تقديم
يتناول مركز المسبار للدراسات والبحوث في كتابه «الشرع الجديد… الخلافةُ المؤجلة: من إدلبستان إلى دمشق، تحولات الهيئة وتحديات الدولة» (الكتاب الثامن عشر بعد المئتين، فبراير (شباط) 2025)، المتغيرات السياسية في سورية، والتطورات التي أوصلت «هيئة تحرير الشام» إلى دمشق، فيركِّز على تحوّلات قائدها، منذ يفاعته إلى جلوسه في قصر الشعب، مرورًا بفكّ ارتباطه بتنظيم القاعدة، ورعايته لتجربة حكومة الإنقاذ في إدلب، ثم نهايةً بمحاولات مدّ صلته بالعالم، وانخراطه في مواجهة داعش.
يستهل دراسات الكتاب، الباحثُ المصري المتخصص في الحركات الإسلاموية ماهر فرغلي، باستعراض سيرة أبي محمد الجولاني؛ في عهدته الجماعاتية، ومسيرته منذ بدايات تأثره بأفكار السلفية الجهادوية، وانضمامه إلى أبي مصعب الزرقاوي في العراق عقب الاحتلال الأميركي عام 2003، ثم عودته إلى سورية مع اندلاع الاحتجاجات عام 2011. تتبع الباحث تحوّلات الجولاني من تأسيسه «جبهة النصرة» وتحوّلها إلى فرعٍ محلي لتنظيم القاعدة في ذروة سنوات الفوضى الأولى، ثم انشقاقه عن تنظيم داعش ورفضه بيعة أبي بكر البغدادي عام 2013، وصولًا إلى فكّ ارتباطه العلني بالقاعدة عام 2016، وتغييره اسم تنظيمه إلى «جبهة فتح الشام»، ثم إلى «هيئة تحرير الشام» عام 2017. متتبعًا تبريرات زعيم الهيئة لكل هذه التحولات، وقدرته على المناورة بين الولاءات المتعارضة، محافظًا على موقعه القيادي عبر تغييرات متكررة في التكتيك والتحالفات، من غير أن يتخلى جوهريًا؛ أو يكشف بجلاء، عن مشروعه الخاص. يراعي الباحث أنّها سيرة تتغيّر، بسبب البروز الكثيف لمصادر جديدة، إثر انتفاء السريّة، ولكنّ ضبطها بالمصادر القديمة، مهم، لا بغرض تحنيط الاتهام، ولكن لتوفير مادة بحثية للمقارنة، وقياس الاتساق، وتدقيق المصادر، وتوثيق الخروقات المعلوماتية، وتقويم جديّة علوم دراسة التطرف والإرهاب، وحدود سلطتها المعرفية.
ثم يقدّم الباحث العراقي المتخصص في مكافحة الإرهاب عمر ضبيان قراءة تاريخية تفصيلية لنشأة تنظيم «جبهة النصرة» وتحولاته حتى استقراره على «هيئة تحرير الشام». مستعرضًا البنية الداخلية للجبهة وهياكلها منذ لحظة تأسيسها الأولى وما آلت إليه بعد أكثر من عقد. تهتم الدراسة بالتحوّلات التنظيمية الكبرى التي شهدتها الهيئة، بما في ذلك الانشقاقات والصراعات الداخلية التي كادت أن تعصف بوحدة التنظيم، ويضرب بقضية الخلية الأمنية التي حاولت الانقلاب على الجولاني، في إدلب المثال. وما رافقته من اتهامات حامية ومتبادلة بين الجماعات الجهادوية؛ وجه بعضها إلى قادة الهيئة، فوصفتهم بـ«المفحوصين» أي «التعرّض للفحص من قبل المخابرات الأميركية»، وربما التعاون معها لتصفية بعض قادة داعش ثم القاعدة. حاول الباحث تتبع زعم انتقال خطاب الجماعة تدريجيًّا من لهجة الجهادوية العالمية المرتبطة بالقاعدة، إلى لهجة محليّة تحاول تصوير نفسها محليًّا؛ في إطار «الشام»، ومظالمه، دون أن تفقد اتصالها بالمقاتلين الأجانب المتوافدين عليها بهدف «نصرة الشام». يقدم الباحث لفتة ديموغرافية؛ تشرح الامتدادات القبائلية لقادة التنظيم، حتى المغتالين منهم مثل القيادي أبي مارية القحطاني، وأثرها على النسيج، وفرص تنظيمي القاعدة وداعش اليوم.
ربما لا يوجد افتراض جازم بانتهاء العلاقة بين هيئة تحرير الشام والقاعدة؛ إذ كان فكّ الارتباط خاضعًا لظروف ملتبسة، ولكن إحدى مدارس الواقعية السياسية تجاوزت المسألة، بنظرية تشبه فكرة «تحصين الجدار المائل». لذا قدم الكتاب دراستين: الأولى للباحث العراقي رائد الحامد، الذي تطرق إلى تاريخ العلاقة بين التنظيمين والتوتر بينهما، موثقًا نشوء جبهة النصرة؛ زاعمًا أنها بإيعاز من القاعدة، ويمر بالمراحل وصولًا إلى فك الارتباط التي حكمتها ضرورات الميدان، والترتيب الإقليمي، فبالرغم من وصف المنظرين الجهادويين لها بالخيانة، فإنهم يقرون بأنها فرصة فتحت أبواب التعاون مع بعض الإقليم. ثم أدت إلى نشوء «تنظيم حراس الدين»؛ بغرض حراسة وتنظيم بقايا الموالين للقاعدة في سورية حينها. بينما استشرف عبدالله الحايك، مستقبل «القاعدة» بوصفها تنظيمًا يستطيع إعادة ترويج نفسه؛ بعد ضرورات تحوّل الهيئة إثر بلوغها دمشق. فيطرح الباحث سيناريوهات عدة من بينها: تأسيس تنظيم جهادوي جديد، ربما يرفع مجددًا راية القاعدة أو شعارًا مماثلًا، إذا قررت الإدارة السورية الجديدة تقديم؛ ما قد يوصف بتنازلات للمجتمع الدولي. أو الذوبان في السلطة الجديدة، والعمل معها. وبوبت الدراسة؛ بما يوحي بفرضيّة توظيف القاعدة، أو نسخة منها؛ للقيام بدور خارجي يشبه دور الحرس الثوري، دون أن تفصح عن الظروف التي تمكّن منه، على الرغم من تأكيد الإدارة الجديدة عدم رغبتها في التدخل الخارجي باستخدام المقاتلين الأجانب الذين في حوزتها.
بدوره رصد المستشار في مجموعة الأزمات الدولية جريجوري ووترز (Gregory Waters) بقايا داعش المنتشرة في جيوب البادية السورية بعد هزيمته الإقليمية الكبرى. يجيب ووترز عمّا تعلمه التنظيم بعد خسارته السيطرة على مدن وبلدات، إذ اضطر إلى الاختباء في تضاريس الصحارى الوعرة، لكنّه لا يزال يسيطر على آلة خطابية، موثوقة، حيث يحاول استغلال الفراغ الأمني للقيام بهجمات خاطفة وزرع الفوضى، وكسب أو استعادة ولاء جنوده القدامى، ووراثة طرق التهريب التي تركها خصومه. وعلى الرغم من الضربات التي تلقاها، يشير الباحث إلى أن خطر داعش لم يُستأصل؛ فلا تزال خلاياه قادرة على إرباك واستنزاف الجميع، ما يطرح تساؤلًا حول مستقبل التنظيم: هل يصبح مجرد عصابات متنقلة على هامش الصراع، أم إن الظروف قد تتهيأ مجددًا لنموه، لأداء دورٍ وظيفي في الداخل السوري أو في الإقليم؟
قدّم الصحفي الاستقصائي السوري حسام حمود دراسة ميدانية عن واقع مخيمات الاحتجاز في شمال شرق سورية بعد هزيمة تنظيم داعش، فيركز على مخيمي «الهول» و«روج» وواقعهما الديموغرافي والاجتماعي، ويتطرق إلى أوضاع النساء المؤيدات للأيديولوجية المتطرفة ونشاطهن فيما يسمى بـ«الحسبة النسائية»، لا سيما في مخيم الهول. يعرض البحث لأبرز مواقف الدول الأوروبية من استعادة مواطنيها المتورطين في الإرهاب من هذين المخيمين، والتحديات التي تواجه عملية إعادة تأهيلهم، يأتي ذلك في ضوء مشاهدات ميدانية استند إليها الصحفي الاستقصائي، كما تناول ملف سجن الحسكة، ومناطق اعتبرها بؤر تجنيد محتمل، مشيرًا إلى الصعوبات السياسية التي تحول دون إيجاد حل حاسم لهذا الملف الشائك، الذي تتقاطع فيه مسؤوليات محلية ودولية، ملاحظًا أن الخطر داخل أسوار المخيمات، والسجون، يفوق كل وصف، وتقدير، ويجعل تكرار انبعاث ظاهرة تطرفية مكتملة الأركان ممكنًا؛ إن لم يكن حتميًّا، خاصةً في ظل الانتقال من مكافحة التطرف إلى التوازن معه.
وعلى المقلب الآخر يقدم الباحث فيليب سميث (Phillip Smyth) إطلالة على بقايا النفوذ الإيراني في سورية بعد 8 ديسمبر (كانون الأول) 2024، وفقدان إيران طريق الإمداد البري؛ لحزب الله. يستعرض الباحث تطور الإستراتيجية الإيرانية في سورية على مدار أكثر من عقدين، لا سيما مع انتشار الفصائل المسلحة الموالية لها، مسلطًا الضوء على شبكات التهريب التي يديرها منتسبون لـحزب الله وغيره؛ كسبيل للاستمرار والتربح في مرحلة ما بعد الحرب. كما يناقش مفهوم «مجموعات الواجهة» (Front Groups) التي ربما تلجأ إليها طهران لترسيخ حضور غير مباشر يضمن مصالحها، إذا ما تقلص دورها الرسمي، كما يتطرق إلى حوادث مثل حرب العشائر في بعض المناطق الحدودية.
في حين ركز الباحث زين العابدين العكيدي، على نشأة قوات سورية الديمقراطية (قسد) والتغيرات البنيوية التي مرت بها ومحاربتها تنظيم داعش، ونموذجها الحوكمي في مناطق شرق سورية، والتمرد العشائري في دير الزور عليها، طارحًا عددًا من السيناريوهات حول مستقبلها. أما الباحث أيمن الدسوقي فتناول نشأة «الجيش الوطني السوري» عام 2017، ضمن ترتيبات المعارضة المدعومة من أنقرة، وتتبّع مراحله التنظيمية والعلاقات المتشابكة مع تركيا، وهيئة تحرير الشام، وقوات سورية الديمقراطية.
في الختام، يتوجه مركز المسبار للدراسات والبحوث بالشكر للباحثين المشاركين في الكتاب والعاملين على خروجه للنور، ويخصّ بالذكر الزميل عمر ضبيان، منسق العدد، ونأمل أنْ يسد ثغرة في المكتبة العربية.
رئيس التحرير
عمر البشير الترابي
فبراير (شباط) 2025