يواصل المسبار في كتابه السادس والأربعين رحلته لرسم خارطة واضحة و صور مضيئة للجوانب المظلمة والمهملة في الخارطة الإسلامية. يتناول هذا العدد الحالة الإسلامية السنية في إيران، وهو ملف لم يلق -على أهميته حظه من الدراسة عربياً.
هذا العدد هو محاولة لعرض التيار السني في إيران -على امتداد التاريخ- و تحديد مافيه من محاولات للتعايش، ونضالات من أجل الإندماج، ورهانات لخلق أرضية وطنية تتجاوز حدود الطائفية الضيقة أوالمذهبية المحدودة، كل ذلك لا يتم إلا إذا توفر حوار جاد مبني على معرفة بالواقع السني في إيران والمزيج المكون للدولة الإيرانية.
فدراسة طلال عتريسي قدمت لمحة عن تاريخ ايران على المستويات السياسية والاجتماعية والدينية، وربطت بين التاريخ وبين واقع إيران المعاصر موضحاً أن ما تعرضت له ايران من احتلال خارجي و تقسيم لأراضيها في الحربين العالميتين جعلها تخشى تكرار ذلك في العصر الحديث، واستعرض العتريسي واقع التعدد الديني والعرقي في ايران وأن مساحتها وعدد سكانها يشكلان أهم مصادر قوتها في مواجهة التهديدات الخارجية. وعن طبيعة تركيب السلطة تحدثت الدراسة عن مؤسسات صنع القرار المختلفة في ايران وموقع الولي الفقيه الذي يمثل أعلى سلطة في البلاد. وخلصت الدراسة إلى أن موقع إيران الاستراتيجي وثرواتها ومساحتها وعدد سكانها يجعل منها قوة إقليمية مهمة لا يمكن التهاون بها، أو تجاهل مصالحها في أي مشروع إقليمي سياسي أو أمني أو اقتصادي أو استراتيجي.
رضوان زيادة تناول أزمة الأقليات السنية في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، فهي من الدول النادرة في العالم التي لا تتّخذ من الدين الإسلامي ديناً رسمياً للدولة فحسب، وإنما حدّدت المذهب الشيعي كمذهب رسمي للدولة، وهو ما يجعلها تبدو وكأنها المدافع والحامي عن الشيعة حول العالم .يبرز رضوان زيادة أثر ذلك على مواد الدستور الإيراني التي جاءت لتكرّس نوعاً حادّاً من المذهبية الدينية، وهو ما انعكس على حقوق الأقليات الدينية الأخرى الموجودة في إيران، بمن فيهم المسلمون أنفسهم ولكن من أتباع المذاهب الأخرى سيما السنّية منها.وبالرغم من أن الأقليات الدينية الثلاث: المسيحيين واليهود والزرادشت الفرس يحظون باعتراف رسمي منصوص في الدستور وتمثيل داخل البرلمان الإيراني (مجلس الشورى)، إلا أن الدراسة تؤكد أن حقوقهم السياسية والدينية لاتزال عرضة للانتقاص الدائم بسبب غياب الفصل بين دور الدين وهو هنا المذهب الشيعي وبين مؤسسات الدولة.
أما دراسة إدريس لكريني فتشرح أن إدارة (أو تدبير) التنوع المجتمعي، تتطلب نهج مقاربة شمولية تستحضر مختلف العناصر القانونية والاجتماعية والثقافية، واعتماد العدالة واستحضار كل مكوّنات المجتمع في العملية الديمقراطية والتنموية. مؤكداً أن إيران لم تتوفّق في تقديم صورة بنّاءة وكفيلة بتحصين وحدة الدولة والمجتمع، فتدبيرها لهذا الملف الحيوي يندرج ضمن استراتيجية الهيمنة التي تعَدّ من أكثر الاستراتيجيات القسرية شيوعاً واستخداماً من جانب النظم السياسية في دول العالم النامي، على اختلاف توجهاتها السياسية ونظمها الاجتماعية. وبالقدر نفسه الذي يعتبر هذا التدبير مضرّاً ومسيئاً للسُّنّة وأوضاعهم باعتبارهم مكوّناً من مكوّنات المجتمع الإيراني، فإنه حسب إدريس لكريني سيشكّل في ذات الوقت أحد العوامل التي تهدّد مستقبلاً استقرار المجتمع والدولة، وتشوّش على إنجازات إيران المشرقة في مختلف المجالات والميادين.
تناول علي لافي في دراسته التي جاءت بعنوان (أهل السُّنة والجماعة في إيران) ما يحدث لأهل السنّة في إيران اليوم من تمييز وغياب للحقوق بكافة أشكالها هو نتيجة للطبيعة المذهبية للثورة وطبيعة نظامها السياسي (نظام ولاية الفقيه) وطبيعة الوقع الجغرافي لإيران وتاريخها قبل الفتح الإسلامي أو خلال العقود التي تلت دخول الإسلام لإيران، ولكنه أيضاً نتيجة عوامل توزّعهم الجغرافي وعوامل تاريخية تعود لقرون عديدة بل ولطبيعة وضعهم السياسي والاجتماعي قبل الثورة وطبيعة أدائهم وتحالفاتهم السياسية يومذاك. قدمت دراسة علي لافي استعراضاً لما مر به السنّة من اضطهاد، وشعور من ناصر الثورة الإيرانية بأن الخميني انقلب على من ساعده من علماء السنّة في الثورة.كما حدث ذلك للشيخ محمد طاهر الخاقاني الذي وعده الخميني بأن يعطي العرب حقوقهم ولكنه حسب الدراسة لم يف بذلك
أما عمران نزال فقدم موجزاً عن حاضر أهل السنة في إيران وأن الواقع الإيراني المعاصر يشهد جملة من الأزمات الداخلية والخارجية تهدّد وجوده بأكمله، وتؤثر على مكانة أهل السُّنّة في الداخل بشكل مباشر وخطير، وفي مقدمتها أزمة مزمنة في الحريات السياسية، عبرت عن نفسها في أعقاب الانتخابات الرئاسية الأخيرة، تهدد بسقوط النظام السياسي الإيراني الشمولي، انضاف إليها أزمة اقتصادية مريرة تهدّد بانهيار نظامه الاقتصادي والإفلاس، وتناولت الدراسة التأثير السلبي الواسع لعدم قدرة النظام على مكافحة الفساد والاستبداد الداخلي.
وتناول علي الحسيني أحوال تشكل الوعي الجماعي للطائفة السنية، وقرر بأنه لا يمكن مراجعة مؤاخذات أهل السُّنّة في إيران دون التوقف عند شكاواهم الدائمة بخصوص المساجد والمدارس الدينية الخاصة بهم؛ والتي تندرج ضمن حق الحريات الدينية وممارسة الطقوس والشعائر. وعندما نشير إلى هذه المشكلة فإن أول ما يتبادر إلى الذهن مطالبة زعمائهم منذ بدايات الثورة، وحتى اليوم، ببناء مسجد خاص بهم في العاصمة طهران، التي يقطنها قرابة المليون سُنّي، لكن لا يوجد لديهم مسجد واحد، علي الحسيني في دراسته عن تشكل الوعي الجماعي للطائفة السنية في إيران تناول الدلائل الكثيرة لتأكيد الحكومات الإيرانية المختلفة والمتعاقبة أن المساجد الشيعية مفتوحة أمام أهل السُّنّة، ويمكنهم الصلاة فيها ولا داعي لبناء مساجد خاصة بهم. والذي يمكن فهمه ضمن مغالطة النظام الإيراني تحت ذريعة الحفاظ على وحدة المسلمين سُنّة وشيعة، والابتعاد عن إثارة الفرقة بينهم.
شخصيات الفكر السني في إيران المعاصرة كانت موضوع دراسة عباس المرشد وقد أوضح أن الأكراد والبلوش هم المصدر الأولي لتخريج قادة أهل السُّنّة في إيران. وبحكم النزعة القومية لدى الأكراد، التي تضاهي النزعة الفارسية، فإن نسبة تأثير الشخصيات البلوشية على الطائفة السُّنّية أوفر حظاً من العرقيات الأخرى. يذهب المرشد إلى أن وضع الأقليات يتّسم عموماً بسلوك اتجاهات محافظة من الناحية المعرفية، وهو ما يؤدي إلى جمود عملية الإصلاح والتطوير الفكري. وأوضحت الدراسة أن البحث عن شخصيات فكرية إصلاحية ومطوّرة لفكر الأقلية عملية شاقّة، وتناول المرشد أسباب غياب الإنتاج الفكري، أو المشاريع الإصلاحية، لدى قطاع واسع من الشخصيات المؤثرة السنية، حيث يمكن القول بأن الصدام المبكر لعلماء أهل السُّنّة مع قادة الثورة الإسلامية كوَّن قائمة من الشخصيات السياسية كضحايا وقرابين لمطالب أهل السُّنّة، كما أن الحرمان من التأييد لمذهب السُّنّة في إيران منذ نصف قرن أدى إلى جهل بالعلوم الشرعية، وإن وجدت كتب الشريعة فهي قديمة لا تتماشى مع الزمن.
كان إقليم بلوشستان، وبما تشكل فيه من وعي حركي وحزبي، يكثف قصة معاناة أهل السنة -الذين يشكلون غالبية الإقليم- من قبل الحرس الثوري الايراني، يناقش محمد العواودة أسباب ظهور تنظيم جند الله الذي نجح في لفت انظار العالم الى مشكلة إقليم بلوشستان والأقاليم السنية في إيران،بعد أن حسم خياراته العسكرية والسياسية مع حكومة الملالي المركزية، ويتّضح من دعوة التنظيم، وتركيبته السياسة والعسكرية وبنيته الفكرية وأدبياته النضالية، أنه تنظيم ينطلق من الفلسفة الجهادية والحقل المعرفي للحركات الإسلامية الثورية، وإن كان كما توضحه الدراسة لا يرفع شعاراتها ولا يمارس طقوسها السياسية ويماثل هياكلها التنظيمية، إلا أن الشيء الأكيد أنه يهتم بأدبياتها ويستفيد من خبراتها العسكرية، ويشاطرها المحفّزات والمنشطات المشيمية في العقل الإسلامي الحركي المتموضعة في الوعي البلوشي في إيران بعامة، والحركي منه بخاصة في احتلال الإقليم ومصادرة حقوق السُّنّة فيه، ووضعهم في الإطار الوطني على القاعدة العقيدية.
تناول الباحث الإيراني محمد فلاحية التأثيرات الخارجية السياسية والعقائدية والاقتصادية التي تركت ظلالها على الساحة السنية في إيران من ظهور أحزاب شيوعية ويسارية سنية إثر قيام الاتحاد السوفييتي في عام 1917 في روسيا، إلى أثر الأحزاب العلمانية السنية والأيديولوجيا الليبرالية والاعلان العالمي لحقوق الانسان، وما تلا ذلك من ظهور الحركة السلفية بين السنة في إيران مترافقاً مع تنظيمات تحمل إيديولوجيا معادية للاتحاد السوفيتي واحتذت مثال المجاهدين السنة الإيرانيين في أفغانستان، كما تناولت الدراسة عامل بقاء الفكر السني التقليدي على حاله واتباع الوسطية وتأثره بأفكار إبن تيمية من ناحية وبالفكر الذي يصدر من المؤسسة الدينية في السعودية، وشعبيته بين المناطق السنية. وتأثير الطبقة المثقفة للسُّنّة الإيرانيين من كرد وبلوش وتركمان وعرب، حيث أسّسوا حركات وجبهات إما انفصالية أو تطالب بمبدأ الفيدراليه لاستيفاء حقوق الشعوب السُّنّية في إيران.
وفي نفس السياق يتناول الباحث السعودي أحمد الحمدي الملف الحقوقي لسُنَّة إيران، و ضبابية الأرقام وكابوس البقاء، فالذاكرة التاريخية لسنة إيران ما بعد الثورة تحمل الكثير من المظلومية تجاه نظام الثور الإسلامية؛ بسبب الكثير من الانتهاكات تجاههم، الأمر الذي يجعلها أقلية من حيث الشعور فضلا عن كونها أقلية من حيث الوجود، وأن التجربة السنية في إيران تشكلت في محيط شيعي يتمتع بمركزية “المراجع الدينية” في صنع القرار والمصير، تلك المرجعيات تمتلك أدوات بلورة المواقف الاجتماعية، وتكوين توجهات الرأي العام تجاه الأقلية السنية في إيران.
وتذهب دراسة الحمدي إلى أن أزمة سنة إيران الحقوقية ستتصاعد أكثر طالما هناك توسع في مفاهيم مثل “المشاركة السياسية” و”تعدد الإثنيات”… والتي يعد “العامل الديموغرافي” فيها عاملا جوهريًا.
ولقراء الكتاب في هذا العدد اخترنا كتاب ( الروحانية في أرض النبلاء -كيف أثّرت إيران في أديان العالم) لريتشارد فولتز، الذي سلط الضوء على الدور التاريخي المؤثّر لإيران القديمة في الديانات العالمية، أي في الفترة التي كانت إيران تعتبر مركزاً عالمياً استثنائياً للبعثات التبشيرية، والقوافل التجارية عبر طريق الحرير، حيث انتقلت تلك الديانات الى العالم، بعد أن امتزجت مع التقاليد والأفكار والتفسيرات الإيرانية.
يُعتبر الكتاب، من المحاولات النادرة، في رصد إيران من الناحية التاريخة والدينية والروحية، وقد عمل المؤلف جهده في هذا الكتاب لإثبات رؤيته، ووضع حد لما أسماه بالتحيّزات الغربية ضد إيران الروحية، إلا أنه نقل الكثير من المعلومات المغلوطة وغير الدقيقة عن الإسلام، ربما يعود ذلك لعدم كفاية دراسته عن الإسلام. أكد المؤلف ازدياد التأثير الإيراني في الإسلام، من خلال الجهد المميّز للعلماء الإيرانيين، في وضع مرجعيات للأحاديث النبوية التي تعرّضت للتشويه، وتفوّق الإيرانيين في كل المجالات، حيث ظهرت شخصيات إسلامية علمية إيرانية،، بالإضافة إلى ترجمة الإيرانيين العديد من الأعمال الأدبية إلى اللغة العربية.
أما دراسة العدد لعبدالصمد بالحاج، فإنها جاءت عن العجم السنّة في الخليج، الذين استقروا منذ أكثر من قرن في المنطقة، وهذا أكسبهم مرونة وقدرة على التكيّف مع اضطرابات الخليج. مما سمح لهم بعقد تحالفات مع الأنظمة الحاكمة مقابل الاحتفاظ بمكاسبهم الاقتصادية.
يذهب الحاج إلى أن الإيرانيين السنّة في دول الخليج لم يتعرضوا لقمع سياسي أو عسكري، بل تمتعو بحرية الحركة التجارية وأيضاً بحوافز الفاعلية الاقتصادية. لكنها تخضع لضبط سياسي محكم في منطقة هشّة قائمة على تحالفات قبلية وطائفية محسوبة، إلا ان الانتماء المذهبي السنّي للإيرانيين يجعل منهم أحياناً حلفاء ضروريين.
إضافة إلى أن العامل العرقي الذي يتجلّى في اللغة الفارسية وفي الاحتفاظ بالروابط الاجتماعية مع إيران يشكّل محور هويّة العجم السنّة. لكن انتماءهم إلى أهل السنّة مع ما يغلب على السنّة من تشظٍّ فكري وسياسي يفقدهم القوة التي تتّسم بها الأقليات المنسجمة عرقياً ومذهبياً. أكدت الدراسة أن العجم السنّة ليسوا هدفاً ظاهراً للاختراق الإيراني المعتمِد في الوقت الراهن على التشيّع، وأن العجم السنة يعتبرون أنفسهم موالين لدول الخليج مع أن هذا لا يجعل منهم خصوماً للسياسة الإيرانية.
رئيس المركز