دبي
تمثل ليبيا إحدى الدول التي عرفت انهياراً متسارعاً انعكست نتائجه بعد سقوط نظام معمر القذافي على المجتمع والاقتصاد والأمن، فدخلت البلاد في حرب أهلية دموية طال أمدها؛ نتيجة عدم قدرة أي طرف من الأطراف المتنازعة على الحسم في الميدان، وترافق ذلك مع الصراعات القبلية الدائرة على خلفيات سياسية واقتصادية. وعلى الرغم من أن العملية السياسية تتقدم، لكن من الصعوبة تحديد مسار إيجابي لنجاحها بشكل كامل، خصوصاً أن التحديات التي ستواجه ليبيا بعد الحرب أصعب بكثير من تحديات وقف الحرب. يسعى الكتاب إلى تحديد المعطيات العامة لتشكل الأزمة الليبية بتشعباتها السياسية والاجتماعية والإقليمية والدولية
الأزمة الليبية: انفلات الشرعيات ومأزق الدولة
يستخلص الباحث التونسي عبدالواحد اليحياوي أن الصراع في ليبيا معقد، وعلى الرغم من تعدد الشرعيات التي تستند إليها المجموعات المتناحرة مثل: الثورة، والسلاح، والدين، والجغرافيا، والقبيلة، فإن جوهر الصراع سياسي على السلطة والثروة. هذا الصراع يتم خارج مرجعية الدولة، وهو يجعلها مهددة بالانهيار؛ لأنه يستند إلى شرعيات منافسة لها، تعود أساساً -سوسيولوجيا وأنثروبولوجيا- إلى ما قبل الدولة. كما أن الإرث السياسي لدولة القذافي، والإسلام السياسي، مثلا أهم العوائق أمام تجربة الانتقال الديمقراطي. ومثل أغلب التجارب، كانت ممارسة الإسلام السياسي للسلطة مخيبة للآمال، وهو ما تأكد من مشاركة الإسلاميين في الحكم في ليبيا، بل والسيطرة على السلطة في تحالف مع قوى عسكرية مهيمنة على الميدان، وهو ما يؤكد وجوب قيام هذا التيار بمراجعات عميقة. يرى الباحث أيضا أن الإرهاب والتشدد الديني حاولا احتلال الحيز السياسي العام باستعمال العنف السياسي، ولكنه فشل بسبب عدم وجود امتداد مجتمعي له، وخاصة الغطاء القبلي، وأن الانقسام الليبي الداخلي تحول إلى جزء من الانقسام الإقليمي، وأصبح محكوما بسياسة المحاور التي ميزت -ولا تزال- السياسة الخارجية لدول الجوار، متحالفة مع قوى إقليمية ودولية. من جانبه، فإن التمدد العسكري لتنظيم الدولة داعش في ليبيا، أعاد القوى الدولية بقوة إلى ساحة الصراع في ليبيا بفرض مسار سياسي خارجي، والتهديد بالتدخل العسكري ونزع أي شرعية عن جميع القوى الداخلية خارج اتفاق الصخيرات، ومع أن حكومة السراج المدعومة دوليا تحقق بعض النجاحات، لكنها نجاحات محدودة وهشة نظرا لحدة الاستقطاب بين قوى الداخل والتدخل الأجنبي، ووجود تنظيمات متشددة أساساً في تنظيم داعش. الصراع داخل ليبيا يكشف بوضوح الوضع الإشكالي للدولة، من حيث عدم اكتمال تطورها التاريخي، وتحولها إلى مرجعية سياسية وقيمية للقوى المعبرة عن المجتمع الليبي. إن المسار السياسي والدستوري للانتقال الديمقراطي سيتطلب الكثير من الجهد والوقت، في ظل انفلات شرعيات منافسة بطبيعتها للدولة، وعلاقات تقليدية موروثة عن زمن ما قبل الدولة تتطلب تفكيكا سوسيولوجيا. وعلى الرغم من تعقيدات الأزمة الليبية، فإنها في النهاية تعبر عن حراك سياسي واجتماعي، يتميز بمنطقية تاريخية مستمدة من صعوبة المراحل الانتقالية.
ليبيا بين مشروعين: الإسلامي والوطني.. أين القبيلة؟
يؤكد الباحث والأكاديمي التونسي مهدي عبدالجواد أن مقومات نجاح ليبيا في الانتقال نحو دولة مدنية قائمة على المواطنة والديمقراطية، تبدو الأسهل في المنطقة. فعكس بقية دول الجوار، لا تعيش ليبيا في الحقيقة استقطاباً شديداً بين التيار الوطني “الليبرالي” والتيار الإسلامي. إذ لا يملك “الإسلاميون” أدنى مقومات النجاح في ليبيا، ولا يستطيعون الهيمنة على المجتمع الليبي، لأن الليبيين مسلمون أصلاء، ولا مكان لإغوائهم بمقولة “الإسلام في خطر” التي بنى عليها الإخوان ومشتقاتهم كل رؤيتهم، والتي تستوجب آليا مقولة “الإسلام هو الحل”، فالليبيون يعرفون جيدا -دون الحاجة للإسلام السياسي- أن الإسلام محميّ وأنه مكون أساسي في هويتهم، وأنه لا يتعارض مع حلمهم بالديمقراطية.
وثاني العلامات على توافر كل شروط نجاح المشروع الوطني الديمقراطي في ليبيا، هو أن المعرقل الرئيس له هو انتشار السلاح ولغة العنف، إذ إن بسط الدولة الليبية سلطتها على الأرض وتحجيم دور الميلشيات في مرحلة أولى، وجمع السلاح واحتكاره في مرحلة ثانية، سيكون المدخل لإطلاق مسار ديمقراطي فعلي سريع.
وثالث هذه العلامات، يكمن في قوة القبيلة الليبية، التي تُشكّل -في نظر الباحث- جدار الصد الرئيس ضد تيارات الإسلام السياسي، والعمود الفقري للمشروع الوطني الليبي، ولن يتسنى ذلك إلا بإطلاق مصالحة وطنية حقيقية، وضبط معالم نظام سياسي تشاركي، قائم على الديمقراطية المحلية، الأمر الذي يمنح البلدات والمدن والمحليات ومن ثمة القبائل، سلطة محلية في إدارة شؤونها، وفي صياغة برامجها التنموية الخصوصية. إن هذه الديمقراطية المحلية التشاركية، ستُعيد للقبيلة دورها ولكن داخل مشروع وطني، في ليبيا موحّدة وعصرية وديمقراطية.
ورابع هذه العلامات، عطش الليبيين إلى التجربة الديمقراطية. فشباب ليبيا ونساؤها، هما الأكثر حاجة للديمقراطية، والأكثر تحمّساً للمشاركة السياسية من نظرائهما في دول الجوار، لأنهما يطمحان إلى عملية تحدٍ وطني حضاري حقيقي. وهو ما لا يتحقق إلا بمشروع وطني وديمقراطي لليبيا.
خارطة الجماعات الإسلامية المسلحة في ليبيا
يرى الباحث التونسي شعبان العبيدي أن المقاربة الموضوعية للحركات الجهادية المتطرفة تشترط النّظر إليها من زوايا مختلفة بعيدة من المواقف الأيديولوجية. وذلك بوضعها ضمن سياقها الدّاخلي والإقليمي والعالمي. وتنزيلها -من جهة ثانية- ضمن مسار تاريخية تحوَلات المجتمع اللَيبي، لما لهذا المجتمع من خصوصيات ومعابر عقائدية تقليدية وقبلية، وسياسية مثلت مساعداً خلق تربة مناسبة لتمركز التَيارات الإرهابية، ساعدتها على التّنامي والتوطّن: الشّرط الدّاخلي والإقليمي والعالمي من جهة، وآثار تدخّل قوّات الحلف الأطلسيّ في إسقاط نظام القذّافي، وما خلّفه من فراغ سياسيّ في بلد يفتقد لمؤسّسات سياسية ومدنية مترسّخة في عقول المواطنين وقلوبهم. إضافة إلى ما جرّته الضّربات المكثّفة الغربية والرّوسية على معاقل “داعش” و”جبهة النّصرة” من تزايد الهجرة القسرية والمنظّمة من زعماء القاعدة و”داعش” إلى ليبيا. ويمكن أن تُردّ هذه السّياقات إلى: سياق تاريخيّ عقائديّ وسياق إقليميّ وسياق عالميّ.
السياق التاريخي العقدي
إنَ مرحلة بداية التّسعينيات الّتي حملت سقوط المعسكر الاشتراكي وأعلنت نهاية الحرب الرّوسية في أفغانستان، كانت التّربة الحاضنة لبروز الإسلام الرّاديكاليّ أو الحركات الإسلامية الإرهابية أو التعصب الديني. كما تجدر الإشارة إلى الإرث التاريخي العقديّ الذي خلق أرضية مناسبة لاستنبات الفكر الجهاديّ في ليبيا، وخصوصاً في مدن الشرق، زادت من كل ذلك البنية القبلية تمكنا ورسوخا، وتمثّلت في الحركة السنوسية الإصلاحية، ثمّ الفكرالإخواني القادم من مصر.
ويعتبر الفكر الإخواني الّذي انتشر في ليبيا، على الرغم من مواجهة السّلطة اللّيبية له في بداياته، منبتا عزّز تقبّل التأويلات الجديدة البدعية لآيات من القرآن انتزعت من سياقها النّصيّ انتزاعا، ووجدت لها تمكينا في النّفوس المشدودة إلى الماضي الذّهبيّ. وليس غريبا أن تكون الجماعات الجهادية الأولى الّتي اختارت سبيل المواجهة المسلّحة للسلطة، وتمثّلت في الرّعيل الأوّل للجماعة اللّيبية المقاتلة، قد تربّت على هذه الأفكار واتّخذتها العقيدة الصّحيحة للدّين الإسلاميّ.
السياق الإقليمي
ممّا لا شكّ فيه أنّ التقاء الكتابات الإخوانية مع تنظيرات رجالات الثّورة الإيرانية في بداية التّسعينيات، غذّت مفاهيم “الاستكبار” و”الاستضعاف” و”الجهاد” وزادت من تعميق الاتّجاه نحو الإسلامية الرّاديكالية المعادية للغرب وخصوصاً أمريكا. وكانت هذه الهجرة القوية إلى أفغانستان ترجمة لذلك. مثلما ساعدت ممارسات الكيان الصهيوني في فلسطين، سواء في الضّفة أوغزّة، على تقوية نزعة الرّاديكالية الإسلامية حين استطاعت الخطابات المشيخية والإسلاموية السياسية في البلاد العربية، وخصوصا في لبنان أوّلا مع رموز حركة أمل الشيعية، ثم مع الزعيم الرّوحيّ لحزب اللّه، تنشيط روح المقاومة والجهاد والتّضحية بالنّفس والتّفجيرات بالقنابل البشرية.
السياق العالمي
أدّى سقوط المعسكر الاشتراكيّ إلى تعاظم سيطرة الولايات المتّحدة الأمريكية التي فرضت نفسها شرطيا للعالم، وازداد العداء لأمريكا وللغرب بوقوف كليهما ضدّ القضايا العربية العادلة، واعتدائها العسكري على ليبيا وفرض حصار شامل عليها، إضافة إلى تحكّم الشّركات الكبرى العابرة للقارات في المقدّرات النفطية والغازية لليبيا. كما تداخلت القضايا العقائدية بالمصالح الاقتصادية والإقليمية، فنمّت لدى الشّباب المفرغ من تعليم عميق ومهيكل، والمشبع بشعارات التّحدّي لأمريكا والغرب، والّذي يشعر في المناطق الشرقية بضرب من الحيف الاجتماعي والسّياسي.
ليبيا: الملاذ البديل للجهاديين
يوفر الصراع المسلح اليوم في ليبيا بين الميلشيات، فضلاً عن غياب سلطة مركزية قوية، كل شروط “الملاذ البديل” للجهاديين عموماً، ولأنصار تنظيم داعش والمبايعين له في منطقة المغرب العربي وأفريقيا جنوب الصحراء الكبرى خصوصاً.
تزداد أهمية “الملاذ الليبي” الجديد لـ”داعش”، والجماعات الجهادية الأخرى، أمام سيناريو تشظي تنظيم داعش في معاقله المشرقية، وإمكان خروج المقاتلين الأجانب من سوريا والعراق للبحث عن حواضن جديدة.
يشخص الباحث التونسي في الحركات الإسلامية هادي يحمد في دراسته الانتشار الميداني للتنظيمات الجهادية ومعسكرات التدريب والتجنيد في ليبيا، وتتبع مسار النشأة والتحول لهذه التنظيمات التي مكنت الفرع الليبي لـ”داعش” في أواسط سنة 2015 من السيطرة على عديد من المناطق وعلى مدينة سرت، كأول مدينة ترفع فوقها راية العقاب ضمن ما يسمى “ولاية طرابلس”.
تتوافر في ليبيا كل ظروف الملاذ البديل لكل التنظيمات الجهادية وفي مقدمتها “داعش” المهدد بالتشظي في سوريا والعراق نتيجة العمليات العسكرية ضد التنظيم هناك. ولئن بايعت عديد من التنظيمات الجهادية في القوقاز وأفغانستان وسيناء وأفريقيا جنوب الصحراء واليمن دولة البغدادي، فإن الفرع الليبي لـ”داعش” وللظروف والخاصيات التي ذكرناها آنفاً، يمكن أن يشكل في المستقبل ملاذاً جديداً.
النفط الليبي وداعش.. أية علاقة؟
يوضح الباحث والأكاديمي التونسي أعلية علاني أن مسألة تقسيم الثروة النفطية محل جدل بين مختلف التيارات السياسية؛ وقد تمّ إدراج تفاهمات جديدة في الإعلان الدستوري مطلع 2016 تجعل من بنغازي عاصمة النفط، ومن طرابلس العاصمة السياسية. وعلى الرغم من ذلك لم يهدأ الجدل حول توزيع الثروة. فكانت بعض التيارات السياسية والدينية –مثلاً- تسعى إلى وضْع عقبات أمام عناصر النظام القديم لإبعادهم عن أي دور يمكن أن يلعبوه في إدارة ثروة البلاد بسنّ قانون العزل السياسي. ويرى علاني أنّ انخفاض إنتاج النفط في ليبيا لا يعود فقط إلى هجومات “داعش”؛ بل أيضاً إلى عناصر أخرى ذات أبعاد مناطقية وقبلية، أو أبعاد اجتماعية تنموية.
منذ استقرار التنظيم في ليبيا في يناير (كانون الثاني) 2014 في مدينة سرت كان الهدف واضحاً، وهو الاقتراب من حقول النفط، وخصوصاً أنّ منطقة الهلال النفطي لا تبعد كثيراً عن مدينة سرت. وبدأت حملات الكرّ والفر التي نفذتها قوات “داعش” وانتهت في بعض الأحيان بحرق عديد من الخزانات وإتلاف ملايين البراميل من النفط.
وتبقى بارقة الأمل الوحيدة في توجه الليبيين حول حكومة واحدة، وخارطة طريق واحدة تعيد الأمن والنهضة الاقتصادية في بلد الستة ملايين ونصف المليون ساكن، والذي كان من المفروض أن يكون مستوى الدخل الفردي فيه بآلاف الدولارات. لكنه الآن مجبر على دفع فاتورة تدخّل القوى الخارجية، إذا لم يتم الإسراع بإخراج “داعش” من المناطق المحيطة بالنفط ومن كل ليبيا. ويأمل الليبيون أن لا يتم إخراج “داعش” فحسب، بل وكذلك كل التيارات الإرهابية الأخرى، من القاعدة وأنصار الشريعة ومن بقي يتعاون معهم.
إن ليبيا مقبلة على تغييرات جوهرية في مستوى المشهد السياسي والمشهد التنموي؛ وربما تصبح قطبا اقتصاديا قويا يحاكي بعض دول الخليج في نموه الاقتصادي. ويعتقد كثير من المحللين أن الرفاه الاجتماعي والاقتصادي سيسهم بقسط كبير في تقلص الظاهرة الإرهابية، بشرط أن تتخلص ليبيا ولو تدريجيا من تيارات الإسلام الوافد من إخوان وسلفية جهادية. وتعود للإسلام المحلي مكانته، وللخطاب الديني اعتداله ووسطيته، ويتم إقرار خارطة طريق لعودة الأمن وتجريد الميلشيات من السلاح، وبناء مؤسسات اقتصادية صلبة وشفافة، وتخصيص مداخيل النفط للتنمية والتعليم، لا لشراء السلاح للتقاتل بين الفرقاء الليبيين.
الزحف الجهادي الليبي إلى مصر
يتناول الباحث المصري المتخصص في الحركات الإسلامية ماهر فرغلي مخاطر الميلشيات الجهادية في ليبيا على مصر حاليًا، معتبراً أن هذا الخطر أكبر من خطر “داعش” العراق والقاعدة بسوريا، فالحدود المصرية- الليبية عبارة عن شريط بطول (1049) كيلو مترًا، الأمر الذي يجعل كل تلك المساحة الشاسعة مهددة بعمليات اختراق وتهريب السلاح، الذي يصل حتماً إلى سيناء، فضلاً عن توفير ملاذ آمن للعناصر الإرهابية.
إن وجود هذه التنظيمات المسلحة في الدولة الليبية، وعلى حدود مصر الغربية، أقرب إلى وجودها في أحد أحياء القاهرة، وهذا على سبيل المثال، بسبب خطورتها التامة، وحصولها على دعم لوجستي متواصل، وقربها من حدود مصر، وسهولة انتقالها، وحرية حركتها، والمساحة الجغرافية الهائلة والشاسعة التي تتحكم فيها، ووجود موارد سواء مادية أو بترولية تحت تصرفها.
لا تغيب مصر عن عقل “داعش” مطلقاً، ففي عدد مجلة التنظيم “دابق” التي تصدر باللغة الإنجليزية، كشف التنظيم عن ممثله في ليبيا، الملقب بـ”أبي المغيرة القحطاني”، ووصفوه بـ”والي الدولة الإسلامية في ليبيا”، والغريب أنه في حوار أجرته معه المجلة، تحدث عن مصر، مهدداً بأنه سيحررها من الكفرة والمرتدين.
خطورة ما قاله القحطاني، أنه أبرز مدى الخطورة التي تواجه مصر من حدودها الغربية، وهذا ما اتضح في حادث السياح المكسيكيين، وكيف أن أربع عربات دفع رباعي كانت محملة بأعضاء التنظيم، متجهة للداخل المصري، لولا تصدي الشرطة لها، وهو ما تسبب في الحادث.
كان التهديد الأكبر لمصر متمثلاً في غياب المعلومات التامة والمتكاملة عن العناصر المصرية الموجودة في مثل هذه الإمارات التي تتبع القاعدة، أو تنظيم داعش، أو جماعة الإخوان، والتي اهتمت بكامل تشكيلاتها بتدريب العناصر المصرية، من أجل استخدامها في حرب جبهات مفتوحة، أو حرب عصابات فيما بعد ضد الجيش المصري، وهذا منذ ثورة 25 يناير، حينما أوفد أيمن الظواهري، عبدالباسط عزوز، لإنشاء أول معسكر تابع لتنظيمه بجوار بنغازي.
وتعد منطقة الصحراء الليبية الجنوبية، وأهم مدنها الكفرة في الجنوب الشرقي وسبها وغات في الجنوب الغربي، من أخطر المناطق التي تسيطر عليها مجموعات قبلية مسلحة صغيرة، والجماعات المسلحة العابرة للحدود مثل تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، وجماعة “الموقعون بالدم”، وأعلنت أخيراً جماعة ليبية مجهولة تسمى «مجاهدي ليبيا» مبايعة أبي بكر البغدادي زعيم تنظيم “داعش” وانضمامها إلى ما يسمى بـ”دولة الخلافة”.
بعد كل الميلشيات والمعسكرات المنتشرة في الشرق والجنوب الليبي، أصبحت ليبيا تمثل “المورد البشري”، و”المالي”، و”اللوجستي” للتنظيمات المسلحة بمصر، بل وأضحت البوابة الخلفية لهروب العناصر الخطرة، ومركزاً للقيادة الثانية والبديلة لهذه التنظيمات.
إن تنظيم “داعش” مصر، ينقسم إلى ثلاثة محاور، المركز والوسط والهوامش، والغرابلي كان يقود العمود الفقري للتنظيم بالقاهرة وما يحيط بها، وهذا المحور هو أخطر المحاور، وهو أخطر من محور سيناء وما يجري فيها، وكانت ليبيا محطة كبيرة ينتقل إليها، ويتلقى منها دعماً لوجستياً كبيراً.
يشير الوضع الحالي في ليبيا إلى قلق يواجه مصر، لأنه جعل من الأراضي الليبية بؤرة ممتدة أمام التنظيمات الجهادية الإسلامية في المغرب العربي وجنوب الصحراء، خاصة في ظل انتشار أعمال الإرهاب، وفي ظل تحول ليبيا إلى محطة تجميع وانطلاق نشطة أمام عصابات الهجرة غير الشرعية، بسبب غياب تام لسلطة الدولة، مما يدلل على أن العنف والإرهاب في مصر مرتبطان بشكل مباشر بما يحدث في ليبيا
مخاوف انتقال الإرهاب من ليبيا إلى أوروبا
تشير الباحثة التونسية بدرة قعلول إلى أنه خلال السنوات الأخيرة بعد انتشار موجة ما يسمى بالربيع العربي، وانهيار المنظومات الأمنية في عديد البلدان العربية، تمكنت الجماعات الإرهابية من استغلال هذا العامل حتى تنشط حركة تنقل عناصرها عبر مختلف بلدان العالم، خصوصاً في ظل وجود أجندات دولية وإقليمية سهلت هذا التنقل والانتشار، ولعبت على مصطلح الإرهاب والعنصر الإرهابي لتدعم تموقعها وتخدم من خلاله مصالحها، وربما تحل أزماتها الاقتصادية والمالية، ولعل في مثال الحالة العراقية والسورية والليبية واليمنية أقوى دليل على ذلك، مما نتج عنه عامل تعدد الجنسيات المنتمية للتنظيمات الإرهابية، والتحاق كل جنسيات العالم –تقريباً- وتمركزها بأعداد مرتفعة في عدد من دول العالم، وخصوصاً منها الأوروبية، وبالنسبة لهذه الأخيرة فإن العناصر الإرهابية في أغلبيتها من الجالية العربية التي تمتعت بالحق في الجنسية من الجيل الثاني إلى الثالث، ربما في اللحظات الأولى رأت الأنظمة القوية من حيث تماسك وتطور منظومتها الأمنية، خصوصاً الأوروبية والغربية، أن أنظمتها محصنة من انتقال الإرهاب إليها، ومن المستحيل أن تعيش التهديد نفسه، فكانت تقديراتها تشير إلى أن بضاعة الإرهاب متنامية عندها، ولكن سوف ترجع إلى البلدان العربية وبلدان العالم الثالث؛ لأنها محصنة أمنياً، لكن كل هذه التقديرات اليوم أصبحت محل مراجعة.
ترى قلعول أن مسرح الأحداث القادم في العالم، سيكون البحر الأبيض المتوسط. وتسارع الأحداث بين ضفته الشمالية وضفته الجنوبية، وربما ستستغل الجماعات الإرهابية في ليبيا حالة الضعف التي تمر بها المنطقة ككل، لتنفذ أجندات خاصة بها، أو أجندات أخرى لا نراها إلى الآن، ربما لأن مطبخها الجيواستراتيجي والجيوسياسي لا يريد الإفصاح عن كل نواياه إلا في السنوات القادمة، فالمشهد الآن في العالم، وخصوصاً في شمال أفريقيا، والضفاف الشمالية للمتوسط، منفتح على كل الاحتمالات، والمخططات كلها مطروحة على الطاولة.
آفاق التدخل الأجنبي والتسوية السياسية في ليبيا
يعتبر الباحث والصحفي التونسي أحمد نظيف أن الوضع الليبي لا يزال مُتحركاً، منذ سقوط نظام العقيد معمر القذافي، خريف 2011، وحتى اليوم، الحرب المتقطعة في الميدان والصراع السياسي في الكواليس بين حكومات شتى، تتنازع الشرعية والسلطة، لا تزال قائمة، الأمر الذي يجعل عملية التوقع بما يمكن أن تؤول إليه الأوضاع أمراً صعباً. كل الظروف الموضوعية والذاتية مُهيأة لقيام حرب في البلاد، وبالقدر نفسه مواتية لإحلال السلم والتوجه نحو إعادة بناء الدولة بعد خراب مديد. يقف البلد اليوم في منتصف الطريق الرابطة بين الحرب والسلم، ومستقبله مفتوح على كثير من السُبل.
اليوم وبعد خمس سنوات من الفوضى وتعاقب الحكومات، يلوح ضوء في آخر النفق. بدأ الجيش الليبي يُعيد بناء قواته شرق البلاد، ويحرز تقدماً كبيراً في مواجهة الجماعات الإرهابية. ولكن الأمور غرباً لا تسير في الاتجاه الصحيح. الجماعات الدينية المسلحة ذاتها ما زالت تسيطر ميدانياً على العاصمة وأغلب المدن الغربية، بالرغم من الوجود السياسي والإداري للمجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني، المنبثقة من الحوار الوطني الليبي، أواخر العام الماضي، في مدينة الصخيرات المغربية.
تحاول الدراسة الإجابة عن تساؤلات: كيف تؤثر الانقسامات الاجتماعية والتركيبة القبلية في ليبيا على حظوظ نجاح أي تسوية سياسية بين الفرقاء في البلاد؟ وكيف أسهم سقوط الدولة وتمكّن الجماعات الدينية من مؤسساتها في تمدّد الجماعات الإرهابية في البلاد؟ وما سيناريوهات أي تدخل عسكري خارجي محتمل؟
كانت الخمس سنوات (2011-2016) كافية لتحول ليبيا إلى ساحة كبيرة للفوضى والسلاح، وقاعدة للجماعات الإرهابية بمختلف توجهاتها. وكانت كافية أيضاً لشق المجتمع الليبي المنسجم قبلياً وطائفياً وعرقياً، وزرع النزعات الإقصائية داخله. لكن وعلى الرغم من قتامة المشهد، فإن أملاً ما زال يحدو الليبيين لتجاوز الأزمة. فعديد من القوى الفاعلة ما زلت تؤمن بضرورة إعادة بناء الدولة، وتسعى لإنقاذ البلاد من أن تتحول إلى دولة “فاشلة”.
هل يؤخر التدخل العسكري الحل؟
يلاحظ الباحث التونسي أحمد بلسود أنه على الرغم من بوادر “الدمقرطة”، التي مثلت انتخابات المؤتمر الوطني العام في يوليو (تموز) 2012، وانتخابات مجلس النواب في يوليو (تموز) 2014، مقدمة لها، فإن الحكومات المتعاقبة، بعد الثورة، لم تنجح في تحقيق أبسط أسس مقومات إنجاح مسار الانتقال الديمقراطي، واستعادة مقومات الدولة، من احتكار للقوة، وفرض الأمن، وإنفاذ القانون، والحد الأدنى من التوافق السياسي والاجتماعي، مما أدى إلى حالة فراغ أمني، وفوضى سياسية، وانتشار للسلاح استغلته التشكيلات المسلحة والجماعات الجهادية، لابتزاز السلطات ولتكوين مناطق نفوذ محلية، أهمها ما يعرف بـ”تنظيم الدولة” أو “داعش”، الذي بات يسيطر على مدينة سرت ونحو (290) كلم من السواحل الليبية، ويطمح للتوسع إلى مناطق أخرى من البلاد، في تهديد واضح لاستقرار المنطقة بأكملها.
منذ دخول حكومة الوفاق الوطني، بقيادة رئيس الوزراء المكلف فائز السراج طرابلس، في آخر شهر مارس (آذار) 2016، والليبيون يحبسون أنفاسهم في انتظار ما ستؤول إليه الأمور في بلدهم، الذي انشطر على نفسه بفعل حدة الانقسامات والتجاذبات بين مكونات نسيجه الاجتماعي والسياسي وعسكرة الخلافات، وغياب الحد الأدنى من التوافق الاجتماعي- السياسي، مما جعل ليبيا فريسة للتيارات الجهادية والصراعات الإقليمية والدولية.
لا يستبعد أن يكون الخلاف بين الليبيين اليوم، حول مآل العملية السياسية يعكس في جوهره اختلافاً بين القوى الإقليمية والدولية إزاء الحلول المطروحة في ليبيا، وتحديد سلّم الأولويات بين محاربة التنظيمات الجهادية ومقاومة الهجرة غير الشرعية، واستقرار السلطة في ليبيا، وإعادة إعمار البلاد. فالأطراف الداخلية والخارجية، وإن كانت تجتمع حول ضرورة توحيد السلطة في ليبيا بصفتها أساسا لتركيز الشرعية، إلا أنها لا تتفق على برنامج عمل الحكومة وعلاقاتها المستقبلية مع المكونات السياسية- العسكرية، والأكيد أن كل طرف يحاول اليوم جاهدا أن تخدم حكومة الوفاق أجندته الذاتية، وأن يقلص من فرص إقصائه من المشهد السياسي. وهو ما يفسر الصعوبات التي تواجهها هذه الحكومة في بسط نفوذها.
ليبيا بين التداول والتدويل
يلاحظ الباحث التونسي كمال بن يونس أن غالبية ساسة ليبيا في الحكم وفي المعارضة منذ اندلاع ” شرارة الثورة الجديدة ” انخرطت في لعبة المحاور الإقليمية والدولية، واستبدلوا الحوار “داخل الخيمة الليبية” ومشاورات “الحكماء الأعيان” في خيمة القذافي، بمسلسل من “المفاوضات” في “خيمة مجلس الأمن الدولي”.
ويتضح أن الإرث الاجتماعي السياسي الثقيل والتعقيدات الداخلية والأطماع الإقليمية والدولية في خيرات ليبيا جعلت الليبيين يفشلون في تحقيق الانتقال السلمي للسلطة من نظام “ثورة الفاتح من سبتمبر” بزعامة القذافي إلى نظام “الثورة الجديدة”. وكانت النتيجة استفحال تدويل الملف الليبي الذي بدأ قبل “ثورة فبراير” بعقود في سياق صراعات نفوذ ومصالح بين أبرز العواصم الإقليمية والدولية مع نظام معمر القذافي، ومع سياساته الثورية الوحدوية القومية، أسوة بالزعيم المصري العروبي الراحل جمال عبدالناصر.
فشلت مشاريع القذافي الوحدوية، وفشلت معاركه مع العواصم الإقليمية والدولية، وكانت الحصيلة إسقاطه من قبل معارضات اعتمدت على فسيفساء قبلية وسياسية من جهة، وعلى قوى دولية غربية وعربية من جهة ثانية. وفشل القذافي خلال العقود الثلاثة الأولى من حكمه في تحدي النظام الإقليمي والدولي القديم، واضطر إلى “المصالحة معه” بثمن غال. وكان الثمن مالياً وأخلاقياً في الأعوام الأخيرة من حكمه، ثم سياسياً وطنياً بعد الإطاحة به. وبعد تعثر مسار الانتقال السياسي الديمقراطي السلمي في بلدان “الربيع العربي” استفحل العنف السياسي والإجرام المنظم في ليبيا، التي تفكك مجتمعها وتشظت طبقتها السياسية بشكل غير مسبوق.
فقد شعب ليبيا ثقته في غالبية النخب السياسية والحزبية التي غلبت صراعات المصالح والنزاعات وتقاسم تركة نظام القذافي على الوفاء بتعهداتها الديمقراطية والتنموية. لكن تدويل الحوار أفقد الليبيين –تدريجياً- فرصة التحكم في مستقبل وطنهم ووحدته، وفتح أبواباً جديدة للقوى الدولية كي ترسم -لوحدها تقريباً- خريطة البلد القادمة اقتصادياً وسياسياً وجغرافياً.
التحول الديمقراطي في ليبيا وفرص إدارة الصراع المصالحة
تقتضي الديمقراطية، الواجب ترسيخها في ليبيا لإدارة الصراع بين مختلف الفرقاء، ضرورة الاحتكام باستمرار، وقدر الإمكان، للإرادة الشعبية من خلال التكثيف من المناصب الخاضعة للانتخاب، وذلك أسوة بالديمقراطية الأمريكية، وعملاً بمبدأ “ضرورة إدارة الناس لشؤونهم بأنفسهم”. فكلما ازداد عدد المناصب الخاضعة للانتخاب ازدادت الثقافة الديمقراطية ترسخاً في المجتمع، واعتاد الناس على التداول السلمي، وعلى الاحتكام للصندوق، وعلى إقصاء منطق الغنيمة الذي يميز الحياة السياسية في كثير من المجتمعات العربية ذات الأصول البدوية.
يعتقد الباحث التونسي ماجد البرهومي أنه، على الرغم من أوجه الشبه المتعددة بين الحالة الليبية، وما تعيشه كل من أفغانستان والصومال من فوضى وتفكك للدولة، وعدم قدرة السلطة المركزية في كل من كابول ومقديشو على بسط نفوذهما على كامل الإقليم الأفغاني والصومالي، فإنه يمكن الجزم بأن ليبيا ليست أفغانستان ولا الصومال مثلما يروج لذلك البعض، ولديها عديد المميزات والخصائص التي تجعل عديد الخبراء الاستراتيجيين يؤكدون قدرة البلد على الخروج من المأزق الذي يعيشه، والانطلاق مجدداً من تحت الرماد كطائر الفينيق.
تبدو الديمقراطية ضرورية في ليبيا لإدارة الصراع بين القوى المتصارعة حقناً للدماء، وحفاظاً على ما بقي من بنى تحتية لم تطلها أيادي التخريب، وفرص نجاحها كبيرة، وهناك عديد العوامل التي تدعم نجاحها. لكن أيضا هناك عديد المعوقات التي تجعل ترسيخها أمرا صعب المنال في الوقت الراهن، ويتطلب سنوات وربما عقوداً من الزمان.
إن التحديات التي تواجه التحول الديمقراطي في ليبيا الجديدة عديدة، وتبعث على الحيرة والخشية على حاضر ومستقبل هذا البلد المترامي والغني، الذي يثير الأطماع إقليميا ودوليا. وما لم يتم إيجاد الآليات التي تساعد على تذليل العقبات وفي أسرع الآجال، فإن كارثة ستحل ببلد عمر المختار، مع تنامي خطر الجماعات الإرهابية التي تتوسع رقعة انتشارها، ومع تزايد الراغبين في نيل نصيب مما يرقد في باطن الأرض الليبية من ثروات.
ليبيا.. الواقع والتحديات وسيناريوهات المستقبل
يتطرق الباحث التونسي منذر بالضيافي في هذه الورقة، إلى ثلاثة عناصر أساسية، في مقاربة المشهد الليبي الراهن وآفاق تطوره في المستقبل القريب، فكل السيناريوهات (التي هي نماذج مثالية) لا يمكن لها أن تتجاوز أفق السنة في وضع داخلي وإقليمي، وأيضاً دولي متحرك بسرعة، يستحيل معها وضع سيناريوهات على المدى المتوسط أو البعيد، على أن ما يجب الإشارة إليه في خصوص مستقبل ليبيا، أن العامل الخارجي محدد أكثر من الداخلي:
- رصد الواقع/ الوضع الليبي “الآن وهنا”، كما هو ماثل أمامنا على الأرض، ومختلف الفاعلين فيه من تنظيمات سياسية وميلشيات مسلحة وقبائل وجماعات “جهادية” ولعل أبرزها تنظيم “داعش”.
- التحديات المتعددة والمركبة، التي تواجه إنهاء المرحلة الانتقالية، التي استمرت أكثر من اللزوم، دون بروز مؤشرات على أنها ستنتهي قريباً.
- استشراف المستقبل، عبر تصور السيناريوهات الممكنة، التي يمكن أن تتجه نحوها الأوضاع في ليبيا.
يتوقع الباحث أن استعادة حيوية الشارع، في المشهد الليبي، غير متوقعة، مثل ما هو حاصل ومتوقع في تونس ومصر، اللتين يمكن المجازفة بالقول: إن الشارع فيهما أصبح منهكاً، وبالتالي من الصعوبة بمكان إعادة تحريكه، كما حصل في ثورة يناير (كانون الثاني) 2011.