من يتابع ما يجري على الساحة اليمنية منذ انطلاق “عاصفة الحزم” وحتى الآن، يجد أن الآراء على اختلافها وتناثرها، بل وتعارضها وصدامها، وتراوحها بين التحليل السياسي والدعاية الحربية، قد اجتمعت، سواء بشكل صريح أو مضمر، على ثلاثة احتمالات عن الكيفية التي تضع بها هذه الحرب أوزارها، الأول: هو تدخل دولي حاسم إن لم يكن لإنقاذ اليمنيين من الحالة البائسة التي يعيشونها، فعلى الأقل لحماية الخط الملاحي الذي يشكل الطريق التجاري الأبرز في العالم. والثاني: هو انتفاض الشعب اليمني في الشمال لإنهاء معادلة اختطاف السلطة والثورة من قِبل الحوثيين والعودة إلى صيغة توافقية مختلفة لتوزيع القوة بما يحفظ لكل طرف وجوده ومصالحه النسبية. أما الثالث: فهو إقرار الحوثيين بأن استمرارهم في الحرب بات مكلفا، وبالتالي يؤمنون بأن الوقت قد حان للذهاب إلى الحل السياسي، لا سيما أن خط إمداد “التحالف” مفتوح بلا نهاية، وأهدافه تشتبك مع تصورات أو خطط واستراتيجيات أبعد في إطار مواجهة النفوذ الإيراني المتنامي في المنطقة.
وترتبط هذه الاحتمالات الثلاثة بمعركة الحديدة التي تدور رحاها في غرب اليمن حاليا، بما يمكن أن يجعل منها حجر الزاوية في تحولات الحرب الدائرة منذ ثلاث سنوات، حال تثبيت العوامل الأخرى التي تجعل الصراع معقدا لدرجة يرى معها البعض أن نتيجة حاسمة ما هناك قد تحقق السلام الغائب، لا سيما أن بعض حلفاء الحوثيين قد انقلبوا عليهم وساعدوا قوات التحالف في التقدم باتجاه الحديدة، ووصلت مساعدتهم لذروتها مع الهجوم الأخير.
فهذه المعركة المختلفة جذبت التدخل الدولي إلى منطقة أقرب، بعد سنوات من التلكؤ أو التردد والاكتفاء بالتماس مع المعضلة اليمينية من بعيد، ولعل الخطوة التي أقدمت عليها فرنسا حين أعلنت أنها تدرس إمكانية تنفيذ عملية لإزالة الألغام للسماح بدخول ميناء الحديدة اليمني بمجرد اكتمال العملية العسكرية التي ينفذها التحالف، تكون نقطة الجذب لأطراف دولية أخرى، من بينها الولايات المتحدة الأمريكية، إلى الضغط في سبيل فتح الطريق أمام التفاوض، لا سيما مع تحديد موعدا لالتقاء تجمع يضم عددا من الدول والمنظمات الدولية، وتشارك في رئاسته الرياض، يوم 27 يونيو (حزيران) الجاري لمناقشة “الوضع الإنساني الطارئ في اليمن”، وإن كانت استفادة بعض الدول من استمرار الحرب، سواء لبيع سلاح للطرفين المتحاربين، أو المواجهة غير المباشرة مع إيران، يضعف من إمكانية هذا التدخل الدولي الحاسم.
وفي حال ما إذا طُرد الحوثيون وفقدوا القدرة على الاحتفاظ بخطوط الإمداد، التي تمثل الحديدة نقطتها الرئيسة، فقد يخسرون الحرب. ولا يوجد ما يضمن أن ينحي المنتصرون خلافاتهم جانبا ويسعوا لبناء سلام حقيقي، خاصة أن من شأن السيطرة على الحديدة ترجيح كفة التحالف العربي في الحرب، إن نجح في السيطرة بسرعة على المدينة التي يسكنها (600) ألف شخص دون تدمير الميناء.
ويبقى احتمال انتفاض اليمنيين في الشمال قائما في الحالتين: حسم معركة الحديدة سريعا، أو استمرارها لفترة أطول. فالحسم يعني فقدان الحوثيين المكان الرئيس الذي يمثل نقطة إمدادهم بالسلاح، الذي إن قل في أيديهم فقد يشجع التمرد عليهم، لا سيما مع الانقسام الجاري في صفوف حلفائهم، ومنهم الذي يشارك التحالف في معركة الحديدة حاليا. أما إطالة أمد المعركة فسيؤدي إلى تفاقم الوضع الإنساني البائس في شمال اليمن، وقد لا يتحمل السكان، الذين يعانون من نقص حاد في الأغذية والأدوية والوقود، استمرار هذا الوضع، فيهبون في احتجاجات على حكم الحوثيين الملزم بتدبير احتياجات المواطنين في المناطق التي تخضع لسيطرتهم، لا سيما مع تحكمهم في مفاصل الدولة ومؤسساتها في شمال اليمن حاليا.
لهذه الأسباب، فإن معركة الحديدة ستعيد صياغة أوزان القوة على الأرض، وهي مسألة يدركها التحالف جيدا، في سعيه إلى إفقاد الحوثيين نقطة إمدادهم الرئيسة، وإشعار الدول الكبرى بالخطر الذي يمثله هؤلاء على مصالحها بعد استهداف ناقلات نفط عملاقة، وسفن تجارية، تعبر من المحيط الهندي إلى البحر الأحمر، حيث تأخذ طريقها إلى أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية.
كما تدرك قوات التحالف أن الحديدة، التي تقع على ساحل البحر الأحمر، وتبعد عن العاصمة صنعاء بمسافة تصل إلى حوالي (226) كيلومتراً ويقطنها (11%) من إجمالي السكان، وتنتج (28.6%) من إجمالي الإنتاج الزراعي في البلاد، ستكون هي نقطة انطلاقهم الكبرى للزحف شمالا على الساحل لمحاصرة الداخل اليمني ذي الطبيعة الجغرافية المعقدة، والذي يمنح الحوثيين نقاطا دفاعية في سبيل إطالة أمد الحرب.
وقد عكس بيان للتحالف هذا الفهم بجلاء، حين قال: “نحن على مشارف المطار ونعمل على تأمينه الآن(…) سندخل قريبا المرحلة المقبلة من العمليات للضغط على الحوثيين على عدة جبهات، بما في ذلك النقاط الساحلية ومشارف أخرى للمدينة، ومن داخل المدينة نفسها مع المقاومة المحلية”، والحقيقة أن معركة الحديدة هي أبرز محاولة من التحالف لانتزاع السيطرة على مدينة كبيرة شديدة التحصين بهذا الشكل.
على الجانب الآخر، يدرك الحوثيون علاقة هذه المعركة بالتوازنات العسكرية في قابل الأيام، لذا يستميتون في التمسك بهذه المدينة، وتعاند إيران (حليفهم) في جعلهم مستعدين لدفع ثمن باهظ من عددهم وعتادهم في سبيل هذا، ففقدانهم الشريط الساحلي يعني تضييق الخناق عليهم، ودفعهم إلى الاعتقاد بأن استمرار الحرب ليس في صالحهم.
هذا الإدراك المتبادل ينبع من أن هذه المعركة تمثل نقطة تحول كبرى في الحرب، تجعل بوسع الجميع أن يقر بأن ما بعد الحديدة سيكون مختلفا كثيرا عما قبلها، لكن في النهاية فإن الحرب في اليمن ليست استثناء من القاعدة السارية في تاريخ الحروب، والتي تقول: إنها تنتهي على مائدة السياسة، طالت أم قصرت، في ظل تبادل المواقع بين “الحرب” و”السياسة” بحيث تصبح كل منهما هي ممارسة للأخرى بطريقة مختلفة. وإذا كان التحالف في حاجة إلى نصر مؤثر يجعله يذهب إلى التفاوض من موقع قوة، فإن الحوثيين في حاجة إلى شعور طاغ بالهزيمة من أجل قبول التفاوض، وهو أمر قد يبدأ مع خسارتهم لهذه المعركة، أما إن لم يفقدوا السيطرة على المدينة والميناء، فإنهم لن يشعروا أنهم بحاجة ماسة الآن إلى حل سياسي، لا سيما أن معاناة الشعب اليمني لا تعنيهم بقدر ما يشغلهم أن تبقى السلطة في أيديهم.