في ضوء التحولات التي طالت مفهوم القوة وشكلها وأدواتها، أُلقي الضوء على مقالٍ بعنوان (ما يمكن أن يعلمنا كلاوزفيتز عن الحرب في وسائل الإعلام الاجتماعي)[1]، نُشر في المجلة الأمريكية (الفورن أفيرز) ضمن عدد أكتوبر (تشرين الأول)- نوفمبر (تشرين الثاني) 2018، كتب بواسطة الاستراتيجي الأمريكي بيتر سينجر، والباحث السابق في مجلس العلاقات الخارجية إميرسون بروكينج.
صدر تحت عنوان (حرب الإعجاب: تسليح وسائل الإعلام الاجتماعي) كتابٌ لكل من بيتر سينجر وإميرسون بروكينج، تفيد خلاصته بأن وسائل التواصل الاجتماعي قد باتت ساحة حرب، وسواء كان الهدف هو الترويج لحزب ما في فترة انتخابات أو معركة أو حتى لتسويق سلعة، فإن الجميع في مواقع التواصل الاجتماعي يستخدم التكتيكات نفسها. وبفعل هذه الحرب فإن الفجوة ما بين المدنيين والسياسيين، تتلاشى؛ وكذلك تتضاءل المسافة بين معجبي الترفيه والسياسة، وتدريجيًا تذوب الفوارق بين الحرب والسلام!
يعود المقال إلى فلسفة الخبير الاستراتيجي العسكري كارل فون كلوزفيتز، وارتكز كاتباه على نظرياته حول تكتيكات الحرب، وأطروحته الشهيرة “في الحرب”، سعيًا منهما إلى فهم حروب وسائل الإعلام الاجتماعي اليوم. يعتقد الكاتبان أن تنظيرات كلوزفيتز، الذي ولد قبل (200) عام من اختراع الإنترنت، يمكن أن تفسر لنا ما يحدث في العالم اليوم. وهذا مثير؛ فإلى أي حد القوالب متشابهة؟
كانت ملاحظة كلوزفيتز الأشهر حول طبيعة الصراع نفسه، ففي رأيه أن الحرب هي السياسة بوسائل أخرى. أو كما قال: “استمرار العملية السياسية مع إضافة وسائل أخرى”، فالعملية السياسية تستمر بصرف النظر عن الوسائل التي يتم توظيفها فيها.
بعبارة أخرى، اعتقد كلاوزفيتز أن الحرب جزء من سلسلة عمليات متصلة تشمل التجارة والدبلوماسية وكل التفاعلات الأخرى التي تقع بين الدول. فالحرب –ببساطة- طريقة أخرى للحصول على شيء تسعى إلى تحقيقه. كان الفوز بالمعركة -حسب تنظيرات كلوزفيتز- مرتبطاً بكيفية تشكيل أو تحطيم روح منافسك، ففي حال نجحت في ذلك، قد تربح الحرب مع تجنب جيش العدو بالكامل.
ما الجديد؟
يُوضح المقال كيف كان هذا الأمر غير فعال قبل انتشار الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي. مشيرًا في هذا السياق إلى الحرب في فيتنام الشمالية، حين ألقت القوات الأمريكية فيها عشرات الملايين من المنشورات التي استخدمها الفيتناميون على الفور كورق للحمام! أو كيف فشل القصف العشوائي العنيف الألماني على المملكة المتحدة في دفع الإنجليز إلى الاستسلام. فلم تتمكن القوة العسكرية من السيطرة أو تحطيم عزيمة خصومهم بسهولة. ولكن تطبيقات شبكة الإنترنت غيّرت كل ذلك، ولم تعد مهاجمة مركز ثقل العدو -عقول وقلوب الشعب- تحتاج إلى عمليات قصف ضخمة أو مقدار كبير من الدعاية غير الفعالة.
هذا النص راج في الأوساط العربية بشكلٍ مختلف، سمي حروب الجيل الخامس، أو الرابع، وهي تعتمد على تحديد موقع الثقل من جهة، وأطراف العدو من جهات أخرى. ولكنها فلسفة الصراع فكيف وفّق الكاتبان رؤيا اللاسلام واللاحرب المتداخلة هذه؟
أطلق الكاتبان في المقال اسماً جديداً على هذا الصراع “Like War”. بالطبع المصطلح له أوجه قراءة تتسع، ولكن استخدام المفردة Like كان ذكيًا. على أي حال، يشير إلى أنها تتسم بالعديد من ملامح الحرب التي حددها كلازويتز، قبل قرنين، ولكن مع ظهور (الإعجابات) كعملة لهذا العالم. فإذا كانت الحرب السيبرانية قد مثلت الحرب على شبكات الإنترت، فإن حرب الإعجاب تقوم بقرصنة الأشخاص على تلك الشبكات، إنه مكان تستخدم الوحدات العسكرية فيه تقنيات حرب المعلومات -تغيير الانتخابات، وغيرها- العملية التي تغير مسار المعارك العسكرية، ولعل هذه الحرب تُمثل تطورًا جديدًا للحروب التقليدية بشكل مختلف. لقد شكلت طورا مفاجئا وخطيرا في الحرب والسياسة الدولية.
لماذا؟
إن ما يلزم لتحقيق الفوز فيها، سواء كانت حربًا تسويقية، أو حقيقية، يكمن في القدرة على جعل شيء ما ينتشر بسرعة، وبهذا يمكنك أن تطغى على الحقيقة نفسها. وقد أشار المقال في هذا الصدد، إلى الاتهام الأمريكي الشهير بـ”قيام روسيا بتوظيفها أخيرًا”، الأمر الذي جعلها تنهض بمصالحها خلال العامين الماضيين. كما ألقى المقال الضوء على “تنظيم الدولة” داعش، زاعمًا أنه نجح في توظيف وسائل الإعلام الاجتماعي، وتقنيات القرن الحادي والعشرين، وهو الأمر الذي جعلهم يتخطون القاعدة وغيرها من التنظيمات الإرهابية.
لقد غيَرت هذه الحرب المعتمدة على الإعجابات في منصات التواصل الاجتماعي المفاهيم، اعتمدت على مدى سرعة انتشار المعلومات وأمد انتقالها وسهولة الوصول إليها. وقد أعاد هذا صياغة كل شيء من الخطط العسكرية إلى العمليات الإخبارية والحملات السياسية. ومع أن الحقائق باتت متاحة على نطاق أوسع من أي وقت مضى، إلا أنه يمكن دفنها في بحر من الأكاذيب. ويقترح المقال أن يقوم المسؤولون عن منصات المواقع الاجتماعية المهمة، مثل فيسبوك وتويتر بمراقبة هذه المنصات بشكل أفضل.
ارتبطت الحروب سابقا بساحات المعارك، وكان مقياس قوة الدولة مرتبطا أساساً بقدراتها الاقتصادية والعسكرية. ونتيجة لثورة المعلومات، والتطور الكبير والمستمر الحاصل في مجال التكنولوجيا والاتصالات، طرأت تحولات على مفهوم القوة، نظرا لعدد من التغيرات التي نشهدها على مستويات عدة، وكذلك، تغير الطرف الذي يستطيع أن يمتلكها. ففي الماضي، احتكرت الحكومات ممارسة القوة، كما احتكرت الحكومات المعلومات. واليوم، تنتشر القوة في العالم بدلاً من أن تتركز، وتنتشر المعلومات التي بات من السهل التحكم بها، وبجهود فردية، وفي أي وقت، وبكثافة أكبر مع انتشار مواقع وتطبيقات وسائل التواصل الاجتماعي.
إحدى السمات الرئيسة للنظام الدولي الحالي تتمثل في خسارة الدولة احتكارها للقوة، في ظل صعود وتزايد الميليشيات المسلحة والأحزاب السياسية والمنظمات الإرهابية، الأمر الذي أدى، كما وصفه السياسي الأمريكي ريتشارد هاس بالوصول إلى النظام اللاقطبي -النظام الدولي الذي لا تسيطر عليه قوة واحدة أو أكثر- بل تؤثر فيه عشرات القوى.[2] وربط هاس، وخبراء آخرون انتشار القوة، بانتشار المعلومات. ومع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، باتت هذه المنصات فعليا جزءًاً من المعارك، توظفها الدول والفواعل من غير الدول وكذلك الأفراد، كل لتحقيق أهدافه المختلفة. حيث تلعب دورًا مؤثرًا في العملية السياسية، كما في الانتخابات والتغيير السياسي والضغط على الحكومات، كما كان واضحاً أخيراً منذ أحداث “الربيع العربي”، وما تلاها من توظيف الجماعات الإرهابية لها. لقد تغير العالم بشكل كبير، وسيستمر بالتغير، وربما بوتيرة أسرع.
تُعتبر الأخبار الكاذبة حول الحرب والدعاية والسياسة، من أهم الأدوات التي توظف في معارك وسائل التواصل الاجتماعي، لكسب العقول والقلوب، من خلال التلاعب بالسرد والعاطفة. ذكر مقال نُشر في صحيفة (نيويورك تايمز) الأمريكية يقول الكاتب فيه: “إن الأكاذيب التي تتخفى تحت اسم الأخبار هي قديمة على قدر قدم الأخبار نفسها. تاريخ يجب أن نضعه بالحسبان وسط الذعر الحالي بسبب “الأخبار المزيفة”، معتبرا أن الأخبار المزيفة “لم تعد الرسمية فقط”. وبذلك فإن طريقة وكثافة انتشار هذه الأخبار، في الوقت الحالي، والسهولة في ذلك، الأمر الذي تغير.
في الختام
حروب السايبر والإنترنت لم تعد محصورة في زاوية خيارات القرصنة والتشفير فقط، وإنما عادت مرة أخرى للتحصين الفكري والاختراق الثقافي، ولا أدل على عودتها من محاولة المفكرين تفسيرها بنظريات قُدِحت قبل مئتي عام. فما نحن فاعلوه لزيادة مصداقية “الحقيقة” في بازار تفوز فيه الأكاذيب!
[1] –P. W. Singer and Emerson. T. Brooking, “What Clausewitz can teach us about war on social media,” foreign affairs, https://goo.gl/2CWDbv