتعاقبة من القرن الثامن عشر إلى اليوم، وتجاه التراجعات الفكرية والأخلاقية والروحانية التي منحتها الحداثة نفسها شرعيتها عبر سياسة دينية وتربوية وثقافية فرضتها الأحزاب-الدول بعد الفترة الاستعمارية. ومنذ أحداث 11/9/2001 أصبحنا نرى قطيعة وتحديا معرفيين من دون برنامج سياسي في كل العالم الغربي نفسه، الذي يعيش بدوره في قطيعة مع قيمه. إذ هناك أيضا قطيعة الفكر الحديث مع الفكر الديني عامة، فقد تحوّل النقد النبيه لماركس إلى إلحاد متغطرس وهدّام جسّده النظام الستاليني، وغُمرت الدروس الثمينة لفرويد بركام من الخصومات المستعرة بين مدارس التحليل النفسي. وواصلت وعود التعليم الإجباري والمجاني واللائيكي لجيل فيري (Jules Ferry) تغذية توظيفات لائيكاوية في فرنسا تقوم بها أحزاب سياسية مستعدة دائما للنزال.
تظل هذه المعارك على جبهات عديدة غير معروفة معرفة جيدة في الغرب على الرغم من صدور كتابين باللّغة الإنجليزية، ثم خاصة حضور في فرنسا تواصل 35 سنة بجامعة السوربون وتخللته العديد من المنشورات باللّغة الفرنسية. أمّا المعرفة بهذه المعارك في العالم العربي فهي أكثر ضعفا، على الرغم من الجهد الهائل الذي بذله أحد تلامذة أركون الذي نقل إلى اللّغة العربية الجزء الأكبر لأعماله، أقصد هاشم صالح. ففي العالم العربي ينتصب سدّ منيع وناجع تقيمه كل التيارات الأصولية، وهناك أيضا مؤامرة الصمت التي يشترك فيها الباحثون و«المثقفون» الذين يستنكفون عن تغذية المناقشات الخصبة والكتابة في الصحف، مع أن الصحافة المكتوبة ترحب بهذا النوع من الإسهامات. صحيح أن في هذا المستوى أيضا توجد قلة من القرّاء الجادين والباحثين المتخصصين حقيقة في تاريخ الفكر الإسلامي. بالمقابل يوجد الكثير من كتاب المحاولات (essayistes) يتحالفون مع كبار دور النشر لتغذية سوق النشر بعناوين جذابة حول الإسلام والثقافة العربية، ويسمحون لأنفسهم بالاستيلاء على العبارات والمفاهيم والأفكار من دون أن يذكروا مصادرها، كي يضخموا لدى الناس صيتهم كخبراء ومراجع علمية تحصلوا على ألقابهم هذه بفضل وسائل الإعلام من دون إقرار من المجموعة العلمية(3). إن هذه الظاهرة المعقدة تدخل أيضا ضمن التحاليل التي تتعهّد بها الإسلاميات التطبيقية.
ثم هناك أيضا هزائم البحث المنقب واللغات الحية والفكر النقدي مقابل انتصار الفكر سريع الاستهلاك (pensée jetable). فهذه العوامل تضطلع بدور تخريبي في مجتمعات محرومة أكثر من غيرها من أدوار اجتماعية تتولّى الاستجابة للحاجة إلى المعرفة والثقافة ذات الأهمية الحيوية. كم من شبان شكوا لي عجزهم عن إطفاء ظمئهم للمطالعة، أو حضور دروس جديرة بهذا الاسم، أو العمل بإشراف أساتذة أكفاء ومجددين ونزهاء، أو العثور على مكتبات قريبة تتوافر فيها المراجع… تغيب في كل مكان سياسة البحث والأنظمة التعليمية الحديثة، خاصة إذا تعلّق الأمر بالمسألة الدينية وبالتاريخ العام للفكر والثقافات.
لم يقل أركون كلمته الأخيرة، ولم يتوقف عن التوسع وإثراء معلوماته ومراجعة نفسه وإعادة تأطير معجم في المفاهيم العديدة التي طرحها، وما زال يواصل اختبار نجاعتها وإمكانية توسيع دلالتها. ولديه مشروع لإعداد معجم فرنسي عربي مستوحى من كتاب «الأنسنة والإسلام». وهو يواصل حاليا كتاب وعد به منذ فترة طويلة عنوانه «قراءة السورة التاسعة من القرآن (التوبة/براءة). سوف يردّ في هذا الكتاب على كلّ الذين يواصلون إلقاء اللوم عليه، لأنه لم يجسد بما فيه الكفاية المحاور التي غالبا ما اقترحها على الباحثين والورشات التي فتحها مع كل واحدة من منشوراته(4). إن الذين ينشرون هذا المأخذ لم يقرؤوا ربّما مجموع منشوراته، ولا يقدرون الوقت والتضحية اللذين يتطلبهما كل مقال وكل كتاب منشور بالفرنسية أو الإنجليزية أو العربية. عليهم بدل اللوم أن يساعدوه في تنفيذ مهام ثقيلة جدّا لا يمكن لشخص واحد أن يقوم بأعبائها. هذا هو قصده بالعنوان الفرعي الذي وضعه لكتابه «الأنسنة والإسلام: معارك ومقترحات»، وهذا هو معنى النداءات المتكررة التي ضمنها كتابه الأخير: من أجل الخروج من السياجات الدوغمائية (بالفرنسية، باريس،2007).
(1) يقصد أن أوباما في خطابه الذي ألقاه بالقاهرة سنة 2009، لم يتحدث عن مصر أو مجموع الدول العربية أو الشرق الوسط، لكنه تحدث عن العلاقة بين بلده والإسلام في المطلق.
(2) من أجل المزيد في هذا التحليل الأنثروبو-تاريخي في كل المجتمعات البشرية يراجع كتاب الإسلام والأنسنة. تمثل هذه الإضافة مفتاحا في مجموع فكر أركون وكتاباته، وتتنزّل في الآن نفسه في الإبستمولوجية حول تحوّل علوم الإنسان والمجتمع إلى مجتمعات أخرى، غير المجتمعات الأوروبية والأمريكية، التي ازدهرت فيها هذه العلوم، وفي النضالات الفكرية في السياقات الإسلامية لهدم الخطابات القائمة على تدينات سالبة، تكرس نقل الجهل المؤسساتي باسم عقائد باطلة، ويتولّى عملية النقل موظفون من الدولة.
(3) يقصد أركون ما تعرضت له العديد من المفاهيم والعبارات التي استعملها، ثم أصبحت شائعة في الاستعمال العمومي من دون ذكر اسمه أو الإحالة إلى كتبه، إذ إن الأسلوب المعقد -نوعا ما- لأركون يجعل كتاباته محصورة في نخبة من المتخصصين، عكس أدبيات المحاولة والكتابات الصحفية التي تنتشر لدى عدد أكبر من القراء.
(4) إشارة إلى فقرة وردت في نصّي أتبنّى فيها هذا اللوم الذي لست الوحيد الذي ألقاه على أركون وما زلت مصرّا عليه على الرغم من هذا التوضيح من قبله.
(5) يرد العنوان بهذه الصيغة في النص الفرنسي وقد تحوّل في الترجمة العربية إلى «مدخل تاريخي نقدي».