دبي
يحاول كتاب (أزمات المسلمين الكبرى: التاريخ – الذاكرات – التوظيف) (الكتاب التاسع عشر بعد المئة، نوفمبر/ تشرين الثاني 2016) الإضاءة على نماذج من الأزمات في جغرافيا موزعة على منطقة الشرق الأوسط وآسيا وأفريقيا. بدأ الكتاب بالقضية الفلسطينية في الوعي العربي الإسلامي متسائلاً عن «فخ» اختزالها في «الأسلمة»، ثم أزمة المسلمين الويغور في الصين، وأزمة الروهنجيين المسلمين في ميانمار، مروراً بأزمة المسلمين في جمهورية أفريقيا الوسطى، ثم تطرّق لإشكاليات إدارة التسامح في العالم العربي، والصراع الشيعي- السني، وأخيراً أزمات المسلمين من القرن السابع الميلادي وصولاً للقرن العشرين.
القضية الفلسطينية في الوعي العربي والإسلامي: مراجعات نقدية
تسعى ورقة الأكاديمي التونسي محمد الحدّاد إلى متابعة «تمثلات» القضية الفلسطينية في وعي العرب والمسلمين، والتساؤل عما أسهمت هذه التمثلات في تحقيق الأهداف المرجوّة، أم إنّها كانت عامل إعاقة.
لا يستبعد الباحث أن تشهد القضية الفلسطينية في السنوات القادمة «حلاً» من صنف لم يتوقّعه أحد في السابق؛ إذ إنّ انهيار النظام السياسي العربي، وحالة عدم الاستقرار التي عصفت بدوله الرئيسة، وانهيار جيشين عربيين أساسيين في العراق وسوريا، والدور المتعاظم لتركيا في المنطقة، وهي المرتبطة مع الكيان الصهيوني بعلاقات دبلوماسية وعسكرية واقتصادية وطيدة، كل هذه المؤشرات تؤكّد أنّ «ثوابت» القضية قد تنهار شيئاً فشيئاً، وتتغير معها المواقف والتحالفات.
وبحسب الباحث أيضاً، حجبت نظرية المؤامرة لفترة طويلة إمكان المتابعة الدقيقة لآليات العمل الصهيوني، أي فهم الوسائل وتحديد جماعات الضغط وتحليل الخطابات والاستدلالات، بغية مواجهتها بطريقة معقلنة وناجعة. وبالإضافة إلى العوامل التي ذكرناها، وهي متعلقة بالوضع الدولي ومخلفات الحرب العالمية الثانية، كان ثمّة متغيّر آخر مهمّ ونوعي قد تطوّر على مدى عقود، يتمثّل في بروز رافد آخر قوي لصالح إسرائيل، لم ينشأ من داخل اليهودية ولا في تعاطف معها، بل نشأ من المسيحية الأصولية التي تحظى في الولايات المتحدة الأمريكية بوزن سياسي مهمّ.
من هنا، أصبح مئات الآلاف من المسيحيين الأصوليين يؤمنون بضرورة استرجاع اليهود لفلسطين؛ تمهيداً لما يعرف لدى المسيحيين بعودة المسيح. ولا بدّ أن نشير هنا إلى أنّ أغلبيّة المسيحيين في العالم لا يفسّرون ذلك تفسيراً حرفياً بهذا الشكل. بيد أنّنا نعلم أن الأقليات هي التي تصنع العالم اليوم، لأنّها الأكثر قدرة على التحرّك بنجاعة.
من ذلك، ومن بزوغ صوت التيار الإسلامي -بشكل خاص- بعد نجاح الثورة الإسلامية الإيرانية، نتجت الخطوة التي تلتها في مسار القضية الفلسطينية، وهي أسلمة القضية. ويحدد الباحث خمس مضارّ رئيسة، لما دعي بعد الثورة الإيرانية بأسلمة القضية الفلسطينية:
- تعميق الانقسام داخل الصفّ الفلسطيني
- تعميق الارتهان بالتجاذبات الإقليمية
- خسارة جزء من الدعم الدولي
- خسارة الدعم المسيحي
- تحويل القضية إلى مسألة إنسانية
يخلص الباحث إلى أن ما يؤشر على توقعاته بحدوث تغيير غير متوقع في مسار القضية، غرائب التغيرات في مسارها أخيرا، مثل مباركة حركة «حماس» وحركات الإسلام السياسي –عموماً- للتطبيع التركي- الإسرائيلي المعلن -أخيراً- مع أنّ «حماس» قد نشأت في سياق رفض المفاوضات بين منظمة التحرير الفلسطينية والسلطات الإسرائيلية ضمن مسار «أوسلو».
أزمة المسلمين الويغور في الصين
يمهد رئيس برنامج الدراسات الدينية في جامعة شانغهاي للمعلمين في الصين: جيان بينغ وانغ مسار الورقة بأن شنجيانغ بؤرة لنطاق تماسّ ثقافي يفترض أن تتلاقى فيه المعتقدات الروحية، والقوى السياسية، والقوى الاجتماعية، ويتشابك فيه النضال والمواجهة. وهذه السمة المعقّدة لخصائص شنجيانغ المذكورة أعلاه جعلتها مصدراً للأزمات في الألف سنة الماضية.
تحاول الورقة استعراض الأزمة الحالية القائمة في مجتمع الويغور (Uighur) في شنجيانغ، وجذور هذا الاضطراب مع الأبعاد الداخلية والخارجية البارزة في السياق الاجتماعي. الأولى تظهر في القومية الويغورية الموروثة، والرابطة اللغوية التركية، والنزعة الإسلامية التقليدية، والحركة القومية التركية في آسيا الوسطى، وتقرير المصير السياسي، والتوتّر بين القومي مقابل الدولة، والدين مقابل الإلحاد والوعي الثقافي المحلّي. يحلّل الباحث الأخيرة من خلال الطبيعة التصادمية للقوى الكبرى المجاورة للإقليم، والاستراتيجية الجيوسياسية التي تتجلّى في «اللعبة الكبرى» في الحقبة الجديدة التي تلت الحرب الباردة، والصراع بين عولمة الإسلام في العالم الإسلامي، وعولمة المادّية العلمانية في البرّ الصيني منذ عصر الإصلاح وبرنامج الباب المفتوح، الذي بدأته جمهورية الصين الشعبية في ثمانينيات القرن العشرين، ومعاناة الويغور في مثل هذا الوضع المضغوط والمقيّد الذي فرضته القوى الخارجية، والنهج البراغماتي الذي تنتهجه الأنظمة السلطوية القوية في جمهوريات آسيا الوسطى وروسيا التي تحدّ إقليم شنجيانغ الصيني.
لا يقتصر انبعاث النزعة المحافظة الدينية على مجتمع الويغور فحسب، وإنما يؤثّر في المسلمين الهوي (Hui) والكازاك (Kazak)… إلخ، أيضاً. غير أن الضغط الاجتماعي على الأخيرين أقلّ شدّة مما يتعرّض له الويغور. بل إن ثمة تأثيراً ضمنياً يدعو إلى التمسّك بالنزعة الدينية المحافظة واحترامها، حتى في مدن مثل أورومتشي في شمال شنجيانغ، حيث يقيم كثير من الصينيين الهان (Han)، ويتجمّع كثير من الويغور الذين تلقّوا تعليماً عالياً وأصبحوا من النخبة.
على الرغم من بيانات السلطات بأن الأنشطة الدينية وحقوق المواطنين في شنجيانغ محترمة ومضمونة، فإن حملة «الضرب بشدّة» منعت أو حظرت بعض الطقوس الدينية المعتادة باسم حظر الأنشطة الدينية غير القانونية. في الوقت نفسه، اتخذت السلطات خطوات قاسية لقمع الحركات المتطرّفة والاستقلالية. لكن ذلك أدّى إلى ردّ فعل من قبل المؤمنين. ويقدّم الكتاب الأبيض الخاص بشنجيانغ الوقائع بشأن مقتل عديد من الأشخاص في السنوات القليلة الماضية في هجمات إرهابية. لم تؤدّ حملة «الضرب بشدّة» المتواصلة إلى القضاء على كفاح الويغور لنيل الاستقلال.
من التدابير الرئيسة الأخرى التي اتخذتها السلطات في شنجيانغ للتصدّي للتطرّف الديني، إطلاق سياسة شديدة الجرأة لإدخال برنامج ثنائي اللغة (الويغورية والصينية الهانية) على كل مستويات مجتمع الويغور، لاستيعاب ثقافة الويغور التركية في الثقافة الصينية، وإضعاف أساس القومية المحلية والثقافة الدينية. لكن تبيّن في المقابلات الخاصّة التي أجريت مع الكوادر الهانيين والمعلّمين الويغور، بعد مرور سنوات عدة، أن هذا البرنامج واجه مقاومة من الويغور، وتسبّب في إرباك الطلاب الويغور الشبان: فهم لا يتقنون لغتهم الأم (التركية)، ولم يتعلّموا اللغة الصينية جيداً.
وبحسب الباحث أيضاً، ربما يكون من المبالغة القول: إن مجتمع الويغور التقليدي يتعرّض لخطر التفكّك والإفلاس، بل إن الظواهر المذكورة آنفاً تشير إلى أزمة اجتماعية قاسية يمكن أن تحدث في أي بلد أو مجتمع. ومثل هذا العداء بين المسلمين وغير المسلمين في شنجيانغ، وانعدام الثقة، والارتياب المتبادل، يجعل العلاقة الإثنية أشد تعقيداً وأصعب حلاً بالطرق السلمية.
يخلص الباحث إلى أن أزمة المجتمع الويغوري في الصين المعاصرة ستستمرّ على المدى الطويل؛ لأن الصين لا تزال تقوم بدور فاعل جداً اقتصادياً، وسياسياً، وعسكرياً ودبلوماسياً وثقافياً في المنطقة، ولأن نوع النظام في الصين لا يزال يعمل بطريقة سوية، من دون أن يواجه تحدّيات خارجية حادّة. لذا من المرجّح أن تندلع في المستقبل أحداث عنيفة بين الفينة والأخرى في شنجيانغ على خلفية الصدامات الإثنية والدينية، وأن تستمرّ حملة قمع الحركة الانفصالية في تركستان الشرقية والتطرّف الإسلامي في المستقبل المنظور. إذ لا يوجد حالياً أي طريقة لحلّ الأزمة التي يواجهها الويغور في الصين، واستئصال جذور التطرّف والإرهاب.
الهويّات المتنافسة والتاريخ المهجّن للروهنجيين
يقول المؤرخ الفرنسي المتخصص في تاريخ الروهنجيا جاك ليدر: إن المخاطر الملازمة للتحوّل السياسي في ميانمار، هي ما أطلق التوترات التي قمعها النظام الاستبدادي لمدّة عقود.
يلفت الانتباه إلى دور التاريخ وكتابة التاريخ الناقصة في التمثيل الراهن للصراع. وهي تدعم الحجّة بأن المسلمين والبوذيين يتمسّكون اليوم بمجموعتين من الهويات، تستبعد إحداهما الأخرى بناء على ادّعاءات متنافسة تتعلّق بتاريخ البلد وجغرافيته. ولا تتقاسم الطائفتان رواية وطنية عن أراكان بوصفها موطنهما، إذ لا تقرّ الرواية البوذية بدور المسلمين، ويُتجاهل دور الحضارة البوذية السائدة في أراكان في التاريخ الذي يعيد «الروهنجيون» المسلمون روايته.
يستعرض القسم الأول من الورقة إنشاء هوية إسلامية محدّدة في شمال أراكان وظهور الحركة الروهنجية. ويركّز القسم الثاني على استخدام التاريخ مصدراً للشرعية من قبل البوذيين والمسلمين على حدٍّ سواء. ويليه تفحّص نقدي لبيانات الروهنجيين بشأن أصولهم، ويقود إلى مراجعة للمصادر التاريخية عن نموّ المجتمع المسلم في الفترة الاستعمارية. وتختتم المقالة ببعض التعليقات على الحاجة إلى إدراج الخطاب عن الماضي المتصوّر في النقاش، بشأن الحقوق السياسية والقضايا الإنسانية.
يخلص الباحث إلى استنتاج قاتم حول مستقبل المشكلة الراهنة في ميانمار، ويعتقد أن الخلفية التاريخية للصراع حول الهوية، أمر ثانوي في تحديد حل للقضية. فيقول:
“لا توجد أرض مشتركة تتعايش فيها الطوائف في البيت الواحد الذي يدعى أراكان، حتى إذا قامت حكومة ميانمار بسجن كل مرتكبي أعمال العنف في سنتي 2012 و2013 كما يفترض بها من الناحية المثالية، وحتى إذا احترمت قوّات الأمن بعد إصلاحها مبادئ حقوق الإنسان، وأقيم حوار لصنع السلام في أراكان”.
المتطرّفون البوذيون في ميانمار… حركة (969)
يركّز هذا البحث -في معظمه- على الجماعات البوذية التي تقف خلف كثير من العنف الممارس ضدّ المسلمين في ميانمار الحديثة، ويشير عظيم إبراهيم (الزميل في كلية مانسفيلد بجامعة أكسفورد) إلى أنهم لا يعملون في فراغ. فللجماعات البوذية صلات واسعة مع «الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية» والنظام العسكري القديم على حدٍّ سواء. وهم يؤثّرون في معتقدات معظم البورميين العاديين، بسيطرتهم على قسم كبير من النظام التعليمي في البلد. وفي ميانمار الحديثة، لا يجرؤ إلا القليل على الوقوف في وجه تعصّبهم أو تحدّي مقولاتهم.
قبل النظر بالتفصيل في حركة (969)، وحلفائهم ما با ثا (MaBaTha) (رابطة ميانمار الوطنية)، لا بدّ من إظهار كيف تنهل أيديولوجيتهم من المقولات التاريخية التي تشتمل عليها بوذية التيرفاد (Theravada). وصل هذا الضرب من البوذية مما يعرف حديثاً باسم سريلانكا، إلى وسط بورما ابتداء من القرن السابع الميلادي فما يليه. ومن الافتراضات الهيّنة أن البوذية دين مسالم، لا يظهر أي علامة على عدم التسامح مع المعتقدات الأخرى، التي تسم المسيحية والهندوسية والإسلام. لكن الحال ليس كذلك للأسف.
وكما يرى الباحث، تنهل حركة (969) من السوابق التاريخية (للمواجهة بين المسلمين والبوذيين) وتضيف إليها تحريفاتها الأكثر حداثة. لكنها في جوهرها تحتج بأن أي تخفيف للثقافة البوذية الصافية في ميانمار سيعرّض الدين بأكمله للخطر. وهي تحدّد في الوقت الحاضر أن الإسلام يشكّل تهديداً وجودياً (مع أن «5%» فقط من السكان مسلمون). وتشيع أيضاً فكرة شرعية ارتكاب العنف لحماية التعاليم وانعدام المسؤولية عن تبعات أعمالهم. وقد أطلق على أشين ويراثو، وهو أحد قادة حركة (969) المهمّين، اسم «ابن لادن البوذية» ؛ بسبب تطرّف آرائه. ويدّعي المدافعون عنه –أحياناً- أن هذه التسمية ترجع إلى أكاذيب وسائل الإعلام لأن «المسلمين يمتلكون كل وسائل الإعلام، ولا يقدّمون إلا صورة سلبية عنه».
تستمدّ حركة (969) كثيراً من الإلهام من أقرانهم في الدين في سريلانكا، الذين يحاجّون بأن العنف والتمييز مشروع ما دام ذا غاية مقبولة. وذلك مثير للقلق بسبب مستوى عدم التسامح الذي تظهره الدولة التي يسيطر عليها البوذيون في سريلانكا.
يعتقد الباحث أنه ربما يكون لحركة (969) جذورها في الحركة المؤيّدة للديمقراطية في السنوات (1988-1990)، لكن عندما عاودت الظهور سنة 2008، لم يكن هناك كبير شكّ في أن الجيش متواطئ في إنشاء حركة (969) أولاً ثم ما با ثا لاحقاً.
أفاد بعض الرهبان بأن الضباط العسكريين عرضوا عليهم عند إطلاق سراحهم من السجن معاشاً ومكاناً في أحد الأديرة إذا ساندوا حركة (969). لكن في الفترة المبكّرة التي تلت سنة 2008 كانت حركة (969) لا تزال تساند «الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية» إلى حدّ كبير، بل إنها جدّدت في الواقع التحالف الذي كان قائماً بين سنتي 1988 و1991.
يخلص الباحث إلى أن التحامل على المسلمين عميق الجذور في ميانمار الآن. ومع أن الحلفاء المتطرّفين لـ«الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية» انقلبوا عليها في انتخابات 2015، فإن قيادة الرابطة تظل متواطئة بإنكارها على الروهنجيين حقوق الإنسان الأساسية. وكما هي الحال في الإبادات الجماعية الحديثة الأخرى، فإن العالم يريد أن يتجاهل الإشارات التحذيرية. ويرى إبراهيم أن على العالم الوقوف إلى جانب الروهنجيين، وإلا سنشهد تكراراً للإبادة الجماعية، كما حدث في دارفور ورواندا.
المسلمون في أفريقيا الوسطى.. جذور الأزمة
ترى الباحثة المصرية أماني الطويل أن التحول في طبيعة الصراع في دولة أفريقيا الوسطى، من صراع سياسي إلى صراع طائفي بين المسلمين والمسيحيين، أسهم في أن تكون أزمة أفريقيا الوسطى من نوع الأزمات المفتوحة، وخصوصاً أنها تملك جذوراً تاريخية، سواء من عصور الاستعمار الكولونيالية أو أكثر حداثة من هذه الفترة، وتمتد لدولة الاستقلال الوطني.
يعنى هذا البحث بجذور الصراعات الراهنة في جمهورية أفريقيا الوسطى، ومحاولة رسم خريطة لطبيعة الانقسامات، سواء الطائفية أو القبلية، مع التعرض لأطراف هذه الصراعات، وطبيعة ارتباطاتها الإقليمية والدولية. ويسبق كل ذلك ملمح عن الدولة من حيث المعطيات الجيوسياسية.
في خلاصة الورقة، تستنتج الطويل أن المشكلة في الصراع متعلقة بجهود الدبلوماسية الإقليمية والدولية.
يمكن القول: إن المحاولات الإقليمية والدولية للحد من تصاعد العنف، تعكس مجموعة من المشكلات الخاصة باستراتيجيات حفظ السلام في أفريقيا الوسطى، وخصوصاً ما يرتبط بفاعلية الهياكل الأمنية الوطنية، في ظل تدفق الأسلحة والمقاتلين من الدول المجاورة عبر الحدود، مع انتشار ثقافة سياسة «الفائز يأخذ كل شيء»، والإفلات من العقاب لمنتهكي حقوق الإنسان، لا سيما في قوات أمن الدولة، خصوصاً مع انتشار أنشطة عبور المقاتلين للحدود، الذي يمثل نمطاً هيكلياً للصراعات في هذه المنطقة، في دارفور، وتشاد، وجمهورية أفريقيا الوسطى، وله آثار كبيرة سواء على المستوى المحلي أو المستويات العابرة للحدود الوطنية.
حركة الأنتي- بالاكا الأفريقية وملف النزاع الديني
تضع الباحثة المصرية المتخصصة في الدراسات الأفريقية: هالة ثابت مجموعة من التساؤلات حول ملف الصراع الطائفي في أفريقيا الوسطى:
هل يمكن تبرير أعمال العنف التي تشهدها البلاد بدائرة مفرغة من الصراع الديني بين المسلمين والمسيحيين؟ وبالتالي يمكن إرجاع الأمر إلى سوء إدارة النظام –أو النظم المتعاقبة– للملف الإثني- الديني؟ أم إن الأمر أعمق من ذلك بكثير؟ وهل كان تأسيس حركة الأنتي- بالاكا لتلعب دور سيف العدالة المطبق لاستراتيجية الإدارة العنيفة لملف الصراع الديني؟ أم إننا أمام صراع سياسي على السلطة متسربل بعباءة دينية، خصوصاً وأن أهم اثنين من منسقي الحركة وهما المنسق السياسي والمنسق العسكري، وزيران سابقان في حكومة الرئيس المخلوع بوزيزي؟
للإجابة عن هذه التساؤلات، تتناول الدراسة في الجزء الأول تحليلاً للحركة من حيث نشأتها، أهدافها، تكوينها، والأيديولوجية الحاكمة لتحركاتها. بينما تناقش في الجزء الثاني تهديد الحركة لأمن البلاد، وتعرض فيه سياستها على الأرض، ونطاق عملياتها ومصادر تمويلها. بينما يستعرض الجزء الثالث والأخير حلفاء الحركة وأعداءها.
في خلاصة البحث تفترض ثابت عدداً من الإجابات: الصراع في حقيقة الأمر صراع اجتماعي ممتد، يعكس مجموعة من العوامل السياسية والاجتماعية والاقتصادية المتجذرة، بدليل توجيه العنف ضد من يُشك في صدق ولائه أو انتمائه للقرية أو البلدة، أو ولائه وانتمائه لدول مجاورة شاركت في ممارسة الظلم على أبناء البلد. وهو كذلك صراع يعبر عن طموحات أطرافه. والقضاء على الأنتي بالاكا، أو غيرها من الحركات المتطرفة، لن يتحقق سوى باستعادة الثقة في مؤسسات الدولة باعتبارها ممثلة لكل أطياف المجتمع دون تمييز. (من المهم) نشر حملات التوعية بأهمية محاربة التطرف في أشكاله كافة، وهذا يتطلب مشاركة جميع القيادات، (و) بناء سياسات اقتصادية واجتماعية واقعية تخرج البلاد من دائرة الفقر الخبيثة، وتكسب ثقة المستثمرين المحليين والأجانب في الاقتصاد.
التَّجربة الأوروبية في التَّسامح الدِّيني.. يمكن تطبيقها إسلامياً
يقدم الباحث والمحاضر العراقي المتخصص في الفلسفة الإسلامية: رشيد الخيون قراءة في كتاب، جوزيف لوكلير «تاريخ التَّسامح في عصر الإصلاح» ليس بدافع المعرفة فقط، إنما بدافع استلهام التَّجربة إسلامياً لتكون منطلقاً لإدارة التَّسامح بمنطقتنا، التي تغلي في مِرْجَلِ الطَّائفية والكراهية الدِّينية.
يقول الخيون: أما غرضنا نحن مِن تقديم قراءة موسعة لهذا الكتاب؛ فيتعلق بوضع الشرق الأوسط والنِّزاع الطَّائفي الحاد، الذي هيمن على المشهد السِّياسي الوطني والإقليمي والعالمي. ففي هذا الكتاب تجربة غنية، أشرنا إلى أهميتها بالنسبة لنا، فلا يحتاج أن نعيد اختراع المُخترَع أو اكتشاف المكتشَف. صحيح أن هناك اختلافاً بين التَّجربتين والواقعين، غير أن نجاح أوروبا في تحقيق التَّسامح دَعمه النَّص الدِّيني، مثلما هو متوافر لدينا، مِن آيات وأحاديث ووصايا، ولا يؤخذ علم «النَّاسخ والمنسوخ» بنظر الاعتبار، كونه جاء لإلغاء أو حذف عشرات النُّصوص التي لا تسمح بالعنف الدِّيني وتوصي بالتَّعايش والتَّسامح.
صدر الكتاب بالفرنسية (1994) تحت عنوان «Histoire de La tolerance au siècle de la reforme» ألفه جوزيف لوكلير (Joseph Lecler) (1895-1988) أستاذ العلوم الكنسية في الجامعة الكاثوليكية بباريس، وصدر بالعربية العام 2009 عن المنظمة العربية للترجمة، ونُشر بدعم مِن مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم بدبي.
تضمن الكتاب ثمانية أبواب موزعة على فصول، واهتم بالممالك الأوروبية التي شهدت النِّزاع الدِّيني، ومِن رمادها انطلق التَّسامح، أما الإصلاح فيُقصد به الانشقاقات التي تعرضت لها الكنسية الكاثوليكية، وكان أولها الحركة اللوثرية، التي أسفرت عن فرقة أو مذهب البروتستانت، والبداية كانت بألمانيا.
تلخص القراءة إفادات الكتاب، بأنه قدم معرفة عميقة في أحوال النزاعات الدِّينية والمذهبية، وكيف مرت القرون على القارة الأوروبية، التي ترفل الآن بالحرية الدِّينية والليبرالية في المعرفة والعِلم والسِّياسة؟ وأن التَّشدد الدِّيني يقود إلى إيذاء الدِّين أولاً، في ظهور انشقاقات وآراء مخالفة للسياسة العامة لرؤساء الدِّيانة، وكلما زاد البطش والتَّنكيل قرب فجر الحرية، وزادت القناعات بالتَّسامح، وتكاثر أنصاره.
إنه كتاب يستحق الاحتفاء به، أن يُدرس وتُقدم منه المحاضرات، فقد غطى تجربة مداها قرون مِن الزَّمن، وإذا كنا نعتمد على أوروبا بصناعة الأدوات والوسائل فلنبدأ مِن حيث انتهوا في تجربتهم مع إيجاد التَّسامح، وكتاب القرآن والتُّراث الإسلامي مملوء بالدَّعائم والأسانيد المشجعة، وقد أتينا في هذا المختصر على بعض النَّواحي منه، بما فرضته نصوص الكتاب وتماثلها مع تراث الإسلام.
أزمة الصراع الشيعي- السني: الوقائع، المجالات، والمآلات
يرى الأستاذ الجامعي والمفكر الإسلامي اللبناني: رضوان السيد، أن طوال التوترات والصراعات بين الطائفتين السنية والشيعية، ظلَّ التداخل وظلّت احتمالات التسوية قائمةً، وما كانت هناك متغيرات بارزة من الناحية العقدية أو الديموغرافية؛ إلاّ عندما تحوَّلَ هذا التأزم إلى صراعٍ بين الدول (السنية)، والأُخرى الشيعية. ويحضر العامل السياسي والجيواستراتيجي بقوة في الموجة الحالية من الصراع، والتي يعتبرها الباحث موجة ثالثةً بالمعنى الكبير للانزياحات التي أحدثتها أو تطمح لإحداثها.
يقدم السيد توضيحات تصل إلى خلاصة أنه بقدر ما يصحُّ القول: إنّ هناك صراعاً إيرانياً /عربياً؛ يصحُّ أيضاً القول: إنّ هناك حروباً شيعيةً- سنية! ولا تزال المجابهة من جانب السعودية دفاعيةً إلى حدٍ بعيد. وبالتالي فهو يرى أن لا أُفُق للتفكير والتدبير بشأن العمليات الإيرانية، التي لا يُدرى كُنُهها أو أهدافها القريبة والبعيدة. ويقول:
إنّ «المشروع» الإيراني غير معقولٍ بالفعل. إذ كيف يمكن تصور تغيير هوية وانتماء الشعب السوري القومي أو الديني، مهما بلغ التهجير وبلغ القتل، وكيف يمكن تصور بقاء العراق أو اليمن موحَّداً وسط موجات الإبادة والتهجير؟ وفي الوقت نفسه، ماذا بوسع السعودية أن تقدم من تنازلات للإصلاح والتهدئة ما دامت لا تحتل أرضاً للغير، ولا تتعمد إثارة سني على شيعي، أو تهجير هذا العنصر أو ذاك من دياره؟
أزمات في تاريخ العرب والمسلمين: من الخلافة إلى سقوط الدولة العثمانية
يعتبر المؤرخ والمحقق والمترجم السوري: سهيل زكار في دراسته أن استخدام اصطلاح «أزمة» في الأبحاث المعاصرة حول الأحداث المهمة في تاريخ الإسلام والمسلمين، يساعد على تبني المقاربات الحيادية، ولكن يوصَى هنا بالابتعاد عن النبوءات الرؤوية، مثل المتوافر في أسفار العهد القديم، ولا سيما «سفر دانيال» وكذلك مواد نعيم بن حماد، والذين كتبوا حول المهدي المنتظر، وغير ذلك من الخيالات الجامحة.
إن التاريخ سجل لما صنعه الإنسان، فيه الكثير من الأزمات المتنوعة، فالتاريخ بالنسبة لنا: خبر، ورؤية، وفيما يتعلق بالخبر، توجّب العودة إلى جميع المصادر مهما تنوعت، وكذلك كان لا بد من قراءة المراجع الحديثة، والإصغاء إلى جميع وجهات النظر، ومناقشتها، فالمناقشة ينبغي أن توصل إلى الرؤية الفردية للباحث وهي محصلة، وليست مقدمة، كما الكثير من أبحاث الماركسيين، والاشتراكيين والمستشرقين، ويمكن للنقاش أن يشمل كل شيء يوصل إلى أقرب النقاط من الحقيقة، وليس إلى التجني والضلال، والضياع.
تقدم الورقة استعراضا تاريخياً في (49) صفحة لأهم محطات تاريخ الإسلام والمسلمين عبر القرون، بدءاً من قضايا الخلافة والردة والقراء، وحتى سقوط الدولة العثمانية في القرن العشرين.
الروهنجيا: جحيم التاريخ وسد المستقبل
يقدم الباحث السوداني عضو هيئة التحرير في مركز المسبار عمر البشير الترابي قراءة ومراجعة لكتاب «الروهنجيون: الإبادة الجماعية الخفية في ميانمار» من تأليف عظيم إبراهيم – زميل في كلية مانسفيلد بجامعة أكسفورد.
حدد الكتاب أهدافه في المقدمة: إثبات الوهن التاريخي لنظرية «أجنبية» الروهنجيا، ثم إثبات أن ما يمارس ينذر باقتراب وقوع كارثة إبادة جماعية، ويختتم بتوصيات لتجنّب ذلك. في الفصل الأول تناول تاريخ ميانمار قبل 1948 وتحديدًا تاريخ أراكان (الذي سيتحوّل إلى أرخين) قبل 1824-1826، أي قبل الاحتلال البريطاني الأوّل.
حسب الكاتب، فمنذ استقلال بورما عن بريطانيا عام 1948 تحوّل الروهنجيا بشكلٍ تدريجي إلى هدفٍ سهل لكل سياسي يريد إبعاد الأنظار عن قضية ما. وتوالى السياسيون من الحكومة أو المعارضة، لقيادة دعوات طردهم وإبعادهم، وفي حالات السلام البارد ظل الجميع يتجاهل أزمتهم، فعلِقوا في مخيمات بائسة محرومين من الطعام والعمل والرعاية الصحيّة.
يؤكد الكاتب أننا دخلنا مرحلة ما قبل الإبادة، فقد تم تطبيع العنصرية، والعنف الطائفي حدّد ضحاياه، وتم تبني خطاب الكراهية رسميًا من قبل إدارات متعاقبة، وبات نبذ الروهنجيا في المجتمع هو الأساس، ومنذ عام 2004 يتحدث العالم وتقارير أممية عن إبادة محتملة، والأمر الرئيس الذي يُشجّع الجميع على الاعتقاد بدقة هذا التوقع، هو الطريقة التي تُفكّر بها الحكومة في الأقليات؛ إنها فقط تحتاج إلى مُحفّزات، مثل كارثة طبيعية يُغلق الجيران حدودهم فيها.
وبحسب الترابي، وقع عظيم إبراهيم في فخ الأزمة، ولبس نظارة سياسية مدفوعة بمشاعر إنسانية لا يمكن لأي شخص تجاهلها، لكنه صبّ المعلومات كلها في جدول واحد، ولم يفتح الباب للنقد، فلم يفصّل في أخطاء تحالفات الروهنجيا طوال تاريخهم السياسي، ولا ثقافة إنتاج الأزمة، بل تعاطى معها حتى تماهى معها.
تمنح الأزمات وقودًا للتطرف، وتدفع باتجاهٍ واضح لمحو «ثقافة» الدولة لصالح الهويّات الأخرى، فيزداد الموالون فيها لصالح ضامن الجماعة ومغذيها، كالدين أو العرق أو القبيلة، كما قد يجري اختراعه. والمطلوب لتفادي ذلك هو تحرير العقل من الأزمة، والاتجاه لدراستها بوصفها إنسانية، وتفكيكها على هذا الأساس، ونقلها كعظة، لضرورة التصالح والتواؤم والحلول الوسطى.