دبي
بعد أن قدّمنا التصوف الشعبي في نسخته البكتاشية، فإنّ تناول المولوية يمثل الركن الثاني في الحياة الروحية في الأناضول، التي وصفت إبان القرن السابع الهجري بأنها تمحورت حول مولانا جلال الدين الرومي. ومنذ ذلك الحين، ظلت طريقته الصوفيّة مثار نقاش دائم، بما تقدمه من حضورٍ فلسفي وفني، حتى استطاعت التفوّق برمزيتها على ما سواها، فبرزت في سائر النقاشات حول الإسلام بوصفها عنصرًا مهمًا، فكان لا بد من الإحاطة بها، ووضع الأسس لمن يريد فهم مجالها السياسي والديني.
يدرس هذا الكتاب المولوية في إطارها التاريخي، والمناخ الذي ظهرت فيه، مرورًا بنشوء حواضر عرفانية حاضنة لثقافة إسلامية في العصر السلجوقي، وتفاعلاتها مع الدولة العثمانية، وانتشارها خارج الأناضول وصولاً للهند والعراق ومصر وغيرها.
لا يحاول هذا المشروع الخروج بخلاصات نهائية حول المولوية، بقدر ما يفسح المجال أمام الإضاءة على التراث الصوفي الثقافي، والإسلام الشعبي ورصيده التاريخي المتراكم، والمستغل –حالياً- من الأحزاب والحركات السياسية الإسلامية، ومن تركيا الدولة وتركيا الطموح، والإمبراطورية العثمانية وربما الأردوغانية!
المولوية في سياقها التاريخي
تهدف ورقة الباحث المصري أحمد محمود إبراهيم (متخصص في التاريخ الإسلامي) إلى وضع الطريقة المولوية في سياقها التاريخي الذي أنتجها، متأثِّرة به حينًا، ومؤثِّرة فيه أحيانًا. وتسلِّط الضوء أولاً على الملامح العامة لتاريخ المشرق الإسلامي في القرن السابع الهجري/ الثالث عشر الميلادي -الذي ظهرت فيه الطريقةُ ووُضِعَت لبناتُها الأولى- من ثلاث زوايا: الزاوية السياسية، الزاوية الدينية/ المذهبية، والزاوية الروحية/ الصوفية، من خلال سيرة مولانا جلال الدين الرومي، رأس الطريقة وإمامها، ويكشف في الآن نفسه عن الملابسات التاريخية التي اقترنت بنشأة الطريقة وحددت لها وجهتها.
وقد استعرضت الورقة أيضًا الخطوط العريضة لتاريخ بلاد الروم أو الأناضول، وهو الإقليم الذي مارس فيه الرومي تأثيرًا طاغيًا، وتأسست فيه طريقته، وعمت ربوعه، وسط تيارات صوفية متلاطمة. ولم تخلُ الورقة كذلك من ترجمة موجزة لمولانا جلال الدين.
الحديث النبوي في أعمال مولانا جلال الدين الرومي
تنطلق ورقة الأكاديمي التركي فكرت قارابينار من أن مكتسبات الصوفيين من الحديث واستعماله في كتبهم، أصبحت قضية مثيرة للجدل تحتاج إلى النقاش؛ ولكن الشائع أنهم لا يعرفون الحديث، وكثيراً ما يستعملون الروايات التي يصفها البعض بأنها موضوعة. وعندما ننظر في كتب الصوفية نرى أنها تختلف عن الكتب الأخرى، باستعمالهم أحاديث الزهد والأخلاق والعرفان.
تعرج الورقة على الأحاديث الواردة في أبرز كتب الطريقة المولوية، وتستعرض العلاقة بينها وبين أشعار الرومي. ويرى الباحث أنه بالرغم من أن مولانا يستعمل في أشعاره كثيراً من الآيات والأحاديث، فهذا يشير إلى نجاحه الكبير. والمهم –هنا- أن مولانا يعرف أحاديث كثيرة مع أنه لا يُعتبر عالماً بالحديث أو مهتماً به. وبمنهجه هذا أظهر للناس أنه يمكن الإرشاد بطريقة الشعر. وقد علّم أن استعمال الشعر لا للشعر، وإنما للدعوة والإنسان. وبهذا فإنه فتح مجالاً جديداً في استعمال الشعر في الدعوة.
يخلص الكاتب إلى أن الرومي لم يمنع نفسه من أن يستعمل الأخبار المشهورة في زمانه بدون مراعاة صحّتها. ولكنّ معظم الأحاديث التي استعملها مولانا صحيحة، والبعض منها ضعيف، والقليل منها موضوع. ويضيف: إنه “عندما قُرئت آثارُه يُرى أن فيه ذهنًا صافياً وكافياً يمكّنه من أن يعلّق على أي موضوع شاء. وبسبب معرفته القرآن والحديث، فهو استعملهما بسهولة وبشكل التقطيع؛ لأنه أخذ من الآيات والأحاديث كلماتٍ تحتاج إليه إذا كان ما يفصله منها لا يتعلق بما قبلها ولا بما بعدها”.
الدراويش المولوية والعثمانيون.. دروس وملاذات تاريخية
تأخذنا ورقة الباحث والأكاديمي الإيطالي ألبرتو فابيو أمبروزيو في رحلة تسبر أغوار تاريخ الطريقة المولوية، على مدى ما يقارب سبعة قرون، جعلت من الدراويش الأخوية العثمانية الأكثر تمثيلاً لإمبراطورية سلاطين إسطنبول، لأنه -بحسب الباحث- “قد كانت شبيهة بالسلطة الحاكمة في تراتبيتها وتنظيمها“. ويرى أن بعض التأويلات التاريخية ذهبت إلى أن المولويين كانوا من مبعوثي السلطة العثمانية خارج أراضي الأناضول، أي بباقي دول الإمبراطورية: بالبلقان والمناطق العربية وحتى أوروبا القارية. لكن تلك القرون السبعة لم تكن بالرغم من ذلك دائمة المثالية.
إن المولوية التي كانت على اتصال وثيق بالإمبراطورية والسلطان، والتي ميزت الأزمنة الأولى إلى حدود القرن السابع عشر، تم إبعادها بطريقة دبلوماسية لصالح أخوية أخرى، تُجلُّها السلطة السياسية كثيراً، وتظل أكثر تمسكاً بالشريعة، وهي الطريقة النقشبندية، وذلك ابتداء من القرن الثامن عشر وخصوصاً خلال القرن التاسع عشر. وبإرث أدبي مدهش، فقد عرف هذا الإرث منذ النشأة تراكمات لمجموعة من النصوص، يستأثر بالقارئ جانبها التاريخي على الفور.
يقول الباحث: إن التكية القديمة قد أصبحت متحفا تباع التذاكر على بابه، ثم مجمعاً شاسعاً للرقص (سمعخانة)، قد تم تحديثه لكي يتلاءم مع الذوق العام، يفتح أبوابه لآلاف المحبين للسماع بشراهة. ويضيف: إنه بعد تجاوز أول انتقال، علينا فهم رهانات التحول الاجتماعي، وأن نعتاد على النظر إلى المنحدر الفلكلوري والسياحي للتصوف كسبيل للتقارب مع الإسلام، في بلد تعرض منذ عقود عديدة إلى علمانية إجبارية. تحت غطاء مركز ثقافي أو جمعية -كما هو الحال عامة لدى مجموعة من الدراويش الدوارين في الوقت الحالي- هناك شغف متجدد للروحانية والتدين.
يبين الباحث المستويات الثلاثة للدراويش الدوارين في التكية الصوفية للطريقة المولوية، ويخلص إلى أنها تنتهي بالتمازج فيما بينها لتجسيد صورة تصوف تم اقتراحه، من أجل إسلام يتحاور مع العصرنة وأوروبا والغرب العلماني. ويخلص إلى أننا “لم نعد نرى اليوم دراويش دوارين يرقصون، بل نرى راقصين يلبسون لباس الدراويش، لكن الرمزية ما زالت موجودة وتلعب دوراً مهماً في أيامنا هذه، الدور الذي لعبته طوال الوقت، وهو الهدي إلى التوحيد الإلهي”.
حـِكْمةُ الرّوميّ… في وحدة الوجود
تقدم ورقة الباحث والمترجم المصري هاني السعيد ترجمة لفصل «وحدة الوجود» من كتاب “حكمة الرومي” لمؤلفه خليفة عبدالحكيم (أكاديمي وناقد باكستاني تخصص في دراسة جلال الدين الرومي وآثاره والمولوية لأكثر من نصف قرن حتى وفاته). وفي استهلاله يقدم خليفة بعض آراء الباحثين حول المثنوي، ويشير إلى موضوعاته، وكيفية توضيح الرومي لها بالتشبيهات، ويبيّن لنا أن المثنوي يُعتبر صورةً من صور تفسير القرآن الكريم، ولذلك فهو يحاكيه ويتشَابه معه في نواحٍ عدَّة، ثم دلَّل على ذلك بعددٍ من الأمثلة الوجيهة. ويرى خليفة أنَّ خلاصة معنى نظرية وحدة الوجود الإسلامية، أنه لا وجودَ إلا الله؛ فهو صاحب الوجود الحقيقي، أما كلُّ الموجودات فما هي إلا مظهرٌ من مظاهر ذاته.
وناقش خليفة نظريات نيتشه وداروين في هذا الخصوص، وبيَّن أن نيتشه وبرغسون لم يصل أي منهما إلى أدنى ما توصل إليه الرومي في شرح الإنسان، وتحديد مقامه ومدارجه، فقد توصل الرومي إلى أن قدر زيادة معارف أي إنسان إنما يكون على قدر تنقيته لباطنه، وهكذا يترقَّى ويعلو حتى يصل إلى منزلة الخلافة. وأوضح أنَّ نظرية إقبال عن عظمة آدم هي أيضًا مستوحاةٌ من الرومي.
إنَّ خليفة عبدالحكيم قد حاول في هذا الكتاب استكناه الأسرار المعنوية الكامنة في مثنوي الرومي، ويبدو أنه استطاع بالفعل أنْ ينفذ إلى أعماق بعض معانيه، ويسبر بعض أغواره، ويستخرج بعض درره مستعرضًا الأهمية الروحانية والفكرية لأفكار ونظريات الرومي، وذلك بأسلوب شيقٍ جذاب، يتسمُ بالسلاسة والبساطة، على الرغم من دقة الطرح والتناول، وصعوبة الموضوعات.
نظرة الرومي إلى المرأة
تهدف دراسة الأكاديمي التونسي توفيق بن عامر إلى بيان المنزلة التي يحظى بها الآخر الجندري في منظومة الفكر المولوي؛ ومنطلقها في تفصيل ذلك البيان الإطار العام لتلك المنزلة في التصور الصوفي عموماً، تمهيداً للوقوف على ملامح خصوصية تلك المنزلة في آثار مولانا جلال الدين الرومي، وهو ما لا يتسنى رصده، ولا يتاح إدراكه دون الكشف عن أصول تلك المنزلة في مكونات ما يعرف بالحكمة المولوية، لما يتميز به الآخر الجندري من ارتباط وثيق بتلك الحكمة، وبالرؤية الصوفية المولوية للوجود، ولما وراء الوجود في صلتهما بالكائن البشري، ولما يتفرد به ذلك التصور أيضاً من علاقة وشيجة بمفهوم الجمال، وحضوره الدائم في هذا الكون باعتباره انعكاساً أو تجلياً للجمال المطلق.
ويرى أن للآخر الجندري في مجال التصوف الإسلامي حضوراً متميزاً؛ إذ تحظى المرأة في ذلك المجال بمنزلة رفيعة، فهي تباري الرجل في ممارسة التجربة الصوفية وتنافسه منافسة الند للند. ولنا في تاريخ التصوف الإسلامي أمثلة عديدة على تلك المشاركة في التجربة، بل وعلى الريادة فيها، ابتداء بمثال رابعة العدوية (ت 185هـ)، ثم بمن عاصرها وتلاها بالمشرق الإسلامي من زاهدات وعابدات بلغن في تصوفهن درجة الولاية. كما كان للمرأة في المغرب الإسلامي دور مهم في ممارسة التجربة الولائية ونكتفي هنا بالإشارة إلى ذيوع صيت كل من السيدة عائشة المنوبية (ت 665هـ) بتونس، والسيدة فاطمة الأندلسية بالمغرب.
لم يكن موضوع المرأة وقفاً على مساهمة ذلك الآخر الجندري في التجربة الصوفية؛ بل إنه يتجلى أيضاً في المنزلة التي حظيت بها المرأة من تجاربهم الروحية، باعتبارها موضوعاً لتلك التجربة، فقد أولى كبار الصوفية المرأة اهتماماً خاصاً، وكان لها تأثير عميق في نفوسهم، وشكلت عند بعضهم جزءاً مهما من تجاربهم الروحية، وعند أغلبهم رمزاً أساسياً للحب الإلهي، وكانت عنصراً فاعلاً في عروجهم نحو الذات الإلهية.
يتضح لدى الباحث أن نظرة الرومي إلى الآخر الجندري هي جزء لا يتجزأ من حكمته الشاملة، ورؤيته الصوفية والفلسفية للوجود. ففكرته عن المرأة وشيجة الصلة بمكونات تلك الحكمة، بل هي متجذرة فيها وضاربة في أعماقها ومرتبطة برؤيته للإنسان ولعالم الروح، وبنظرته الفلسفية والكونية للمحبة، وبتصوره لمفهوم الجمال. وقد أبدى مولانا في هذا السياق من الآراء والمواقف ما مكنه من تجاوز الرؤى الدينية التقليدية، وتقديم رؤى تأويلية إسلامية جديدة، وأطروحات وتصورات هي أقرب ما تكون إلى فكرنا المعاصر، وإلى القيم الإنسانية والكونية الحديثة.
جلال الدين الرّومي والآخر الدّيني
الباحثة التونسية سارة الجويني حفيز ترى في دراستها أن الرؤية الصّوفيّة تمتاز -في أغلب مدارسها- بالنّظرة الهيوليّة للأديان، بحيث تجمع المبعثر وترتّبه وفق توليفة تتعقّب البعد الزّمني للمقدّس، استناداً إلى تصوّر مخصوص من أوصافه النّأي عن الشّخصنة، وإذبال الشّعور بـ”الأنا” ولوازمها، لذلك يعدّ الآخر الدّيني، وفي أكثر من مثال، مظهراً للحقّ ضمن اعتبارات الظّاهر والباطن، الجزء والكلّ. وقد أكّدت الدّراسات الأنثروبولوجيّة إمكانات النّظر إلى الأديان من هذه الزّاوية لمّا حاورت النّقيشة والوثيقة، وحفرت في الأرض تبحث عن الأثر والمؤثّر، وأخبرت بإمكانات اعتبار الفضاء الدّيني المشاع. إنّ التفحّص السّريع في آثار جلال الدّين الرّومي، يخبر بأنّه نظر إلى الحقيقة واحدة في جوهرها، متكثّرة بصفاتها وأسمائها، وأنّه تأوّل الدّيانات على اختلافها من خارج التّجاذب والتّناحر وادّعاء الأفضليّة، وفتح الباب على نبل الضّمير الإنساني، ووجّه الهمّة إلى الله علّة الوجود.
وتشير الباحثة إلى أن المقامات والأحوال الصوفيّة أسهمت في نحت شخصيّات المتصوّفة كما أسهموا في وضعها، وكانت نظرة جلال الدّين الرومي إلى الآخر المختلف بتلك المواصفات تمدّ المتمعّن فيها بأسباب البسط، ولأنّها تتعمّق في الإنسان الجميل بنفسه، الثّمل بنفسه، الحلو بنفسه، فإنّها تدرك -ومن دون عناء- حكمة التنوّع والاختلاف، لا سيّما إذا ما وقع استقبال ذلك ضمن نظريّات الإنسان الكامل والقطب الهادي. فمن القضايا المهمّة المطروحة التّي يغذيها تصوّف جلال الدين الرومي وانفتاحه على الآخر الديني، مسألة العالميّة من حيث إنّها تتداول توليفة كيانية تجمع العالم تحت رعاية المبدع -أحيانا- ووفق قواعد ثابتة تترأسها الأخلاق، وهي كذلك منشغلة بتجديد أنساق الوعي، وإعادة رؤية القيم بشكل إنسانيّ نفعي متحرّر من احتكار السّلطات، وهي في قراءات أخرى متأخرة، تهدف إلى إعادة النّظر في طرق التناول لعناوين نافذة ومتحكّمة، كالأديان والأيديولوجيات والقوميات والحدود والهويّات. وتزدهر الفلسفة الصوفيّة من حيث تباحثها إمكانات تصورٍ لعالمٍ يحقّق وجوده عبر قدرة الوعي الإنسانيّ على التّجانس، وفي هذه التّخوم تطرح قراءة الدّيني والثّقافي تجمع قطع لعبة الصّور الممزّقة، التّي يؤدّي ترتيبها إلى ظهور الصّورة كاملة.
الرّومي ومخالفوه: رؤية جلال الدين البلخي للآخر
تشير دراسة علي آقا نوري (أستاذ التصوف والعرفان في جامعة الأديان والمذاهب بتركيا) إلى أننا نشهد تمرداً وتعالياً كبيرين من قبل المسلمين في مجتمع تسوده الفوضى، وينتشر فيه الشغب وغياب النظام، إلا أن الأمل يبقى كبيراً؛ ذلك لأن المنهج الصوفي- العرفاني والتعاليم المعنوية السمحاء، والطقوس الباطنية الإسلامية النقية، يمكن أن تقوم بدور عظيم في حلحلة العقد والمشاكل الكبرى التي نزلت بالأمة الإسلامية، والتي أدّت إلى خسائر فادحة لا يمكن تعويضها، تلك العقد والصراعات التي شوّهت صورة الإسلام وحوّلته إلى ما بات يروّج له بـ: دين الدماء والإرهاب والوحشية.
يسعى البحث إلى استعراض القواعد الصوفية وأصول الرؤية العرفانية لمولانا جلال الدين الرومي بشكل عاجل، وهي القواعد والأصول المتعلقة بالاختلافات الدينية والصراعات المذهبية، وطبيعة رؤيته إزاء من يختلفون مذهبياً ودينياً، ودواعي وأسباب ظهور وتبلور ذلك الخلاف أيضاً.
ويرى الباحث أن تراث مولانا جلال الدين الرومي امتلأ بالأشعار والأحاديث والقصص التي تشعر القارئ باهتمام الرجل بمراعاة الآخرين، وحسن معشره معهم، ومحبته لهم ومخالطته إياهم، بعيداً عن التعصب والقسوة.
الرقص المولوي ودلالاته
يرى الأكاديمي التونسي محمد بن الطيب أن الصوفية كانوا يعتقدون أن الطرق إلى الله على عدد أنفاس الخلائق؛ ولذا فإن «مولانا» جلال الدين الرومي (ت 673هـ/1273م) انطلاقاً من هذا المبدأ قد اتّخذ طريقاً إلى الله غير مألوف سلوكه عند الصوفية، وهو طريق الموسيقى والرقص. فقد تجاوز الرقص عند الرومي الوظيفة التعبيرية الإيحائية ليستبطن رؤية للعالم تخرج عن السائد، ذات طابع وجداني ومنزع روحاني وبُعْد أنطولوجي، كيف لا وهو الذي يرى أنّ في توقيعات الموسيقى سرّاً خبيئاً لو كشفت عنه لتزعزع العالم!، وأنّ الرّبابة وإن كانت مجرّد وتَر يابس، وخشب يابس، وجِلْد يابس، فإنّ منها يخرج صوت المحبوب.
ليس غريباً أن ينحو الرومي هذا المنحى؛ ذلك أنّ من أهمّ مواطن الاهتمام التي كان عليها مدار شِعره الإنسان وحنينه الدائم إلى أصله الإلهي. فقد افتتح المثنوي بأبيات جميلة بليغة يتجلى من خلالها مفهومه لطبيعة الإنسان، وحنين نفسه الدائم إلى أصلها الإلهي الذي انفصلت عنه، فنحن من الله وإلى الله نعود.
يتبين من وجهة نظر الباحث أن الرقص المولوي، وإن بدا في الظاهر حركة دائرية بسيطة لا تعقيد فيها، فإنه يختزن رموزاً متكثّرة ودلالات متعدّدة، وهو ذو قابلية عجيبة للتأويل والتخريج، فلكل حركة أكثر من معنى، ولكل إشارة أكثر من مغزى، فهو عميق الدلالات، غزير الإيحاءات، شديد الاكتناز، كثيف المعاني، ولا يتاح إدراك طرف منها إلا باستحضار التجربة الصوفية عموماً، وتعاليم الطريقة المولوية خصوصاً. وبالعودة إلى حياة «مولانا» وعلاقته الروحية بشيخه شمس تبريز، فلا يتسنّى معرفة تجلياتها وأبعادها وغناها، واكتناز معانيها وتنوّع دلالاتها وتلوّن صورها، إلا بتأمّل أشعار «مولانا» وآثاره، فمن خلالها تتجلى الحياة كلّها رقصاً عظيماً يتخلّل مجالات الوجود بأسرها، وتشترك فيه المخلوقات كلها، وبعض الناس ممن زكت نفوسهم وصفت قلوبهم وسمت أرواحهم، يروْنه عيانا ويستشعرونه وجداناً، وبعضهم لا يدرك ما فيه من رموز، ولا يفهم ما ينطوي عليه من أسرار الحياة والعشق والموت والبعث.
الرقص المقدّس والتناغم الذرّي: جلال الدين الرومي وغوتفريد فيلهلم لايبنتز
تقدم الباحثة كريستين كوسايفي (متخصصة في الأدب الشرقي) مقارنة لتُثير تساؤلاً مشروعاً: ما الذي يمكن أن يُوجد من قواسم مشتركة بين صوفي شرقي من القرن الثالث عشر، وغربي عقلاني من القرن السابع عشر؟ الجواب الذي يفرض نفسه على عقل القارئ المتعجّل هو: لا شيء.
لكن الدراسة تقترح العكس، فوراء الاختلافات، تظهر بين الرقص المقدّس الذي وضعه جلال الدين الرومي، والتمثّل اللايبنتزي للجوهر الفرد أو المونادة (monade)، تشابهات لطيفة تتجاوز كونها نتاج مقارنة فكريّة محضة. وفي الواقع، فإنّ الطريقة التي أسّسها جلال الدين الرومي، نظّمها ابنه سلطان ولد، الذي «ملأ دُعاته برّ آسيا الصغرى» حسب الأفلاكي، لتنتشر تدريجيّاً في جميع أنحاء العالم، انطلاقاً من تركيا ثمّ الشام، فجميع نواحي الإمبراطوريّة العثمانيّة وصولاً إلى فيينا، ويعمّ تأثيرها ثقافات تلك المناطق.
من خلال المقارنة بين الرومي ولايبنتز، حاولت الباحثة إظهار وجود تماثلات خفيّة وسرّية بين كاتبين بما يجعلنا نُلقي أضواء جديدة على آثارهما. فجلال الدين الرومي، الصوفي الذي يحترق رغبة في المحبوب، وتأكله نار العشق في انتشاء تطهّري يفسخ في ذاته كلّ أثر للوعي، هو أيضاً مُربٍّ فاضل ومعلّم متيقّظ، تمكّن من خلال تفكّره الذاتي ورؤيته العقلانيّة للكون، من إدراك التنظيم المنطقي حتّى في خصوصيّة الذرّة. وعلى العكس من ذلك، فإنّ لايبنتز، الفيلسوف العقلاني الذي يبدو أنّه يُخضع كلّ شيء إلى صرامة القوانين الرياضيّة الباردة، يكشف عن حساسيّة تجاه نور الله؛ وقد عرف كيف يصف باندهاش حالة الانتشاء التي تتلبّس الكاهن تيودور –وكلّ مريد– في حضرة كمال أفضل العوالم الممكنة، وهو عالمنا، وأن يدعونا إلى أن “نُوقظ فينا كلّ الأطفال النائمين”.
وتخلص الباحثة إلى أن جلال الدين الرومي وغوتفريد فيلهلم لايبنتز يعلّماننا، كلّ بطريقته الخاصّة، كيف يمكن للتوتّر القائم بين التصوّف والعقلانيّة أن يجد الحلّ في التكامل المتناغم والثريّ.
جلال الدين الرومي شاعراً وصوفيّاً
تشير الأكاديمية الفرنسية إيڤ فِيْبُوا بيرونك إلى أنه ليس للشعر قيمة من حيث هو (فكثير من الصوفية الآخرين نفوْا عن أنفسهم حب الشعر)، فهو لا يعدو أن يكون كلامًا، غير أنه يمكن أن يحمل معنى أو رسالة مقدسة تهدي الناس إلى «المحبوب»، حين يكون الشاعر محض آلة ينفخ فيها «الواحد» من روحه. والكلام والشعر والخيال، كل أولئك لا يعبرون عن الحقيقة إلا بطريق المثال. ومهما تكن هذه اللغة التصويرية عُرضةً لإيهام المشابهة بين الله وبعض خلقه، فسيظل الشعر خير مركَبٍ تتخذه المعرفة والتجربة الصوفية. وقد بلغ -بسببٍ من طبيعته الإلهامية التي تكون للغة المقدسة- رتبة الوحي المكتوب، كالقرآن. ولا ينبغي أن يصرفنا البحث عن «المعنى الباطن» للشعر عن شكله، الذي يُنظر إليه غالبًا بوصفه مَرْكَبًا أو وعاءً للفكر، وذلك أن شكلَ الشعر ومضمونَه يتصل أحدهما بالآخر أشدَّ اتصال، حين يكون الباعثُ على القول تجربة صوفية، فالمجازات والأنماط الأسلوبية تجمع إلى إيجاد المُناخ الروحي إنشاءَ المعاني.
هذه العلاقة بين المحتوى والشكل الشعري المستعمل في حاجة إلى مزيد بيان: فليس يستقيم أن تُعالَج مسألة ما على نحو واحد في الرباعية، والغزلية، والمثنوي. فالصبغة التعليمية للمثنوي ما بها خفاء. ومحتوى الأشكال القصيرة (الغزلية والرباعية) أدنى إلى الغنائية، ولكن هذه الغنائية تحمل أيضًا ضربًا من التعليم الذي كان مرادًا للكاتب، ومستساغًا كذلك لدى القارئ الوسطوي.
من أبرز سمات شعر الرومي موسيقاه المطربة، فقد كان مولانا ذواقة للموسيقى، وأبدى مقدرة عجيبة في توظيف جرس الكلمات، ففي بعض غزلياته تراه يبرز الفرق بين شدة الكلمات التي ترسم -من جهة- ظرفًا إنسانيًّا عسيرًا، متمثلاً في صورة عبدٍ يعدو حافيَ القدمين، في صحراء كَسَتِ الأشواكُ أديمَها، وانسياب الإيقاع ـمن جهة أخرى- الذي يمكنه من أن يبث في نفس قارئه الإحساس باللطف والصفاء، وهو ما يوافق ذلك التفاؤل الذي كان يملأ قلبه بشأن مصير الإنسان.
وإلى جانب السجع والجناس والاشتراك اللفظي، وغير ذلك من سائر الفنون اللفظية، ترى الباحثة أن الرومي يستعمل أيضًا أنماطًا شتى من التركيب: التكرار، التوازي الصوتي أو الوزني، التعداد… إلخ. ومما أحدث نوعًا من التوازن تكرار بعض المفردات، كالأسماء والأفعال التي ترد تباعًا مرتين أو ثلاثًا، أو في أول البيت وفي آخره. وربما كان التكرار لنمط نحوي أو دلالي مع بعض التغيير، مما يبعث كوامن النفس.
هل كان شمسُ تبريزي إسماعيليًّا؟
بحسب الباحث المصري خالد محمد عبده (متخصص في الإسلاميات والتصوف) فإن قلّة المعلومات عن شمسٍ كانت سببًا فيما اكتنف تلك الشخصية من غموض وإبهام؛ مما جعل الدارسين يخلطون بين شخصيات عدّة تحمل الاسم نفسه، وينظر إليها بعين التقديس من قِبل المحبين، فصار شمس مرة صوفيًّا ومرة إسماعيلي المذهب والعقيدة، مستترًا ممارسًا للتقية، ومرةً سنّيًا شافعيًا، ومرة يُذكر باعتباره أنموذجًا للتحول المذهبي، وتغيب ملامح الشخصية وسط هذا الكمّ من التخمين.
تتناول الورقة حقيقة شمس تبريزي ومذهبه، وتدخل هذه المسألة ضمن اهتمام الباحث بالتلقّي العربي للرومي والمولوية، كما كانت المدرسة المصرية تفعل في بدايات القرن المنصرم، وتابعها في عملها أساتذة أجلاء من سوريا والعراق والأردن وغيرها من البلدان العربية.
ولأن الدرس الغربي المبكر صوّر شمسًا في صورة أسطورية، اعتمادًا على بعض المعلومات الواردة عند أفلاكي وجامي، رأى الباحث أن يعرض لآراء طائفة من المستشرقين، ومن هنا تمر الدراسة على رأي نيكلسون وبراون ووليم تشيتيك وفرهاد دفتري وغيرهم. ثم تختار أنموذجًا لمن كتبوا عن شمس بالفارسية العلامة فروزانفر المحقق لأعمال الرومي، وعطاء الله تدين، من المعاصرين ممن تلقى كتبهم رواجًا في إيران وتحمل نزعة قومية ظاهرة، وتلا هذا الأنموذج الذي يتبنى المذهب الشيعي، أنموذج لمقاربة أخرى تناولت الرومي والمولوية مرتكزة على الخلفية السياسية والأيديولوجية من جهة، وعلى العلم الحديث من جهة أخرى، وهي مقاربة العراقية إحسان الملائكة، ثم ناقشت الورقة رأي الإسماعيليين العرب في شمس تبريزي.
المولوية في الدراسات والبحوث العراقية
من وجهة نظر الباحثة والأكاديمية العراقية نظلة أحمد الجبوري (متخصصة في الفلسفة والتصوف والفكر المقارن)، لم يحظ «المفكر الإسلامي جلال الدين الرومي المولود عام 1207م، والمتوفى في 1273م» (شاعر الصوفية، وصوفي الشعراء) منذ زمن ليس بالقريب بدراسات جادة ومهمة من الباحث العراقي، إلاّ بصورة من صورتين، إما لاستكمال دراسة عن موضوع ما من الموضوعات الصوفية تاريخياً وفكرياً ومقارنة، وتعد هذه هي الصورة المتبعة في الدراسات العراقية، ولا سيما في دراسات الفكر الصوفي؛ وإما لاستكمال البناء الفكري لمضمون الكتاب والبحث. فيأتي ذكر الصوفي جلال الدين الرومي في السياق العام، مع احتفاظ تلك الدراسات والبحوث بالقيمة العلمية الرفيعة المعتمدة لإنجازات الباحثين العراقيين. وتقول الجبوري: إنه ربما لم يعُد للمولوية وجود مستقل، بوصفها طريقة صوفية سوى الذكر الإيقاعي، والرقص الصوفي، لتتحول من طريقة صوفية تعبُّدية إلى فلكلور ديني مناسبي؛ إذ تمّ تناسي حضورها في المعرفة الصوفية، وفي منظومة الفكر الصوفي النسقيّة في الإسلام، على الرغم من دعوتها إلى التسامح بين الأديان والطوائف، ومهما كان معتقدهم وعرقهم، وهذه دعوة إلى وحدة الأديان، وعلى وفق ما عُرف لدى متصوفة الإسلام على مر العصور والدهور، وتقبل الآخر، ورفض التعصب ونبذه، وعدم القبول بالعزلة والرهبانية.
ومع ذلك، ترى الجبوري أن المولوية في العراق ما زالت تشكل قيمة في البحث الصوفي إلى يومنا هذا، وما زالت تُسهم في تشكيل الوعي الصوفي في الإسلام، المشدود إلى الموروث النصي المتضمن معرفة الله سبحانه، والعشق الإلهي، ولهذا أنشأ مولانا جلال الدين الرومي حلقة الذكر الروحي الصوفي على الإيقاع الموسيقي، بوصفه حالاً رمزياً للتعبير عن الوجد الصوفي، حينما تكون اللغة قاصرة عن التعبير عن هذا الحال الصوفي، وهو ما يُعرف لدى المتصوفة، بـ(السماع الصوفي)، من جانب؛ وإلى القراءة المعاصرة لهذا الموروث، الذي يمزج الحكمة والروحانيّة، والمعرفة العميقة للنفس البشرية، ففاض حباً وهام عشقاً بالله سبحانه، فكانت المولوية طريقاً له سبحانه، من جانب آخر.
تأثيرات الرومي الثقافية في علماء الهند وأدبائها حديثًا
يشير الباحث والأكاديمي الهندي صاحب عالم الأعظمي الندوي في دراسته، إلى أن أشعار الصوفي مولانا جلال الدين الرومي ومؤلفاته الفكرية، تركت تأثيرًا بالغًا في الصوفية والمفكرين والأدباء الهنود، وهذا لم يحدث في شخصيات صوفية في العصور الإسلامية الهندية فحسب؛ بل تأثرت بأعماله وأفكاره شخصيات فكرية من المسلمين والهندوس -على السواء- في عهد الاستعمار البريطاني وحتى في العصر الحديث. وقام كثير من العلماء والأدباء من المسلمين والهندوس بإعداد أعمالهم عن شخصية مولانا جلال الدين الرومي، وترجموا مثنوياته إلى اللغات الهندية لا سيما الأردية، والسندية، والپنجابية، والبنگالية… إلخ. ولقيت أفكار مثنوياته صدى واسعًا جدًا في جميع أنحاء الهند.
كانت الإشكالية التي يريد الباحث طرحها للبحث والمناقشة في هذا البحث، تكمن في البحث عن القنوات التي أسهمت في نقل مباشر أو غير مباشر لأفكار الصوفي الرومي إلى الهند، مع دراسة أعمال بعض الصوفية في العصور الإسلامية ومقارنتها مع أعمال الرومي. وكذلك حاول الباحث إجراء دراسة مقارنة لأعمال الرومي مع أعمال المفكرين والأدباء الهندوس والمسلمين في عصر الاستعمار البريطاني إلى أن استقلت الهند. وتضمن البحث تأثيرات الرومي الأدبية والفكرية في الأدباء والشعراء الهنود في عصر الاستعمار البريطاني.
الرموز الدينية عند البكتاشية والشبه بينها وبين المولوية
يتناول الباحث والأكاديمي التركي رمضان بيجر الرموز عند البكتاشية والشبه بينها وبين المولوية، فقد استخدمت الرموز على مر التاريخ كلغة تعبر عن أفكار الثقافات. وللتعبير عن القيم استخدمت الرموز والأيقونات بدلاً من الاسم، والكلمة ذات محتوى عقائدي. على الرغم من أن المسلمين يولون اهتماماً بعدم الخروج عن أسماء الله الحسنى المتعارف عليها، فإنه وفي الأثر اللفظي والكتابي يوجد رموز لها.
ويجد الباحث أن الرموز أكثر استخداماً عند الصوفيين في الأدب الإسلامي. بما أن الصوفية تهتم ببواطن الأمور، فالرمز يعبر عن باطن اللفظ، فأصبح الرمز أداة صوفية في تعبيراتهم. وبالرمز يُشار إلى خصوصيات الأمور أو غموضها، وذلك يكون أحياناً بالإيماء وأحيانا بالكنايات.
ويشير إلى أن البكتاشية من أكثر الطرق الصوفية في استعمال الرموز. وقبل الخوض في الرموز المستعملة لدى البكتاشية، يوضح الباحث ماهيتها لاستيعاب الترابط بين رموزهم ومعتقداتهم وتاريخهم. فالبكتاشية تركيب مستقل من اعتقادات ومذاهب مختلفة. لهذا السبب نجد في الرموز البكتاشية آثاراً من كل الأديان الأخرى، وكذلك نجد في البكتاشية أيضاً آثار الحروفية، فالبكتاشية طريقة تُفهم أكثر ما تُفهم عن طريق الرموز، والرموز متنوعة جداً، فنجد رموز الحيوان والشجر والأعداد بشكل كبير. والرموز في البكتاشية هي انعكاس للأوامر الدينية، لكن في زمننا هذا أخذت مكان الحقائق الدينية، وهذا يُظهر لنا تغير شكل المذهب عبر الزمن.
ويخلص الباحث إلى أنه للتحديد الدقيق في التشابه بين البكتاشية والمولوية، لا بد من الاطلاع على عهد نشأتهما، وبالإضافة لهذا لا بد من مقارنة المؤلفات التي ألفها شيوخ هاتين الطريقتين.