دبي:
يُعد علم نفس الإرهاب من التخصصات الحديثة في علم النفس. وقد ظهر في الغرب من خلال دراسة موضوعات شائكة كـ”الجماعة الإرهابية” و”الفرد الإرهابي” و”الشخصية الإرهابية”، وتطور في السنوات الأخيرة مستعيناً بمناهج علمية جديدة تحاول -قدر الإمكان- الإحاطة بظاهرة الإرهاب متعددة المستويات.
يقدم علم نفس الإرهاب إطاراً تحليلياً عميقاً يساعدنا على فهم الإرهاب في طبقاته الأعمق والأكثر غموضاً في النفس البشرية. يرى البعض أن الحقول المعرفية الأخرى (الاجتماعية والسياسية والقانونية) أشد إلحاحاً لدراسة هذه الظاهرة المعولمة، لكن من المهم أيضاً تحليل وفهم الإرهاب بأدوات علم النفس، كونه يكشف لنا السلوكيات البشرية العنفية وكيفية اعتمالها (التصرفات، التأثر والتأثير، ردة الفعل) ويحيلنا على إدراكٍ أعمق لظواهر العنف، خصوصاً الجوانب الدينية والسياسية منها، وبذلك يعتبر علم نفس الإرهاب إحدى الطرق العلمية المفيدة لدراسة الإرهاب من نواحٍ عدة: العوامل النفسية لواقع الظاهرة الإرهابية (الشخصية الإرهابية)؛ تحليل الشخصية الإرهابية؛ سلوك وسمات الشخصية الإرهابية؛ الجذور النفسية للإرهاب؛ والعوامل الاجتماعية المؤدية للإرهاب.
يتناول كتاب المسبار “علم نفس الإرهاب: الأفراد والجماعات الإرهابية” (الكتاب الخامس والعشرون بعد المئة، مايو/ أيار 2017) العديد من القضايا المهمة التي تسمح لنا بفهم ظاهرة الإرهاب بأدوات التحليل النفسي، لا سيما في المنطقة العربية. شارك في الكتاب باحثون متخصصون سعوا إلى تقديم تحليلات نفسية في دراسة الظاهرة الإرهابية بكل تشعباتها وتعقيداتها. حاولت الدراسات تغطية “سيكولوجيا الإرهاب” عبر درس مجموعة من المحاور الرئيسة: “سيكولوجية الجماعة الإرهابية ودوافع الأفراد للانضمام إليها”؛ “سيكولوجية الإرهاب: نظرية الإحباط – العدوانية والغضب النرجسي”؛ “الانتحاريون و”الذئاب المتوحدة” أَهُم شخصيات سيكوباتية؟”؛ “العوامل النفسية والاجتماعية المعززة للتطرف لدى الشباب”؛ “السمات الشخصية التقريبية للإرهابي”؛ “إرهاب الجماعات المسلحة من منظور التحليل النفسي”؛ “عقل الإرهابي: مراجعة المناهج السيكولوجية ونقدها”؛ و”الإدارة النفسية لمحاربة الإرهاب: تدابير التحليل التبادلي”.
سيكولوجية الجماعة الإرهابية ودوافع الأفراد للانضمام إليها
تناول أستاذ علم النفس في معهد الدكتوراه في الجامعة اللبنانية مصطفى حجازي -بداية- تصنيفات أنواع الأعمال الإرهابية. ثم يدرس مسألة علاقة العنف الإرهابي بكل من الاضطراب النفسي والسيكوباتية (الشخصية المضادة للمجتمع). ومرد هذا التساؤل هو عدم تصور إمكان صدور هذا القدر من العنف الوحشي، والتفنن بأشكاله المميزة للجماعات الإرهابية من قبل الناس العاديين. ويرى أن مسألة علاقة العنف الإرهابي أصبحت محسومة بالنسبة إلى الشخصية السيكوباتية. فهذه الشخصية تتصف بالأنانية الفردية والجري وراء المصلحة الذاتية، من خلال تضليل الآخرين وصولاً إلى استغلالهم سواء مادياً أم جنسياً. وتالياً فهو أبعد ما يكون عن الاهتمام بقضية كبرى يضحي بذاته من أجلها، كما هو شأن الإرهابي الذي يقدم على التضحية بحياته ذاتها من أجل قضية سامية، والذي يعمل أساساً ضمن جماعة ينتمي إليها، وتدعي العمل أساساً من أجل تحقيق هذه القضية السامية. ويستبعد في دراسته فئات الأمراض النفسية في فئاتها المعروفة، والتي هي بدورها مسألة فردية مكانها المصح العقلي، ويستبعد أن تنخرط في مشروع جهادي استشهادي؛ نظراً لما يمثله الاضطراب من إعاقة على صعيد ممارسة الوظائف العقلية والسلوكية والعلائقية. وتالياً فلقد خلصت سلسلة كبيرة من الأبحاث إلى أنه لا يمكن فهم السلوك الإرهابي من الزاوية السيكوباتية أو المرضية النفسية. وإنما قد ينطبق هذا التوصيف المرضي على بعض حالات القتل الجماعي، التي يقدم عليها بعض الأشخاص الفرديين في المدارس أو الجامعات أو أماكن العمل، مما يرد ذكره في الإعلام الأمريكي. على أنه لا يستبعد أن يعاني بعض المنضمين إلى الجماعة الإرهابية من اضطرابات نفسية تظل ثانوية بالنسبة إلى العمل الإرهابي. إن ظواهر العنف الوحشي التي تصدم المرء وتدخل الرعب أو التقزز إلى نفسه، مما يتم استعراضه على وسائل الإعلام، هي أساساً ظواهر جماعية سيتم الإضاءة عليها في دراسة سلوكات الجماعة الإرهابية وآليات اشتغالها العقلية والتفاعلية. فبالإضافة إلى عقيدة هذه الجماعات الدينية أو العرقية أو الأيديولوجية التي تبرر العنف، تتصف الجماعات بالقدرة على تحرير أفرادها من كوابح عنفهم الفردي بلا حدود في وضعيات التعصب المفرط. كما أن الحالة النفسية للجماعات الإرهابية تتصف بالغنى، وتلقي أضواءً تساعد على الفهم وتدفع إلى التفكير. إلا أنها لا تفسر بحال نشأة هذه الجماعات، ولا يجوز لها أن تفسرها. كما لا يجوز رد هذه النشأة والانتشار متعدد الأشكال والمجالات إلى مسألة المرض النفسي الفردي. ولا بد من تكرار التأكيد في هذا المقام، أن التفسير النفسي أياً كان عمقه لا يجوز بحال أن يبرر هذه الأفعال الهمجية؛ فالتفسير لا يعني أبداً الإعفاء من المسؤولية تحت أي ذريعة كانت، وخصوصاً أن جل الأدبيات المتداولة في الموضوع، هي في جلها افتراضية يعوزها البرهان العملي، حيث لم تجر إلى الآن دراسات ميدانية علمية على عينات من هذه الجماعات الإرهابية، أو على أفرادها وخصوصاً أولئك الانتحاريين الاستشهاديين منهم. والذي لا بد من الوقوف عنده، يتمثل برد هذا العنف البربري الكاسح إلى تعاليم الدين الإسلامي التي يركز عليها فقهاء التفسير، التي حلت محل القرآن والسنة والنصوص الأصلية أو هي اجتزأتها، مركزة على البعد العنفي وطمس الأبعاد الإيجابية للدين، والتي أنزلت رحمة للناس. فنقطة البدء في علاج هذا العنف الهمجي الذي يمارسه كل من الطاغية والإرهابي: الاعتراف بإنسانية المواطن أو الآخر على اختلاف انتماءاته. ويبدأ هذا الاعتراف بوضع حد لنرجسية الطاغية الذي يعتبر أنه البلد والكيان، ولنرجسية الجماعة الإرهابية التي تعتبر ذاتها الجماعة الناجية وكل ما عداها ديار كفر وحرب.
سيكولوجية الإرهاب: نظرية الإحباط – العدوانية والغضب النرجسي
ديفيد باتريك هوتون (DAVID PATRICK HOUGHTON)- أستاذ شؤون الأمن القومي في الكلية الحربية البحرية الأمريكية (Naval War College) والمتخصص في علم النفس السياسي- تساءل عمّا إذا كانت دراسة الإرهاب -خصوصاً منذ 11/9/2001- باتت تفوق كثيراً الوتيرة الفعليّة لتلك الظاهرة. ويقول: إنه بالمحصلة، يفتك الفقر وسوء التغذية بملايين الناس سنويّاً ما يفوق بضعة آلاف الضحايا الذين تحصدهم هجمات الإرهاب، فيما يميل الإرهاب إلى التضاؤل واقعيّاً، وفق بعض المقاييس. نعاني مما سمّاه كاس سانشتاين (Cass Sunstein) “إهمال الاحتمال” (Probability Neglect)، بمعنى الميل إلى المبالغة في تقدير احتمالات الموت بهجمة إرهاب. يرجع ذلك إلى كون الإرهاب يستحثّ ما سمّاه دانيال كاينمان (Daniel Kahneman) “تدافع المتوافر” (Availability Cascade)، إذ يسيطر على العناوين الإخباريّة لكنه يخفي حقيقة أنّ الموت من الإرهاب يمثّل حدثاً نادراً في الغالب. نأى البحث في ذلك الموضوع عن علم النفس بأكمله، وعلى الرغم من ذلك، فإن ذلك البحث أساسيّ، لكن ربما سنعرف أكثر عن الموضوع عبر تطبيق معطيات سوسيولوجيّة أو سوسيولوجيّة- نفسيّة، بالمقارنة مع ما سنعرفه من نظيراتها التقليديّة المستندة إلى دراسة الحالات الفرديّة. إنّ الإرهاب نشاط يستند إلى مجموعة، مما يعني أن الفهم السيكولوجي له يتعزّز عبر مقاربات كالتفكير الجماعي أو نظرية الهويّة الاجتماعيّة، اللتين تركّزان على فعاليّة الجماعيّات بأكثر من النظر في قادة الإرهاب أنفسهم. في العادة، لا يكون الإرهابيّون مجانين أو مختلين عقليّاً مثلاً، على الرغم من أنّ معتقداتهم غالباً ما تكون غير عادية و”خارجة عن التيار العام”. وبالتأكيد، تفضي السريّة والانضباط الذاتي في ذلك النشاط إلى استبعادهم على يد المنظمة الإرهابيّة نفسها. تمثّلت المقاربة التقليديّة لذلك الموضوع بمحاولة فهم الإرهابيّين أفراداً أو قادة، وأعطت موجة الأعمال الإرهابيّة منذ 11/9 دفعاً جديداً لذلك الحقل.
من الأرجح أنّ الآليّات الاجتماعيّة للنشاط الإرهابي هو أكثر أهمية من المقاربات التي تبحث عن وجود نوع من الاختلال في المعتدين. إنّ الكائنات الإنسانيّة هي ذوات اجتماعيّة فعالة، ونحن نتأثّر بما يحسّ ويفكّر آخرون به. وبالتأكيد، هنالك أوضاع يكون فيها الفرد أكثر أهميّة من ضغوط المجموعة، تتوافر مؤشّرات ودلائل على أنّ مستقبل دراسات الإرهاب، سوف يستفيد من التركيز على الظروفيّة بأكثر من البحث عن ملكات أصيلة في الإرهابي.
الانتحاريون و”الذئاب المتوحدة”.. أَهُم شخصيات سيكوباتية؟
يشير الأستاذ الفخري في علم النفس في كلية براين ماوار (الولايات المتحدة) (Bryn Mawr College) كلارك ماكّولي (Clark McCauley) إلى أنه عند استرجاع التطوّرات في علم نفس التطرّف والإرهاب، تبرز ميول عدّة. أولاً: هنالك ابتعاد عن النظر إلى الإرهابيّين بوصفهم معتوهين، مقابل التفكير بهم ضمن إطار خيار منطقي يُظهِر أنّ قادتهم -على الأقل- يحاولون تعظيم فاعلية الاستراتيجيّات والتكتيكات، إلى حدّها الأقصى. وفي تطوّر حديث تماماً، يُعطَى اهتمام أكبر إلى العواطف في شرح سلوك الإرهابي. ثانيّاً: واتّصالاً مع النقطة الأولى، ساد في البداية تشديد على شروحات للإرهاب تعمل على المستوى الفردي، ثم تلاها اعتراف بقوة المجموعة، فيما يتزايد الاهتمام في الوقت الراهن بالسياقات المتعلّقة بالحراك الاجتماعي والرأي العام اللذين يحدث الإرهاب ضمنهما. ثالثاً: ركّزت الجهود الأولى لفهم الإرهاب عليـ”هم”، أي الإرهابيّين. وحاضراً وببطء، يتراكم التنبّه إلى دينامية وآليّات “الفعل وردّ الفعل”، في الصراع بين الإرهابيّين والحكومات التي يناوئونها. ضمن تلك الوجهة، تكون ردّة فعل الحكومات على الإرهاب بمثل أهمية هجمات الإرهاب نفسها. أخيراً، يستهل الميل الأبطأ والأكثر تجريديّة، بالاعتراف بأنّ الإرهاب ومناوءته هما من شؤون السياسة، بل شكلان للصراع السياسي يمكن النظر إليهما من منظور حرب العصابات والحرب الأهليّة.
ويرى أن الإرهاب هو استخدام عنف مادي (أو التهديد به) ضد مدنيّين، بهدف الحصول على مكاسب سياسيّة. يشكّل احتكار العنف ضمن حدودها، إحدى العلامات المميّزة للدولة الناجحة. ولكسب هذا الاحتكار وضمان استمراريّته، تستخدم الدول العنف بما فيه التعذيب والموت، ضد من يعيشون ضمن حدودها، بل غالباً ضد المدنيّين غير المسلّحين. بذا، يكون العنف قديماً تماماً ومتّصلاً بقوّة الدولة. لكن استعمال كلمة إرهاب في الإشارة إلى عنف سياسي، يرجع حصراً إلى الثورة الفرنسيّة في تسعينيات القرن الثامن عشر. آنذاك، عمد الثوار الذين تهدّدتهم مقاومة داخل فرنسا وجيوش أجنبيّة على حدودها، إلى تسييد الإرهاب لقمع عدوهم في الداخل. إذاً كانت قوّة الدولة خلف أول عنف سياسي نال تسمية الإرهاب.
على الرغم من أن جذر تسميّة الإرهاب السياسي يعود إلى عنف الدولة، وأنّ ما يتسبّب به من ضحايا يفوق سواه، يُفْهَم مصطلح الإرهاب اليوم باعتبار أنّه يقصد الإرهاب غير الحكومي؛ إذ يشمل الإرهاب المناوئ للدولة، والإرهاب العقابي والابتزاز بالحماية؛ لكن الإرهاب المناوئ للدولة هو الذي يجتلب الاهتمام الأكبر، ويقصد به العنف الذي تمارسه مجموعات لا تملك سلطة الدولة، ويتوجّه ضد دول معترف بها. يركّز هذا الفصل على الإرهاب المناوئ للدولة الذي يسمّيه المؤرخ الأمريكي وليتر لاكيّير (Walter Laqueur) “الإرهاب من أسفل” (Terrorism From Below)، على الرغم من أنني سأخلص إلى أنّ هذا الإرهاب لا يُفهَم من دون التنبّه إلى دور “الإرهاب من أعلى”. يجيب كلارك في هذه الدراسة على التساؤل التالي: كيف يتمكن أفراد ومجموعات لا يحوزون قوّة الدولة، من ممارسة عنف سياسي يطاول أشخاصاً غير محاربين؟
العوامل النفسية والاجتماعية المعززة للتطرف لدى الشباب
يقول الباحثان الأكاديميان في علم النفس في جامعة نيس صوفيا أنتيبوليس بفرنسا، كريستين بونارد (Christine Bonardi) وبيار منوني (Pierre Mannoni) في دراستهما: إن نمو الشباب في الأوقات الطبيعية يولد لديهم حاجات نفسية واجتماعية قهرية إلزامية. عادة ما تكون المجتمعات قادرة على منحهم ما يستطيعون به إشباع حاجاتهم. ولكن، حين تواجه هذه المجتمعات بدورها أزمات ترتبط بشكل خاص بنمو الحداثة، كما هو الحال في أيامنا في المجتمعات الغربية، فليس من المستغرب أن يقوم بعض الشبان بالالتزام بأفكار وبأفعال يشكل الإرهاب مثلها الأكثر تطرفاً. تشكل هذه الظاهرة مسألة ستكون موضع بحثنا هنا، مستخدمين لذلك طريقة لم توضح كما يجب: أي استخدام تحليل العلاقات بين الحوافز المميزة للعمر التطوري (l’âge évolutif)، والجهود التي يبذلها المجتمع، والرامية لإشباع هذه الحوافز. يندرج هذا التفكُّر في إطار برنامج بحث ما زال في طور الإعداد، وهو يتعلق بالأفكار والسلوكيات التي تبلغ حداً من التطرف.
يعتبر تشكل الهوية، في المراهقة، بما لها من متطلبات داخلية وخارجية تتميز بها، أحد أهم الرهانات، فالهوية ليست معطى بيولوجياً، بل هي موضوع بناءٍ شاق يمكن للشاب أن ينجح فيه ويمكن أن لا ينجح. وخلال هذه المرحلة الدقيقة يمكن أن يكون المرء عرضة لخيارات شخصية خطيرة غالباً ما تترابط مع عناصر ظرفية وسياقية، وفي حالة الإرهاب تكون وسائل الإعلام بشكل خاص هي من يتدخل باعتبارها من العوامل المسرِّعة. إلا أن متطلبات الدمج الاجتماعي تمارس بدورها على الشباب ضغطاً يستشعر المرء بعنفه، وهي تخلق اضطراباً عميقاً وخيبة أمل تجاه ما يقدمه المجتمع. وفيما يتعلق بالبناء الهوياتي، فثمة هوة تتشكل حينئذٍ بين تخلف النماذج الثقافية الغربية، وما تقدمه أجهزة الإعلام حول الإرهاب باعتباره حقل معركة بطولية. في هذه المرحلة العمرية تُعاش التجارب العاطفية والانفعالية، بل والمعرفية بكثير من الحدة والكثافة، كما يُصار إلى حملها إلى الحدود القصوى من خلال ما هو غريزي. يعتبر الفعل في هذه اللحظة بمثابة إحدى الحالات المميزة، ويسارع الشاب بالطبع أكثر فأكثر للعنف. إذ يشعر بأن العالم الذي يعيش وسطه عالم عنيف تجاهه (هذا دون أن يكون العالم بالتأكيد كذلك إذ يتعلق الأمر بمعيش ذاتي). والطاقة النفسية والأوهام التي تتحرك في هذه المرحلة، ستجد لنفسها مهرباً ممتازاً إذ ستصادف قوة الدعاية والعمل الإرهابي: والشاب لا يستثمر، بل ويبالغ في استثمار هذا الموضوع، إلا لأنه يستجيب لتطلع ما. كما يدفع التحفيز للبحث مجدداً عن تجارب محرضة، على درجة معينة من الخطورة، وهي تندرج أحياناً في رفض الممنوعات الاجتماعية (رياضات خطرة، أعمال محرمة، سلوكيات خطيرة). إن البحث عن المغامرات وعما هو جديد، يعطي الفتى شعوراً بالوجود من خلال اكتشاف الذات ورباطة الجأش، بدءاً من السيطرة على جسده الخاص. إن هذا الاستعداد النفسي عينه هو ما نجده عند المراهق المستعد لتقبل فكرة الانتحار، والذي بإمكانه أن يعزز تقبل أن يكون مرشحَ شهيدِ فتنةِ الموت، وبذلك يكتسب الانتحار قيمة تحكم إلهي دون أن تكون الرغبة بالموت حاضرة في الذهن بوضوح أو في الخطاب. ثم إن تكوين الذات الشخصية والاجتماعية حول التزام إرهابي، إنما يشكل بالفعل وهباً مطلقاً لهذه الذات، بحيث لا يمكن للإجراءات التي تتخذها السلطات العامة، أن تؤثر بهذه السمة النهائية والبالغة حدها الأخير. ناهيك عن اتسام هذا الالتزام -غالب الأحيان- بخرق تابو على جانب كبير من الأهمية، تابو الموت: القتل و/ أو ترك قتل الذات باعتبار ذلك وسيلة لبلوغ المطلق الإنساني.
السمات الشخصية التقريبية للإرهابي
ترى الأكاديمية اللبنانية والمحللة النفسية رندا نبوت شليطا في دراستها أن ذهنية المنافسة (أو التسابق) التي وُجِدت دائماً قبل العولمة، قد تفاقمت من بداية هذا القرن، بحيث إن الشعور بالإخفاق يقض مضاجعنا، وسرعان ما يتحول إلى شعور بالحقد، الحقد ضد الذات في المقام الأول، ومن ثم ضد الآخرين، أولئك الذين هم ببساطة مختلفون عنا. الذي يقول: منافسةً، يقول أيضاً: استبعاداً. وإذا كان قرننا هو قرن التسابق، فإنه وبالفعل نفسه، هو قرن الاستبعاد. لأنه، وفي كل شيء، يجب رؤية الوجه الآخر للقطعة النقدية. هناك الرفاه الذي نوفره للسيّاح في جزر الأحلام تلك، لكن هناك أيضاً، وأحياناً على بعد أمتار، البؤس الذي يذيب القلوب. وفي كل الأحوال، فإن الشعور بالاستبعاد، الذي سنعود إليه، يُعد شعوراً مؤسِساً للإرهاب. وإذا كان الإرهاب الحالي يُقيم تحت راية بعينها، فإنه الآن وحصراً تحت راية الإسلام، النسخة المتزمتة، والتي تتوافق مع سمة النزعة الإسلامية السياسية. وتحيلنا هذه التسمية إلى: إسلام أصولي أو جذري (راديكالي)، أو سلفي أو تمامي… كما لو أن كل شكل ونوع من الإرهاب قد تبخر، ولم يبق إلا هذا. وإذا كان موضوع بحثنا يتعلق بالإرهاب الحالي، ذائع الصيّت، فإننا وجدنا من المستحسن التخفيف من حدة الكلام، بهذا المعنى، الإرهاب الحالي المتحدر من الأصولية الإسلامية، ليس إلا شكلاً واحداً من الإرهاب المعاصر. وعِظم شقائنا آتٍ تحديداً، من واقع أن الإرهاب ليس مسلماً أو يهودياً أو مسيحياً فحسب، وليس أمريكياً أو روسياً فقط. الإرهاب بشري، وهذا هو لب المشكلة. إن من يقوم بالتعذيب يمكن أن يكون رجلاً عادياً، أو شبيهاً به، في وسعه ارتكاب أفعال بربرية من دون ندم أو أدنى شعور بالذنب، وهذا كله من دون أن يستطيع، كما نؤكد دائماً في حديثنا عن الساديّة، الحصول على أي لذة ساديّة أو غيرها من ممارسة هذه الأفعال. على هذا النحو، يمكن للسيد أو السيدة العاديين، أن يرتكبا أعمال عنف، وتبرير الأمر بأيديولوجيا دينية أو سياسية، إلى ذلك، من دون أي أساس منطقي. ولا يوجد أفضل من أيديولوجيا (ما) تستخدم كحاجز واق للاختباء خلفها والتسبب بكل شرور العالم. في كل محاكمات الديكتاتوريين (المستبدين)، وضباط الحرب أو الجلادين، ينتشر الكلام عن الأيديولوجيات. فباسمها يشارك الموظف الصغير البسيط في الجرائم الفظيعة، وينجح في الخروج سالماً معافى، متحللاً من كل مسؤولية. إذ تمنعنا الأيديولوجيا من رؤية الوقائع، بحيث إن مجرد وضع فكرة أو حكم مسبق موضع المساءلة، يُضحي خطراً على الجموع المُشبعة بالعقيدة. وهكذا، فإن غرس العقيدة الهادف إلى إلغاء صيغ الفكر والحُكم والتفكير، هو تمهيد للفعل الإرهابي، لأنه أفضل وسيلة لجعل الشر شيئاً عادياً. وهذا ما سردته على نحو رائع المنظِّرة والفيلسوفة الألمانية حنه أرندت (Hannah Arendt) في وصفها موقف أيخمان (Eichmann) خلال محاكمته، فتقول: “كان على الأغلب مسروراً، ومن دون أن يدرك غياب التماسك (عنده) من أي نوع… لقد حافظ لحين ساعة موته على هذه الموهبة في التعزي بالشعارات”. وإذا ما اختبأ أيخمان خلف الأيديولوجيا، فلأن هذه الأخيرة وفرت له أجنحة لكي يطير بعيداً من الشرط الإنساني. هذه القدرة على البقاء مصدوداً (من الصد Bloqué) تماماً في مشاعره قد سُجِلت عند عدد من الذُهانيين (Psycopathes) الذين، وبعد فترة من ارتكاب جريمة لا تعليل لها، لم يتوصلوا إلى إبداء أدنى علامة تعاطف، ولا أي أثر صغير من الندم بإزاء ضحاياهم. وهكذا، فإن الخطر على الكائن الإنساني أن ينفصل كلية عن الواقع الموجود، وهذه المخاطرة مستمرة في الوجود. فبما أن الروح الإنسانية صعب غورها، فإن انعدام خطر الوحش الذي يمكن أن يستيقظ في داخل كل منا غير موجود. وبناء على هذا القول، يمكننا متابعة البحث الذي سيدور حول محاور ثلاثة: ما قيل عن الإرهاب، أو قليل من الأدبيات حول الإرهاب، السمة الشخصية التقريبية للإرهابي كما تظهر في التسويق المعاصر (Marketing Moderne)، وسنحاول لاحقاً عرض الجذور العميقة للإرهاب في مرآة علم النفس. نرى إذاً أن الطريق الذي يقود المراهق إلى الجريمة طويل. فالانتقال إلى المراهقة صعب أحياناً بالتأكيد، لكن ليس في وسع أي مراهق أن يصبح قاتلاً، إرهابياً أو مجرِماً. فحين تجتمع عند المراهق شروط الانتقال إلى الفعل الذهاني يكون عرضة للانتقال إلى الفعل الجُرمي. يُقدم ماليفال مفتاحين للوقاية: العمل على تشكيل حدود الخشية ولا سيّما الجمال عند هؤلاء الأشخاص. ونحن نعلم أن الفترة -حيث يمكن لهذه الحدود أن تتشكل- تقع في فترة الكمون، فترة الكمون الجنسي الواقع تقريباً بين عمر (6) و(12) سنة. وهكذا، فلا يمكننا الكلام عن سمة تقريبية واحدة للإرهابي، وإذا ما أظهرنا كيف تعمل غالبية المُجندين، وما هي وجوه ضعفهم الوجودي والنفسي، فلأن ذلك يتيح لنا أن نفهم بشكل أفضل بأي سهولة يمكن للمُجنِّدين أن يعثروا عليهم ويجذبوهم من زوايا الأرض الأربع.
إرهاب الجماعات المسلحة من منظور التحليل النفسي
المحللة النفسية السورية مرسلينا شعبان حسن في دراستها تقول: إن هناك ثلاثة أشكال أو نماذج للإرهاب، وجميعها تسعى إلى إحداث تغيير بالقوة، من خلال إجبار الشّعوب والحكومات على التّغيير، وهي: الإرهاب العرقي، والإرهاب الأيديولوجي، وإرهاب الدولة، وأعمال العنف ضد المدنيين أو العسكريين التّابعين للقوة المحتلة، أو المكتسبين نفوذاً شديداً على السلطة المحلية، وهي أعمال توصف بأنها إرهابية. فالحركات الإسلامية الحاضرة اليوم على الساحة العربية والدولية، والتي تمارس الإرهاب تحت مسمى الدين، ليست مجرد عودة محضة إلى الدين كما يقال أو كما تقدم نفسها، بل هي وكما تتبدى، تركيبة أيديولوجية غير متجانسة. مقولة “الوهم” الفرويدية التي هي ليست الخطأ، وليست مقابلاً للحقيقة، وليست الحقيقة وليست عكسها، تهدف إلى المستحيل. تهدف إلى المستحيل بمعنيين: من حيث إن الجَزَع البشري يستحيل تجنبه بما أنه يعود إلى نقص أساسي، لا يمكن أن يتم إشباعه. ومن حيث إن الرّد الدّيني، رد بالمستحيل على المستحيل، بما أنه يعد بسدّ النّقص ويجعل الإله إشباعاً له.
وتصور “فرويد” الدين بالوهم، يمكننا أن نفهمه من باب الخروج من دائرة التّقابل بين الحقيقة والتّخيل. وتتمثل فرضية “فرويد” في أن القدرة على الإيهام هي أحد المصادر التي تستمد منها الأديان نجاعتها، وهو يرى أن الوهم غير الخطأ، فالوهم غير خاطئ كالهذيان، والوهم بالضرورة ليس متعارضاً مع الواقع، ولا حتى غير قابل للتحقيق، كما أنه ليس تدليساً وزيفاً، الوهم قوة، قوة مرتبطة بشوق قديم يطمح إلى الإشباع، زاهداً في كل تصديق يمكن أن يأتيه من الواقع. الوهم الديني يتكون حول واقع معين، هو واقع الجزع البشري الطفولي، وإنه تبعاً لذلك أقرب إلى الحقيقة التاريخية لهذا الجزع من العقلنة الثانوية التي تنكره. حقيقة الشريعة التي تريد تأكيد صحتها كما في الماضي هي إخفاء المستحيل، هذا المستحيل هو التحدي الذي يواجه به العالم الحديث منظومة التقليد. بإعادة بناء سور الوهم الديني، هذا السور الذي بداخله الثقوب والشروخ بفعل محنة العالم التاريخي والعلمي المعاصر. يعد الإرهاب أحد أخطر أشكال التّهديد لأمن المجتمع واستقراره. ويعتبر العفيف الأخضر (1934-2013) أن النرجسية الدينية هي أحد الأوبئة التي ابتلي بها العربي، والعربي المسلم. ويندرج الإرهاب في منطق النرجسية الدينية، و”عبادة الأسلاف” معاً، وكل انحراف عن عبادة الأسلاف يبني مظهراً من مظاهر الحداثة يعتبر مصدر جميع الشرور، وبما أن حداثة الكافر اليوم في مكان، وتتسلل من الأبواب والنوافذ إلى “دار الإسلام”، فقد تحول وجوب مخالفة الكفار إلى عقدة اضطهاد: (اليهود والصليبيون) يحاصرون دار الإسلام من الخارج، وعملاؤهم من العلمانيين يعتبرون فيها فساداً من الداخل، والرد هو الإرهاب، هذه الثقافة الخائفة المخيفة يغذيها الإسلام الظلامي والجهادي. من هذه القناعة الساذجة تخرج النرجسية الدينية، أي التعصب والإرهاب، وتخرج العنصرية، في حين أن القيم السياسية والاجتماعية التي جاء بها القرآن، هي للزمان والمكان ذاته الذي جاءت فيه. يكون المحيط المجتمعي والثقافة السائدة فيه، والتي تتم تبعاً لها التربية المجتمعية، هما مصدر وضع الحواجز أو قواعد السلوك التي تعوق الفرد عن تلبية بعض رغباته. وقد تصبح الذات بفضل تمثلها لقواعد السلوك المجتمعية، هي التي تقبل بوجود العوائق وتخضع لمقتضياتها، بل وتؤمن بها في الظاهر وتدافع عنها. لكن التحليل النفسي الذي تناول موضوع الإحباط، يرى أن الرغبات يتم كبتها في هذه الحالة. والكبت لا يعني -من وجهة نظر التحليل النفسي- الإقصاء التام للرغبات التي كانت موضوع حرمان أو عدم تلبية. فالرغبات المكبوتة تبقى دينامية وتكون خلف كثير من أنماط السلوك وردود الفعل. كما تتنوع ردود الفعل التي تترتب على الإحباط، غير أن ما نسجله منها في انسجام مع موضوع بحثنا، هو أن الكثير منها يكون عبارة عن أفعال عنف. قد يتجه رد الفعل العنيف في حالة حرمان الطفل من حيازة موضوع ما إلى ذلك الموضوع نفسه، غير أن ردود الفعل هذه تتطور مع النمو، وقد تصبح ناتجة عن تخطيط ومتجهة إلى من يظن الشخص المحبط بأنهم أعاقوا تلبيته لرغبته، وحرمانه من تلبية حاجة حيوية أو مرغوب فيها لديه.
عقل الإرهابي: مراجعة المناهج السيكولوجية ونقدها
تراجع دراسة جف فكتوروف (Jeff Victoroff) -أستاذ في قسم طبّ الأعصاب والطبّ النفسي بكلّية الطبّ في جامعة سذرن كاليفورنيا- أحدث النظريات والبيانات المتاحة ذات الصلة بسيكولوجيا الإرهاب. وقد جُمعت البيانات والموادّ النظرية من الأدبيات العالمية غير السرّية. ونُشر العديد من النظريات وبعض البيانات الديموغرافية، لكن لم يُجرَ إلا قلّة قليلة من الدراسات التجريبية المضبوطة لفحص الأسس النفسية البيولوجية للإرهاب. ويتميّز هذا المجال -إلى حدٍّ كبير- بالتأمّل النظري القائم على التفسير الذاتي للملاحظات السرديّة. كما أن معظم الدراسات والنظريات لا تأخذ في الحسبان التباين العظيم للإرهابيين. وقد بطّأ العديد من العقبات العملية، والمفهومية، والنفسانية التقدّم في هذا المجال المهمّ. ومع ذلك فإن التقارير الأولية، حتى في هذه المرحلة المبكّرة من دراسات الإرهاب، توحي بأن العوامل الاجتماعية والسيكولوجية القابلة للتعديل تسهم في نشوء العقلية الإرهابية. ومن الممكن أن تخفّف مناهج البحث السيكولوجي مخاطر الهجمة الكارثية، ببدء الدراسة العلمية المتأخّرة جداً للعقليات الإرهابية. لا شك في أن الإرهاب كان موجوداً قبل فجر التاريخ المكتوب. ولم يطرأ على الطبيعة الإنسانية أي تغيير. لكن ثمة ثلاثة اتجاهات متشابكة أدخلت تغييراً كبيراً على طبيعة التهديد ودرجته: عولمة التجارة، والسفر، ونقل المعلومات، التي تبرز التفاوتات الاقتصادية والمنافسة الأيديولوجية بوضوح شديد، وتسهّل العدوان التعاوني للمتآمرين المتباعدين من ذوي العقلية المتماثلة؛ وصعود الأصولية الدينية باعتبارها منافساً متضرّراً من اقتصاد السوق، والاتجاهات الديمقراطية والعلمانية للحداثة؛ وخصخصة أسلحة الدمار الشامل، مما وضع إمكانات الأعمال الإرهابية الكبرى في متناول مجموعات صغيرة أو حتى الأفراد. ويشكّل 11 سبتمبر (أيلول) 2001 نتيجة واحدة –وربما تحذير من حوادث قادمة. وربما لا يكون من المبالغة القول: إن هذه الاتجاهات السريعة التطوّر تشكّل معاً خطراً واضحاً وحاضراً على أمن الحضارات. يبدو من الملائم أن يطبّق اختصاصا علم النفس والطبّ النفسي مواردهما الفكرية على مشكلة الإرهاب السياسية، وهي -إذا اقتصرت على أسسها- مشكلة سلوك بشري لا نمطي. فإلى جانب الدافع إلى معرفة الحقيقة، تنصح النظرية السيكولوجية السياسية بأنه كلما أحسنت الجماعة المستهدفة إدراك جذور العقلية الإرهابية، فإنها ربما تصبح أقدر على وضع السياسات لإدارة المخاطر بفاعلية. وعلى الرغم من الحاجة الملحّة إلى مثل هذا الفهم، فقد أخر العديد من العقبات النظرية والعملية الدراسة السيكولوجية العلمية للإرهاب، وربما حرفها عن مسارها. ولا بدّ من طرح السؤال الآتي في الواقع: إلى أي حدٍّ تلقى نظريات الإرهاب السيكولوجية الرائدة الدعم من المفاهيم الصالحة والبحوث الموضوعية؟ توحي المراجعة الشاملة للأدبيات بأن الافتقار إلى الدراسة العلمية المنهجية ترك صنّاع السياسات يصوغون استراتيجيات مكافحة الإرهاب من دون الإفادة من الحقائق المتعلّقة بأصل السلوك الإرهابي –أو بالاسترشاد بافتراضات نظرية صيغت باعتبارها حقائق- وذلك أمر أسوأ. ربما يكون تفحّص العقل الإرهابي الخطوة الأولى الضرورية نحو تحقيق قدرة علم النفس السياسي الحديث على الكشف عن أسس العدوانية الإرهابية، وتصميم السياسة المثلى لمكافحة الإرهاب. تقع محاولات تفسير سلوك الإرهابيين في فئتين عامّتين: نُهُج من أعلى إلى أسفل تسعى وراء بذور الإرهاب في الظروف السياسية، أو الاجتماعية، أو الاقتصادية أو حتى الثورية؛ ونُهُج من أسفل إلى أعلى تستعرض خصائص الأفراد والجماعات التي تتحوّل إلى الإرهاب. ويرى أن الإجابة عن التساؤلات التالية تمثل جزءاً من مفتاح تجنّب العنف الكارثي في القرن الحادي والعشرين. ما السمات السلوكية الجديرة بالملاحظة التي تميّز الجماعات الإرهابية أو القادة الإرهابيين الذين من المرجّح أن يتراجعوا عن العدوان، إذا عولجت مظالمهم عن طريق المفاوضات، مقابل السمات التي تميّز الجماعات التي لا يمكن ردعها إلا بالقوّة؟ هل التأثير الاجتماعي للمدارس الدينية الأصولية مرتبط بزيادة يمكن قياسها لاحتمال السلوك الإرهابي للبالغين؟ وإذا كان كذلك، هل يمكن أن يساعد دعم التعليم البديل الذي يحظى بتقدير ثقافي الشبّان سريعي التأثّر في إيجاد بؤر أكثر إنتاجية لطاقتهم العاطفية المرتفعة؟ هل تقلّل التوقّعات الاقتصادية والشعور بالأمل الشخصي من إغراء الإرهاب؟ وإذا كان كذلك، فما العوامل الاجتماعية الاقتصادية أو النفسية الاجتماعية التي تعدّل ذلك الارتباط، وما صيغة الكلفة – المنفعة التي يمكن تطبيقها؟ هل تدفع السمات السيكولوجية لقادة البلدان المستهدفة السياسات التي تخفّف التهديد أو تفاقمه؟
الإدارة النفسية لمحاربة الإرهاب: تدابير التحليل التبادلي
يقدم عفيف عثمان -الأكاديمي اللبناني- قراءة وتعقيبا لما حملته دراسة ماريو نصر “الإدارة النفسية لمحاربة الإرهاب: كيف يمكن لدولة القانون أن تدير على نحو فاعل معركتها في محاربة الإرهاب”. فيرى أنه من الناحية المنهجية، لا تحل الاستراتيجية المكملة، كما يشير اسمها، مكان الاستراتيجيات المستعملة راهناً، لكنها تتممها، ولا سيّما من ناحية المقاربة أي “الناحية العلائقية” (Relationnel) وتالياً “التبادل في السلوك” (أو التبادل/ التفاعل الاجتماعي) (Transactionnel)، للفاعلين المعينين. ففي كل علاقة، ثمة “تبادلية” (تفاعلٌ) تحصل بين الأشخاص، وبين مجموعات الأشخاص المُنظمين عادة، أي المُنظمات. ففي شهر أبريل (نيسان) من عام 2006 وخلال حملة تطويع جرت في طهران، سجل عشرات الشبان المتحمسين أسماءهم ليكونوا “شهداء”، مما يشي بأن المسألة ليست قضية “طبائع” ولا تتعلق باعتلال في الشخصية، إنها بالحري مسألة اجتماعية ثقافية تشوه وتشيِّئ وتشيطن الآخر، وهي التي تطرح المشكلة. تقترح الاستراتيجيات المكملة من نصر، تحليلاً نفسياً “تبادلياً” للأشخاص الإرهابيين، انطلاقاً من نظرة ترى أن الإرهاب هو أولاً وأساساً “حرب نفسية”، ولفاعلية أكثر يتوجب نقل المعركة إلى أرض الإرهابيين أنفسهم ومحاربتهم على الصعيد النفسي. حيث يلجأ نصر إلى استحضار أربعة نماذج إرهابية، من وجهة نظره، اثنان من التاريخ القديم يُبرران أفعالهما بأسباب سياسية– دينية، هما: الفرقة اليهودية “زيلوت” (Zélotes – Sicaires)، في القرن الأول الميلادي، التي أسسها “يهوذا” (Juda) من منطقة الجليل، لتقاتل ضد الحكم الروماني، ودمجت في استراتيجيتها بين حرب العصابات والإرهاب. وفرقة “الحشاشين” (ظهرت عام 765 ميلادية) الإسماعيلية، التي ترأسها حسن الصَّبَّاح من قلعة “ألموت” وقادت تمرداً عدته “شرعياً” بحسب التقليد الإسلامي ضد رجال السلطة المغتصبين لها، وهم الترك السلاجقة السُنّة. وأنموذجان من التاريخ القريب والحديث، يحملان تبريرات سياسية– اجتماعية: “الحركة الفوضوية” (الأنارشية وملهمها باكونين) التي ظهرت في أوروبا في القرن التاسع عشر، ولجأت إلى الاغتيالات، و”الحزب الاشتراكي الثوري” البارز في روسيا في بداية القرن العشرين المنصرم، المطالب بقلب النظام القائم وإقامة ديكتاتورية البروليتاريا تمهيداً لإلغاء كل سلطة دولتية، وتحقيقاً لذلك نفذ جناح الحزب المقاتل (العسكري) اغتيالات عدة ضد ممثلي وموظفي الدولة. فالتحليل التبادلي، نظرية في الفعل الاجتماعي يستند إلى تحليل صيغ التواصل التي يقيمها الفرد مع الآخرين (الغير)، أي التبادل المتكرر الذي يركن إلى الحالات الداخلية للأفراد. ويُمثِل مقاربة تداولية للسلوك والبنيان النفسي من خلال تحليل علاقاتهم الاجتماعية. وبالنتيجة، يمكن استخدام الطريقة كشبكة قراءة لإضفاء الانسجام على الصلات بين الفرد ومحيطه، وتحقيق إعادة توازن للعلاقات الإنسانية، وذلك بإثارة حسّ المسؤولية عند الفرد ضمن بيئته، وبتغيير سلوكه إزاء الآخرين. والحال: لا شيء يمنع من استخدام طريقة التحليل التبادلي، لصوغ استراتيجية نفسية مضادة للإرهاب، ومحاولة إقناع الإرهابيين بتغيير طريقة “التواصل”، أي طريقة الضغط للحصول على “الاعتراف” الذي يبحثون عنه بشدة. ويضيء التحليل التبادلي لنا وجوه تواصلنا، مما يتيح تحديد ومعالجة مشاكل التواصل، في “الأنا” المتكلمة و”الأنا” المستمعة. ويُشدد الباحث على أن التفاوض هو مع المنظمات الإرهابية التي فشلت “دولة القانون” في القضاء عليها بالقوة العسكرية.
علم نفس القتل كميدان جديد في علم النفس
تناولت ريتا فرج –باحثة لبنانية في علم الاجتماع، وعضو هيئة التحرير بمركز المسبار للدراسات والبحوث- ما طرحه علي زيعور ودعوته إلى تأسيس “علم نفس القتل” باعتبارها خطوة نوعية في تطوير المدرسة العربية في التحليل النفسي، وهي تندرج في مضمار حقول نفسية معرفية عدة، عمل عليها خلال مسيرته الأكاديمية والعلمية. وترى أنه بالرغم من الصعوبات التي قد يواجهها هذا الطرح الجديد في العالم العربي، نظراً لحساسيته في السياسة والاجتماع والدين -لا سيما الحديث عن القتل العقائدي (الديني والمذهبي) الذي حلَّله زيعور، وتحديداً إذا أدرجناه في سياق دراسة وتحليل فتاوى القتل والتكفير التي يطلقها بعض رجال الدين– يبقى من بين ميادين علم النفس المستقبلية التي يحتاج إليها العرب، لتفسير ظواهر القتل الفردي أو الجماعي الشائعة عندنا، خصوصاً ظاهرة القتل المرتبطة بالاضطرابات السياسية والحروب المدمرة في السنوات الأخيرة.
يطرح القول بالتأسيس لــ”علم نفس القتل” الذي دعا إليه علي زيعور السؤال حول التقاطعات المحتملة بين هذا الفرع النفسي الجنيني وعلم نفس الإرهاب وكذلك الشخصية الإجرامية (Personnalité Criminelle). فهل يمكن الافتراض بوجود تماثل على صعيد المناهج والميادين؟ إن ما يؤسسه زيعور في ورقته التي سنعرض لها هنا، يختلف في أفكاره ونتائجه الأولية عن حقل علم نفس الإرهاب. قد يكون من المفيد الإشارة إلى أن الدراسة النفسية للإرهاب لا تزال في مهدها. ويفيد ركس هدسون (Rex Hudson) بهذا الخصوص [مقارناً المقاربة النفسية في دراسة الإرهاب بمقاربة علم السياسة، وعلم الاجتماع]: “إن علماء السياسة وعلماء الاجتماع يُعنون بدراسة السياقات السياسية والاجتماعية المحيطة بالجماعات الإرهابية، أما علماء النفس (القليلون نسبياً) الذين يدرسون الإرهاب، فيتناولون الفرد الإرهابي أو الجماعة الإرهابية على المستوى الجزئي من الدراسة. ذلك لأن المقاربة النفسية تركز على دراسة الإرهابيين بحد ذاتهم؛ كيف يتم تجنيدهم، وكيف يتم دمجهم في الجماعات الإرهابية، إضافة إلى أنه يبحث في نوعية شخصياتهم، واعتقاداتهم، واتجاهاتهم، ودوافعهم، ومهنتهم كإرهابيين”.