تناول كتاب مسبار لهذا الشهر جماعة من جماعات الإسلام السياسي، التي تكاد تظل منزوية بين جبال ووديان كردستان العراق، ألا وهي الحركة الإسلامية الكردستانية، بعد أن استولت الجماعات الأخرى، من مصر إلى أفغانستان وإيران وإندونيسيا والجزائر وغيرها من البلدان، على جهد الباحثين والكتاب، الأجانب منهم والعرب، لهذا يأتي هذا الكتاب توثيقاً لما أُهمل وما اختلط مع الأحداث العراقية والإيرانية، والمنطقة عامة.
ويكاد لا يجد الباحث في المكتبة العريية مصدراً مفيداً حول تلك الجماعة، ماعدا ما كُتب باللغة الكردية وانتشر محلياً فقط، والنزير الذي كُتب باللغة العربية. تلك الجماعة التي شغلت المكان ووصل مَنْ وصل من أعضائها إلى باكستان وأفغانستان، حتى غدا على وشك أن يجعل من جبال شمال العراق، أو كردستانه، مثلما يحلو للكرد العراقيين تسمية المكان، بيشاور أو تورابورا ثانية، وهي إن صح التوقع ستكون أخطر وأوعر من جبال أفغانستان وباكستان. لكن على مايبدو كان وجود الأحزاب الأخرى، العلمانية على وجه التحديد، واسِتعار القضية الكردية نفسها، أحد الأسباب التي حالت دون ذلك.
فلو نظرنا إلى وضع الكرد الفكري والسياسي بتركيا، وهم الأكثر هناك من غيرهم، نجدهم تبنوا الفكر اليساري والعلماني عموماً، ولربما لعلمانية تركيا الكمالية (نسبة إلى مؤسس الدولة التركية الحديثة كمال أتاتورك أو أبو الترك)، التي بدأت تشق طريقها نحو الغرب منذ 1924، وهو عام إلغاء الخلافة العثمانية.
وبالعراق بدأ الكرد كفاحهم في سبيل حقوقهم القومية بأحزاب علمانية أيضاً، وما زالت الغلبة للحزبين المعروفين هناك، وهذا لا يمنع، في كل الأحوال، من وجود شخصيات دينية، لكنها لم تتبن الدين حزباً أو سياسة، بقدر ما هو تأثير إيماني ومحفز لنيل الحقوق وصد الظلم الاجتماعي. والحال نفسه يصدق على إيران وسوريا.
ساهم في الكتاب نخبة من الباحثين والكُتاب الإسلاميين الكرد، ومن المنطقة نفسها، ومنهم من المستمرين في صالاتهم الحزبية. إلا أن إثارة تاريخ الحركة الإسلامية جعلت هناك شيء من التشابه أو التكرار المفيد وغير الممل بين عدد من البحوث. وما اتفقت البحوث كافة أن البداية كانت مع الإخوان المسلمين من داخل بغداد في بداية الأمر، إلا أنها فترة من الزمن، حتى ظهر الفتور بين التنظيم الإسلامي الأم، حيث مركز الإخوان بمصر، وفرعه بالعراق، وبين الإسلاميين الكرد، وذلك بفعل الطابع القومي المختلف. فالتنظيم الأم إسلامي عروبي، وإن كان يدعي الأممية، كون الإسلام أممياً، لكنه تميز بالعراق بمزجه بين القومية العربية والإسلام، وهنا تثار مسألة هامة وهي: ماهو الموقف من الحقوق الكردية، التي يصعد بها الإسلاميون الكرد، في العديد من الأحيان، إلى الذروة، حيث الدولة المستقلة، وإعلان الجهاد على نظام أو أنظمة مغايرة قومياً، هاضمة للحقوق القومية؟!
في بحثه “التيارات الإسلامية في كردستان العراق” توقف الكاتب إدريس سيويلي، في دراسته أمام تاريخ نشأة الحركة الإسلامية بشكل عام، وعندما يحدد الكاتب العراق لا غيره من الأمكنة التي يوجد فيها أبناء قومه، فهو قد لايجد حركة إسلامية كردية خارج هذا المكان. والبداية، كما سبقت العبارة، بالإخوان المسلمين، ثم التفرعات التي ظهرت تدريجياً.
ويستكمل ما بدأه أو طرحه إدريس سيويلي في بحثه، الكاتب والناشط الإسلامي مسعود عبد الخالق فكرياً لا سياسياً، في بحثه “الحركة الإسلامية الكردستانية: الأسس والمبررات”، وللباحث المذكور فضل في تسهيل وتذليل الاتصالات عبر المنطقة العكرة الأرض والملبدة الأجواء السياسية، والتي تمت عبر ناشط آخر له حضور في الساحة الإسلامية الكردية ألا وهو الباحث مشير مصطفى كلالي، ليتحدث عن مبررات الحركة الإسلامية بكردستان العراق، لكنه لايريد لهذه الحركة أن تستقر بأهدافها على الدولة العراقية، والفيدرالية للمنطقة، مثلما هو الحال عليه بعد سقوط النظام العراقية، بل يريدها تتسع مع اتساع الإسلام، أممية لا قطرية، وهو الآخر لا يخفي ميله إلى الخلافة التي تتجاور فيها القوميات بدلاً من التجاور في البلدان.
بعدها يأتي بحث الكاتب كاو نادر عبد القادر “الإسلام السياسي في كردستان العراق بين الاعتدال والتطرف”، وهو كما يبدو من خارج المحيط الإسلامي، في بحثه على الأقل، وتجده يطرح جنوب كردستان، محاولاً تعمييم الحركة، التي لم تظهر إلا في هذا القسم من الأرض التي يقطنها الكرد، ويذهب بنشأة التيارات الإسلامية في المنطقة إلى ما بعد انهيار الخلافة العثمانية، ثم يأتي إلى تقسيم بحثه ما قبل قيام الدولة العراقية (1921) وما بعدها، وكذلك يجعل تنظيم الإخوان المسلمين هو الأصل في قيام هذه الحركة. وينهي بتساؤلات مثيرة حول تلك الحركة، فهي من جهة تقدم نفسها حركة كردية وتستفيد من الديموقراطية الممنوحة المأخوذة هناك، ومن جهة أخرى هي تعتبر الراية الكردية متعارضة مع أممية الإسلام، وأن الديموقراطية كائن غربي ليس بينه وبين الإسلام من لقاء.
أما البحثان الآخران، وهما للباحثان أبو بكر علي وزانا سعيد روستاي فعالجا الإسلام السياسي والصحوة الإسلامية من منظور حزبين رئيسيين في الحركة، ومشاركين في العملية السياسية العراقية، وفي الحكم، عموماً والكردستانية خصوصاً، وهما: حزب الاتحاد الكردستاني، والجماعة الإسلامية، ويبدو الأول أكثر انفتاحاً وصلات في المجتمع وبقية القوى السياسية، أما الجماعة، وهي بزعامة الشيخ علي بابير فعلى الرغم من ممارستها المعقولة، والمسايرة للواقع العراقي والكردستاني، إلا أنها لا تخفي سلفيتها، وتغريب الديموقراطية في خطابها، أو قبولها فكرياً بشرطها الإسلامي.
ومن جانبه يتطرق الباحث محمد سيد نوري البازاني “الإسلاميون في كردستان العراق: المشاركة السياسية” إلى تجاوب الإسلاميين الكرد مع أجواء الديموقراطية، التي مازالت تحتاج إلى تعميق وترسيخ، على الرغم من مرور أكثر من خمسة عشر عاماً من إعلانها في إقليم كردستان، ويبدو من متابعة الدورات الانتخابية والحكومات المتعاقبة أن الإسلاميين بتصاعد، ويترسخ تأثيرهم في المجتمع والدولة، على الرغم من المحاذير السياسية والفكرية اتي يواجهون بها بين الحين والآخر، مثل محاولات أسلمة التشريع والوزارات التي يُستوزرون لها. إلا أن الجانب الإعلامي هو الأنشط والأوسع لديهم حيث فتح عدة محطات تلفزيوينة وإذاعية إضافة إلى الصحف والمجلات. لكن مع كل مظاهر الديموقراطية، تبقى العلاقة مع الحزبين الرئيسيين، والموصوفين بالعلمانية، هي الفاصلة في الغالب من الحالات.
ومن خارج الحركة الإسلامية، كتب الباحث سامي شورش بحثاً تحت عنوان “الإسلام السياسي في كردستان العراق… بين دعوات الإصلاح وفتاوى العنف”. حدد فيه أن الغالبية من الإسلام السياسي تواقة للإصلاح، والاهتمام بالإغاثة، التي في زمن من الأزمنة لايحتاج الشعب الكردي سواها، وذلك من آثار عمليات الأنفال، واجتياحات الأسلحة الفتاكة، ناهيك من الطبيعة وقسوتها.
أما الجانب الآخر، والذي يبدو الأقل تأثيراً وكثافة، فقد اتخذ العنف والتكقير سبيلاً. ونرى الباحث شورش يشير إلى حزب الاتحاد الإسلامي الكردستاني بنبذ العنف واتخاذ النشاط الدعوي، والقبول بالقانونية السياسية في العمل، بينما تنفرد الجماعة الإسلامية، على الرغم من مشاركتها في العملية السياسية، بالتوتر والخطاب العنفي. وبالفعل ترى العنف يتفجر، مثلما هو لدى القاعدة وطالبان، لدى “جند الإسلام”، على سبيل المثال لا الحصر. ولا يفوت الباحث العروج على أصول أو بدايات الحركة الإسلامية الصوفية والإخوان المسلمين.
وفي بحث مشوق ووافر المعلومات، قدم الأكاديمي صباح محمد البرزنجي، وهو المتأصل من أسرة لها نشاطها في الحركة الإسلامية الكردية، ترجمات وافية لأغلب شخوص الإسلام السياسي، من قبل وجود الحركة ومن بعدها، أي من بدايات الوعظ والخطاب الديني على يد الشيخ أمجد الزهاوي، إلى العنف والتشدد على يد الملا نجم الدين كريكار. وعلى العموم، اكتفى الباحث بالتعريف المفيد لسير حياة رموز الحركة، بمعلومات تاريخية مجردة، تجنب فيها اتخاذ أي موقف نقدي.
وبعد الدراسات التي تناولت تاريخ وتحرك التيارات الإسلامية الكردستانية، تأتي قراءة الباحث رشيد الخيُّون لكتاب الشيخ علي بابير “مسائل عصرية.. تقيم شرعي”. وهو أحد الدعاة والمؤلفين المتشددين، المتخلين، حسب مشاركته في الحياة السياسية العامة، عن العنف، إلا أنه في كتابه ما يحجب الديموقراطية من غير شروطها الإسلامية، وتراه يعتبر العلمانية مقابل الكفر، وينظر إلى حقوق الإنسان باعتبارها مفهوماً غربياً، ويجوّز العنف أو الحرب لدرء الفساد، والفساد لديه هو بُعد السياسة أو فصل الدولة عن الدين. وقد قدم الخيُّون من خلال قراءته أسئلة عديدة للمؤلف، ومنها كيف جمع بين الاستفادة من الديموقراطية بثوبها العلماني ورفضها والتحريض ضدها؟!
ومن قراءة كتاب الشيخ بابير إلى قراءة كتاب أكثر الإسلاميين الكرد تشدداً وجدلاً ألا وهو كتاب الملا فاتح كريكار: “الحلقة المفقودة بين بن لادن وصدام حسين”. تعرض فيه قارئ الكتاب إلى حياة الملا المذكور، مستنتجاً من كتابه أنه شخصية غير مستقرة، وكيف تقودها سلفيتها إلى قبول نعمة الديموقراطية بالنرويج، على المستوى الشخصي، حيث يحل لاجئاً سياسياً هناك، وبين رفضها بأرض الإسلام، وتجد المكفَّرين في الكتاب لاعد لهم. ويتضح من قراءة الكتاب أن عنوانه غير مطابق لمحتواه، فقد جعل المؤلف واحدة من التهم الموجهة إليه، وهي على حد ذاكرته، كثيرة، عنواناً لكتابه، يراها قارئ الكتاب أنها حيلة للانتشار.
وبعد ببيولوغرافيا العدد، حول الحركة الإسلامية الكردية خصوصاً والقضية الكردية عموماً، تأتي دراسة العدد البعيدة عن هم الملف، وهي ضمن سلسلة “في العقل الأصولي”، حيث تابع عبرها الأكاديمي والباحث الجزائري د. عز الدين بن زغيبه “مقاصد الشريعة والخطاب الإسلامي المعاصر”، ليبحث أصل مصطلح المقاصد لدى علماء المسلمين الأوائل، وكيف أنها القاعدة التي تأسس عليها الفقه، وأن الرجوع إليها يبقي على لغة الاعتدال في الخطاب الفقهي.
وبهذا يكون كتاب مسبار لهذا الشهر قد قدم قضية من قضايا الإسلام السياسي، والهامة لأربعين مليون مسلم، يعيشون فوق رؤوس جبال وبطون وديان أربعة بلدان متجاورة: تركيا، إيران، العراق، سوريا، وما بعد في أرضي روسيا شمالاً، وكيف بدأ انضمام السياسة إلى التدين هناك، وكيف تفاعل الخيال الصوفي ليظهر منه ثوار؟ وكيف اقتنع إسلام تلك الجماعة بالديموقراطية؟ وكيف يمارسها ذلك التيار: أعن قناعة أم على مضض؟ كل هذا تجدونه في كتاب المسبار الثامن عشر لهذا الشهر “الحركة الإسلامية الكردية”.