تقديم
يتناول مركز المسبار للدراسات والبحوث في كتابه «انقلابات الإخوان الفاشلة (1948-2024) عقيدة الفوضى وتنظيمات العنف»، (الكتاب التاسع عشر بعد المئتين، مارس(آذار) 2025)، وسائل تنظيم الإخوان للوصول إلى السلطة عن طريق الانقلابات، بدءًا من عهد حسن البنا، مع تنفيذ انقلاب اليمن عام 1948، مرورًا بتنظيمات العنف الانقلابية في مصر وتونس. وتهيئة التنظيم وواجهاته الأحوال الداخلية للانقلابات، عبر الخلايا النائمة. ويرصد الكتاب الأفكار الانقلابية التي يتبناها الصحويون باستغلال التحولات الجديدة في الإقليم، بعد سقوط نظام الأسد.
كان تنظيم الإخوان في السودان؛ الأبرز الذي أفرد المركز له كتابًا، في تشريح انقلاب الجبهة القومية الإسلامية على النظام الديمقراطي في العام 1989، وظلّت تقدّم على أنها الأنموذج الوحيد لانقلابات الإخوان، إلى أن جاء انقلاب حركة حماس في 2006. وبقي السؤال عن الانقلابات الفاشلة، بلا إجابةٍ أو توثيق، لذا جاء هذا الكتاب ليدرس المحاولات الانقلابية، وتهيئة الأحوال لها، في أكثر من دولةٍ، ليفتح باب رصد بقيتها، وإعادة التركيز على سبل التغيير التي تعتقدها الجماعة، وحاولت عمليًّا القيام بها، في دول اليمن، ومصر، وتونس، مع الإلماح إلى تهيئة المناخ، عبر مناقشة البعد الفلسفي، وما يسمح برصد الإرهاصات لها، وخلق الخلايا النائمة، وإعداد الكوادر، وممارسة التسخيط العام.
افتتح الباحث المصري طارق أبو السعد الدراسات بأول انقلاب خططه الإخوان ونفذوه بمشاركة حسن البنا، ضد الإمام يحيى حميد الدين في اليمن، سنة 1948، تظاهر البنّا وجماعته بدعم الإمام يحيى حاكم اليمن آنذاك، وأظهروا ولاءً علنيًا له ولولي عهده، وقاموا بمهاداته وتسمية أبنائهم باسمه، ومن جهة أخرى نسجوا في الخفاء خيوط مؤامرة مع معارضي الإمام لتحويل معارضتهم إلى تمرد معبأ إعلاميًّا وعسكريًّا لتنفيذ انقلابٍ دموي؛ بتحريضٍ وتمويل ٍوتسليحٍ من الجماعة، بل وتخطيط مباشر من البنا؛ الذي وجد في اليمن طبيعةً واقتصادًا وتدينًا بيئة مثالية يمكن أن يقيم فيها نظامه المتخيل للدولة الإسلاموية الأولى. ولكن تسببت شكوك السلطات اليمنية في انكشاف الانقلاب، فاستعجلت الخليّة الانقلابيّة محاولة اغتيال الإمام يحيى، ونجحت مؤقتًا في إسقاط حكمه، قبل أن يفشل الانقلاب بعد (26) يومًا. تكشف الدراسة دور الإخوان الإعلامي والتنفيذي والتخريبي؛ من التحريض ثم التخطيط والتنفيذ، بكتابة بيانه وإذاعته بصوت مصطفى الشكعة، وانتداب مشرف على الخلية بقيادة، الفضيل الورتلاني، الذي كان مشرفًا مباشرًا على التنفيذ، والتحق به صهر البنا عبدالحكيم عابدين، وجرى تعيين الحكومة، واختيار حسن البنا ممثلًا عنها في الخارج، ونشرت صحف الإخوان تفاصيل الانقلاب قبل أن يفشل.
بالعودة إلى مصر، تتبعت دراسة الباحث المصري حسين حمودة مصطفى، سلسلة الانقلابات الإخوانية التي بدأت بمحاولة اغتيال الرئيس جمال عبدالناصر الأول، ثم سلسلة من المحاولات الانقلابية المسلحة تورطت فيها الجماعة، ومن خرج من عباءتها، بدءًا من تنظيم سيّد قطب العام 1965 الذي سعى لقلب نظام الحكم عبر تنظيم أسسه داخل السجن؛ ورعاه في خارجه، ساردًا اعترافات قطب، قبل أن يشير إلى كتاب «معالم في الطريق»، ورد الشيخ عبداللطيف السبكي عليه، ولكنه توقف عند (166) متهمًا، كانوا مع قطب، بنى منهم سلسلة متصلة بخيوطٍ متماسكة، فتتبع جيل تلاميذه الذين أُفرِج عنهم، وتوقف عند انخراط بعضهم في محاولة الفنية العسكرية» سنة 1974 بقيادة صالح سرية؛ والتي انتهت بالفشل وسفك الدماء، وإثر الإفراج عن بعضهم؛ تورّطوا في قضية «القنص» في الإسكندرية العام 1977. وكان الترابط الفكري من حيث زيادة رصيد «المعالم»، لينضم إليه كتيّبات «رسالة الإيمان لصالح سرية»، و«الفريضة الغائبة» لمحمد عبدالسلام فرج، الذي غدا مركزيًا عند «جماعة الجهاد» وكتاب الطائفة الممتنعة. ثم تناول الباحث المحاولة الانقلابية التي نجحت في اغتيال الرئيس محمد أنور السادات في 6 أكتوبر (تشرين الأول) 1981، لكنها فشلت في الاستيلاء على الحكم. وختم بمؤامرة «تنظيم طلائع الفتح» العام 1993 الذي حاول تكرار السيناريو ذاته في عهد الرئيس محمد حسني مبارك. خلصت الدراسة إلى أنّ المحاولات الأربع لها صلة واضحة ببعضها؛ فكريًا وتنظيميًّا، وجميعها متأثرها بسيد قطب، أو الإخوان، ودائمًا يوجد عناصر هي قنطرة بين التنظيمات المتناسلة. ولم يشر الباحث إلى أن هذه القناطر يتم الترويج لانشقاقها باستخدام الانقلابات الداخلية للجماعة.
بدوره يستعرض الباحث المصري سامح فايز الانقلابات الداخلية داخل جماعة الإخوان منذ مزاعم انقلاب حسن البنا على رفاق دربه في البدايات، أو بالأحرى محاولته إقصاء المؤسسين الآخرين وتفرده بقيادة الجماعة وتوجهها، مما زرع بذور الشقاق الأولى. ثم محاولة تأويل انقلاب عبد الرحمن السندي على المرشد الثاني حسن الهضيبي أوائل الخمسينيات، عندما تمرد جناح «النظام الخاص» العسكري على قيادة الجماعة. ينتقل الباحث بعد ذلك إلى انقلاب مصطفى مشهور ورفاقه في تسعينيات القرن الماضي، حين أطاحوا عمليًا بالقيادة التاريخية ممثلةً بعمر التلمساني ثم محمد حامد أبو النصر، ليفرضوا خطًا قطبيًا أكثر تشددًا في صلب التنظيم. وصولًا إلى صراعات ما بعد ثورة 30 يونيو (حزيران) 2013 في مصر، حيث انشطرت الجماعة إلى جبهات متصارعة -جبهة محمود حسين في مواجهة جبهة محمد كمال ثم إبراهيم منير- بلغ الخلاف بينها حد التخوين المتبادل والإقصاء التنظيمي في السنوات الأخيرة.
يتناول المفكر والأكاديمي التونسي محمد الحدّاد تجربة الحركة الإسلاموية في تونس ممثلةً بشكل أساسي في حركة النهضة، كاشفًا عن خيط انقلابي مزدوج: أحدهما مسلّح والآخر ناعم. يستعرض الباحث محاولة انقلابية مبكرة قادتها أطراف إسلاموية في العام 1987 للإطاحة بنظام الرئيس الحبيب بورقيبة؛ في محاولة لم يُكتب لها الظهور العلني لأن وزير الداخلية زين العابدين بن علي استبقها بانقلاب طبي. كشفت مذكرات الجماعة وأفراد تنظيمها السري لاحقًا، أنّهم تحصلوا على تخطيط متقدم في محاولة 1987 تضمن سلاحًا ثقيلًا وطيرانًا، وأجهزة متكاملة لضمان نجاح التحرك كما كشفته شهادتهم اللاحقة، ولولا انقلاب ابن علي، لنجح انقلاب الإخوان وحكموا تونس. ينتقل الحداد بعد ذلك إلى فترة ما بعد 2011، مفككًا مفهوم «الانقلاب الناعم» الذي مارسته حركة النهضة خلال المرحلة الانتقالية عقب سقوط نظام ابن علي، وأثناءه.
لشرح فكرة التحريض على التغيير وتبريره عبر آليات الثورة والانقلاب، قدّم الأكاديمي المصري عماد الدين إبراهيم عبد الرازق إطارًا فلسفيًا لمفهوم الانقلاب بوصفه ظاهرة فكرية تؤسس للفعل السياسي وتسبقه في آنٍ واحد. انطلق الباحث من توضيح دلالة مصطلح الثورة (Revolution) التي انتقلت من حقل العلوم الطبيعية (منذ ثورة كوبرنيكوس العلميّة والإبستمولوجيّة) إلى الحقل السياسي والاجتماعي، فأخذ المفهوم بُعدًا استعاريًا يعكس فكرة التغيير الجذري والانقلاب على القديم المستقر. كما أشار إلى استخدام المفهوم الهيغلي «النفي الجدلي» أو «التجاوز» مبيّنًا أن الثورة الفلسفية عند هيغل ليست انقلابًا تامًا يلغي القديم كليًا، بل هي حركة جدلية تحتفظ بعناصر من الماضي في البنية الجديدة. أوضح الباحث سعي بعض المفكرين والجماعات السياسية، مثل الإخوان المسلمين، توظيف هذه المفاهيم بشكل جزئي ومبتسر، محولين «التجاوز الهيغلي» إلى انقلاب عنيف على الواقع الاجتماعي والسياسي المستقر. وشرحَ البحث مساهمات مدرسة فرانكفورت، بدءًا من ماكس هوركهايمر (Max Horkheimer) ونظريته النقدية الرامية إلى مساءلة البداهات والمسلمات الاجتماعية، وإعادة تقييم الأنساق المعرفية، ثم تيودورأدورنو (Theodor Adorno) الذي وسّع هذه النظرية إلى ما عُرف بـالديالكتيك السلبي منتقدًا العقل الأداتي وهيمنة العقلانية الأداتية، وصولًا إلى حنة آرندت (Hannah Arendt) التي قدّمت تحليلًا نقديًا للعنف بوصفه أداة سياسية، محذرةً من مخاطر الاعتماد عليه، ومبيّنة أن العنف لا يؤسس مسارات سياسية مستقرة، بل هو دليل على فشل السياسة في إيجاد حلول سلمية لأزماتها، حتى لو استُخدم كشرط ثوري مؤقت، إلا أنّ القراءات المبتسرة عكست رؤاها، ووظفتها لتمجيد فعل الثورة. تناول الباحث تحولات النظرية النقدية بعد الثورة الطلابية في فرنسا العام 1968، حين جرى مراجعة وتعقيل الكثير من الطروحات المتطرفة، لتصل إلى نضج فكري يعلي من قيمة الاستقرار السياسي والاجتماعي. وانتقد الباحث كيف أن الجماعات المتطرفة تجاهلت هذه العقلانية، مستفيدةً من الانتقائية الفلسفية لتبرير الفوضى والعنف بوصفهما وسيلتين أوليتين للتغيير، بدلًا من استيعاب قيمة الاستقرار بوصفه شرطًا لاستدامة التحولات الاجتماعية والسياسية.
قدمت الباحثة الجزائرية عبير شليغم في دراستها ملامح التجربة الجزائرية فشرحت عوامل انتشار الفكر الإسلاموي الجزائري وتغلغله شعبيًا، ثم الأسباب المؤدية إلى تراجع المد الإسلاموي بعد صدامه مع الدولة. أما الباحث المغربي أنس الشعرة فتناول وثيقة جماعة العدل والإحسان المغربية؛ التي حافظت على أحلام الخلافة؛ ملاحظًا أن الجماعة، على الرغم من رفضها المشاركة في المؤسسات الرسمية (كالانتخابات والأحزاب)، لم تتردد في تصدير السخط وتأجيج المشاعر الاحتجاجية في الشارع المغربي كلما سنحت الفرصة، معتبرةً أن الفوضى الاجتماعية قد تكون ممهّدًا لتغيير جذري يصب في صالحها بالنهاية. وحتى إذا تخلّت ظاهريًّا عن بعض الأفكار؛ فإنّ أساليب القومة والجماعة لا يزالان يسيطران عليها.
تطرق الباحث التونسي عبيد الخليفي في دراسته إلى الخلايا النائمة في التنظيمات الإرهابية، فدرس استراتيجية الفوضى المستترة التي تعتمدها الحركات الجهادوية العنيفة من لدن الإخوان، وتنظيمي القاعدة وداعش، لبناء خلايا نائمة؛ وتأسيس دولة الظل الخاصة بها داخل المجتمعات المستهدفة. فتنشر الفوضى بأساليب واسعة، بدءًا بوسائل الاحتجاج أو الانقلاب الصريح، في فترة، وتوظف الكمون والتقية سلاحًا لزعزعة الاستقرار من الداخل بشكل مباغت في الفترات الأخرى. استعرضت الدراسة تطوّر تكتيكات الخلايا النائمة من عهد القاعدة إلى عصر داعش؛ شارحةً كيفية استفادة التنظيمات الجهادوية من التجارب السابقة، لبناء شبكات سرية عابرة للحدود، قادرة على تنفيذ ضربات نوعية تشل الحكومات وتروّع المجتمعات دون الحاجة لسيطرة إقليمية مباشرة. ينبّه الباحث إلى أنّ بناء الجماعة لكتائب الظل في انتظار اللحظة المناسبة.
يُختتم الكتاب بدراسة الباحث والأكاديمي المصري، محمود الطباخ حول جيل الصحويين المعاصر؛ المنبعث من الشام، تحت عنوان «استيراد الثورة وتصدير السخط». يشرح فيها نشاط مجموعة من الناشطين؛ لتكدير جيلٍ عريض في دولٍ عربية عديدة؛ قابل للسخط، يربط بين رموزه الصحوية الراهنة وجذور مشايخهم القطبية، التي تمر عبر القنطرة الصحوية. يستخدم الجيل الثورة والانقلاب ويؤصل لخلايا نائمة؛ تبث باسم العلم الشرعي، ويضع نتيجة نهائية أشبه بالانقلاب، حسب الدراسة.
في الختام، يتوجه مركز المسبار للدراسات والبحوث بالشكر للباحثين المشاركين في الكتاب والعاملين على خروجه للنور، ويخصّ بالذكر منسق العدد، ونأمل أنْ يسد ثغرة في المكتبة العربية.
رئيس التحرير
عمر البشير الترابي
مارس (آذار) 2025