تقديم
يشكل التعامل مع التعددية الدينية والإثنية أحد التحديات البارزة في العالم العربي. وعلى الرغم من الحيوية التي يتمتع بها هذا الملف الشائك، لكنه لم يحظ بالاهتمام الكافي بعد التحولات الكبرى في السنوات الأخيرة، والتي أفضت إلى خسائر في الخريطة الدينية والإثنية.
يتناول كتاب المسبار «التعددية في الخليج وجواره: الواقع والآفاق» (الكتاب السابع بعد المئة، نوفمبر (تشرين الثاني)، 2015) إدارة التعددية في المنطقة العربية بأبعادها المختلفة. ويرصد الدور الرسمي والدستوري ناظراً في حالات عدة.
يعالج الجزء الأول من الكتاب إدارة التعددية في العراق والخليج العربي واليمن، على أن يتبعه جزء ثانٍ يتضمن المغرب العربي وسوريا والسودان.
تغطي المواد المدرجة في هذا الجزء سياسة التمييز الإيجابي والكوتا النيابية، وإدارة التنوع الاجتماعي والسياسي في العراق والبحرين، وأثر التدخلات الخارجية عليهما، وما تحدثه من اضطرابات تؤدي إلى وقوع استقطابات حادة. ونظراً لما تشكله دولة الإمارات العربية المتحدة من أنموذج فريد للتعايش بين الأديان والقوميات، تمّ تحصينه بصدور قانون مكافحة التمييز والكراهية، خُصصت لها دراستان: الأولى: «التعددية الدينية والثقافية في دولة الإمارات العربية المتحدة»، والثانية: «إدارة التنوع الديني في دولة الإمارات». يبدو للبعض أن المملكة العربية السعودية كتلة دينية/ مذهبية واحدة، غير أن الواقع عكس ذلك؛ حيث تضم البلاد مذاهب إسلامية متعددة موزعة على جغرافيتها، وقد رصدت إحدى الدراسات هذا التنوع المذهبي، يضاف إليها تقرير تطرق إلى التعددية المذهبية الفقهية، وكيفية تعامل الحكومة مع الطوائف، وخصوصاً الشيعة والإسماعيلية والصوفية، مع الإشارة إلى أبرز الأصوات المطالبة بإدارة رشيدة للتعددية المذهبية.
من القضايا الأساسية المطروحة لإدارة التعددية في المجتمعات العربية، سياسة التمييز الإيجابي الرامية إلى معالجة التفاوت الاجتماعي الناجم عن الحرمان السياسي ضمن الأقليات المحرومة؛ بمن فيها النساء، وذلك بأنْ تُتاحَ أمامهنَّ فرص العمل والترقية الوظيفية وفرص التعليم، على قدم المساواة مع أعضاء الأكثرية المهيمنة من الذكور. ولكن نجاح هذا النوع من الحلول يعتمد على وجود مؤسسات حكومية قوية، قادرة على جعل هذا التمييز الإيجابي خطوة في اتجاه الدمج بين مختلف شرائح المجتمع، وليس خطوة لتعزيز الانقسام.
تستوجب الإدارة الناجعة لملف التعددية الدينية والإثنية في العالم العربي -بالدرجة الأولى- وجود ضمانات تحفظ حقوق الجماعات الدينية والإثنية على قاعدة المساواة الحقوقية والمواطنة الكاملة، وهذه الشروط غير متوافرة في الدول العربية، على الرغم من المحاولات الخجولة على المستوى الدستوري.
عملت الأنظمة العربية على تطبيق ما يمكن تسميته «الاندماج القسري» من طريق محاولات صهر الجماعات تحت مظلة هوية قومية واحدة لا تأخذ بالاعتبار الهويات الأخرى، مما أدى إلى احتدام الصراع بين الدولة والأقليات، سواء أكانت دينية أم إثنية. وتعاملت غالبية الدول العربية مع المطالب التي ترفعها الأقلية، باعتبارها تهديداً للنسيج الاجتماعي والوحدة السياسية.
اعتبر دعاة الأيديولوجية القومية أن الضامن لوحدة المجتمع واستقراره هي الحياة الاجتماعية المتجانسة، التي تتطلب وحدة على المستوى القومي. هذا المنحى أدى إلى اتباع سياسات تسعى لقهر التنوع، عوضاً عن استثماره لصالح التفاعل بين الأديان والقوميات والإثنيات.
تتمثل الخطوات الجادة لإدارة التعددية في إعادة النظر بالعلاقة بين الهوية والجغرافيا، وفي السعي لاحتواء التنوع الديني وإبعاده عن التهديد الخارجي. والحال، فإن الآخر الديني ليس بالضرورة أن يكون حليفاً لدولة أجنبية ذات أطماع وطموحات إقليمية. وقد يكون من المهم على الدول العربية إرساء سياسات اجتماعية عادلة، تحقق المواطنة الحقة بين جميع المواطنين، بصرف النظر عن دينهم أو عرقهم أو مذهبهم.
نظرت الدول العربية إبان حقبة الاستقلالات بتوجس إلى مكونات التعددية الدينية والإثنية. وقد ارتبط هذا «التوجس» بالتدخلات الأجنبية زمن السلطنة العثمانية، والذي اتخذ أشكالاً أخرى خلال الاستعمار، حيث سعت الدول المُستعمِرة إلى استغلال إشكاليات الأقليات واستثمارها في مشروعاتها التفكيكية.
تفرض عملية التحول الديمقراطي في العالم العربي شروطاً كثيرة، من ضمنها الإدارة الرشيدة للتعددية، وتحقيق المواطنة، وتعزيز المشاركة السياسية للأقليات، والاعتراف بالتنوع الثقافي واللغوي، ورفض التعصب وخطاب الكراهية الذي يهدد أمن المجتمعات العربية.
تسعى القضايا المدرجة في الكتاب إلى تقديم خلاصات تعزز فهمنا المشترك لكيفية إدارة التعددية الدينية والثقافية والإثنية ضمن إطار الدولة الحديثة، أي دولة جميع المواطنين، التي تتسع للجميع وتنتظر الإثراء والفاعلية من مختلف دوائر التنوع والتعدد.
في الختام، يتوجه مركز المسبار بالشكر لكل الباحثين المشاركين في الكتاب، ويخص بالذكر الزميل حسام الدين علي مجيد، الذي نسق العدد، ونأمل أن ترضيكم ثمرة جهوده وفريق العمل.
رئيس التحرير
نوفمبر (تشرين الثاني) 2015
شاهد فهرس الكتاب