يتناول الدكتور محمد الحداد في مقالته التي ينشرها “مركز المسبار”، تطورات الأوضاع في مدينة الحديدة اليمنية ونواحيها، وأثر ذلك على المسارين العسكري والسياسي في اليمن، وما الممكن أن تحققه من نتائج تصب في صالح تحالف دعم الشرعية، في معركته التي يشنها ضد المليشيات الحوثية، التي تريد فرض سيطرتها على المدينة الاستراتيجية، ومينائها، كي تستمر في المحافظة على ما يصلها من إمدادات مالية وعسكرية ولوجستية. إلا أن إصرار التحالف على تحرير الحديدة، من شأنه أن يغير كثيرا في قواعد الاشتباك، ويدفع الحوثيين إلى التراجع.
خبران سيكون لهما وقع شديد على رعاة الإرهاب في المنطقة العربية: تحرير مدينة “درنة” الليبية من قبضة تنظيم القاعدة على يد الجيش الوطني الليبي، وتحرير ميناء “الحديدة” اليمني من قبضة الحوثيين على يد قوات الجيش اليمني، وبدعم التحالف العربي بقيادة المملكة العربية السعودية.
ما يلفت الانتباه في الحدثين، وقد تزامنا تقريبا، أنهما أجّجا ردود فعل متشنّجة من رعاة الإرهاب. فلما كان هؤلاء عاجزين عن الدفاع مباشرة على القوى الإرهابية في ليبيا واليمن، فقد توسّلوا طريقة إثارة المشاعر والأحاسيس، ناصبين أنفسهم مدافعين عن المدنيّين محذرين مما سيلحق بهم من معاناة بسبب التدخل لتحرير مدنهم، وذلك بدل الترحيب ببلوغ مراحل متقدمة من التخلص من الإرهاب في البلدين اللذين شهدا أكبر دمار في إطار ما دعي بالربيع العربي.
هكذا تفطّن الذين ما زالوا إلى اليوم يمجّدون “الربيع العربي” الذي أودى بحياة أكثر من ربع مليون مواطن وشرّد حوالي عشرة ملايين منهم، تفطنوا اليوم فقط إلى أنّ الحروب الداخلية تؤدّي إلى المآسي، وأنّ المدنيين الأبرياء هم الذين يدفعون الثمن الأكبر. وقبل ذلك، كان الإرهاب بشكليه الداعشي والحوثي يطبق طوقه على الشعبين العربيين ويقتل النساء والأطفال والشيوخ، فيما هؤلاء ينفخون في استعارة “الربيع العربي” لتكون وسيلة للتغطية على الجرائم وتجميل القتل والنهب. أما عندما يسعى أهل الوطن إلى استرجاع أوطانهم، معرّضين أنفسهم للاستشهاد فداء للوطن والكرامة، فآنذاك، وآنذاك فقط، تتحرك المشاعر “الإنسانية” والضمائر الرقيقة للبعض فينتصبون محذرين من الكوارث البشرية ومعاناة المدنيين، وكأن هؤلاء كانوا يعيشون في النعيم حتى جاءت لحظة التحرير.
يعلم العقلاء أن الحقيقة غير ذلك، وأنّ التاريخ يثبت أن الحرب إذا بدأت فلا بدّ أن تنتج الكوارث، وأن أفضل طريقة للتخفيف من المعاناة هي كسبها بأسرع وقت ممكن وحسم المعركة دون تطويل، وليس تركها مفتوحة إلى ما لا نهاية، وأنّ الطريقة الوحيدة لإجبار الخصم العنيد على قبول التفاوض والسلام هي إضعاف شوكته وتدمير قوته، وليس منحه متنفسا لاسترجاع القوة باستغلال العمل الإغاثي والإنساني.
ولئن كان تحرير “درنة” خطوة تنتظرها خطوات أخرى كثيرة، فإنّ تحرير “الحديدة” هي الخطوة النهائية والحاسمة، ولذلك استأثرت من العالم كله بالاهتمام الأكبر. وأما كونها حاسمة، فذلك ما تشهد له المعطيات التالية:
أولا: قرار المعركة، بما كان يحتويه من مخاطرة، اتخذ باستقلالية تامة من قيادة التحالف العربي، ودون ضمانات أمريكية أو غيرها، بما يؤكّد قدرة التحالف على تدبير الأمر بنفسه والاعتماد على قواه الذاتية. وقد حسمت المعركة بسرعة، ولم تتحقّق تحذيرات المشككين الذين كانوا يعدون بمعارك ضارية تستغرق عدّة أشهر وتتسبب في أكبر الكوارث الإنسانية. ويبدو أنّ الإدارة الأمريكية ذاتها قد تأثرت ببعض هذه التحذيرات، فسعت إلى النأي بنفسها عن المساندة الصريحة للمعركة. لكنّ النجاح الذي حققه التحالف العربي سيعزّز رصيده في المستقبل، ويثبت أنّه الأكثر معرفة بالوقائع الميدانية وبالوضع الحقيقي للحوثيين، الذين يتجاوز حضورهم الإعلامي قدراتهم الحقيقية على القتال.
ثانيا: على عكس تحذيرات المشكّكين، لم تسفر المعركة عن كوارث إنسانية أكبر مما يعيشه اليمنيون منذ سنوات. فالخطة العسكرية المحكمة التي ضمنت الحسم السريع، لم تؤدّ إلى أكثر مما تتميز به كل الحروب، من مآس تقع مسؤوليتها على المعتدي وليس على من يدافع عن البلد والشرعية. هل نحتاج إلى التذكير بأن الحوثيين دخلاء على “الحديدة” وأنهم احتلوها سنة 2014، ضاربين عرض الحائط بنتائج الحوار الوطني واتفاق السلم والشراكة الوطنية، الذي وقعوه قبل فترة قصيرة من اكتساحهم المدينة؟
ثالثا: لم يخف الحوثيون منذ سيطرتهم على ميناء “الحديدة” الاستراتيجي الواقع على البحر الأحمر في غرب اليمن، أن غايتهم النهائية هي التوسع على الشريط الساحلي حتى بلوغ باب المندب، والتحكم في مدخل البحر الأحمر وخليج عدن. وكانت وكالة الأنباء الفرنسية قد نقلت سنة 2014 مقابلة صحفية مع أحد زعماء ميليشيا “أنصار الله”، يعلن ذلك بكلّ تبجّح بعد دخول المدينة والسيطرة عليها، مما أثار –آنذاك- المخاوف في العالم كله من سيطرة المتطرفين على أحد أهم شرايين الملاحة الدولية. وعلى هذا الأساس، فإن المجتمع الدولي قد تنفس الصعداء اليوم وهو يرى أن التحالف العربي قد قطع الطريق نهائيا على هذه الخطة الخبيثة، التي لم تكن تهدّد أمن الخليج فحسب، بل كانت سيفا مسلطا منذ سنوات على الملاحة الدولية برمتها، وعلى الاقتصاد العالمي الذي يعيش هشاشة كبرى، ويسعى جاهدا إلى استعادة النموّ والحيوية، وهو مهدّد بالتراجع إذا ما تأكد تهديد الإمدادات النفطية والمبادلات التجارية في باب المندب.
رابعا: تنزّل دعم إيران للحوثيين في إطار استراتيجية الحروب بالوكالة التي يخوضها نظام الملالي في كل المنطقة ضدّ خصومه، وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية. فإذا أخذنا بعين الاعتبار الموقف الحالي للإدارة الأمريكية من إيران، والسعي القوي للرئيس دونالد ترامب لعزلها ومحاصرتها سياسيا واقتصاديا، أدركنا كم سيعاني الشعب اليمني من حرب بالوكالة تخاض على أرضه لاكتساب أوراق مساومة لإيران في صراعها المحموم ضدّ أمريكا. فالسيطرة على الشريط الساحلي ورقة ثمينة في هذا الصراع لو كسبها الإيرانيون، لكنّ ثمنها سيكون باهظا على الشعب اليمني، باعتبار أنّ ترامب باق في الحكم لسنوات قادمة وربما يحصل على عهدة جديدة، ولن تتغيّر سياسة أمريكا تجاه إيران طالما ظلّ في الرئاسة.
خامسا: إنّ التدخل الحاسم للتحالف الدولي في معركة “الحديدة” يمثل موقفا مبدئيا ينسجم مع منطق الأحداث منذ بداياتها. ذلك أنّ مجلس التعاون الخليجي هو الذي كان رعى محادثات السلام اليمنية سنة 2011 بغية توفير مخرج سلمي للأزمة يقوم على مغادرة علي عبدالله صالح الحكم مقابل التعهد بعدم محاكمته. فمن باب أولى أن يمنع من السيطرة على البلد من هو أشدّ ضررا منه على اليمن. وإن محاولات تصوير ميناء “الحديدة” معبرا وحيدا للإغاثة الإنسانية قد يقنع مواطنا يعيش في الألسكا، لكن لا يمكن أن يقنع العارفين بالمنطقة الذين يدركون أنّ الجزء الأكبر من الإعانات الإنسانية لليمنيين يأتي من بلدان الخليج وعبر معابر عديدة ليست “الحديدة” إلاّ واحدة منها. فلا معنى للتركيز على هذا الميناء والتغاضي عن استعماله لتمرير الأسلحة والمؤونة للمقاتلين الحوثيين.
وأخيرا، فإن ثمة عاملا لا بدّ من أخذه بعين الاعتبار، وهو أن حرب اليمن تمثل فرصة ابتزاز، سياسي ومالي وأمني، لبلدان الخليج، وأن من الحكمة حسم المعركة بعمليات قوية من صنف ما حصل مؤخرا في “الحديدة”، حتى وإن كانت بعض الأطراف ترغب في مواصلة الابتزاز بتطويل الحرب، رافعة شعارات إنسانية تطلق في غير موضعها، وتعطي الفرصة للحوثيين للاستفادة وربح الوقت.
والخلاصة أن معركة “الحديدة” لم تحقّق نتائج استراتيجية مهمة فحسب، بل هي تمثل نهاية مرحلة اتسمت بالتمدد الحوثي في اليمن، وستكون لها تأثيرات تتجاوز هذا البلد، بشرط حسن التعامل مع نتائج الحدث، وتوظيفه لصالح اليمنيين الذين حان الوقت لتخليصهم من الجحيم الذي عاشوه منذ سنوات، وفرْض مخرج سلمي للأزمة اليمنية يستفيد من تحوّل موازين القوى بشكل حاسم لصالح الشرعية، وانحسار إمكانات الدعم الإيراني للجماعات الحوثية المقاتلة، واضطرار هؤلاء عاجلا أو آجلا لقبول التنازلات كنتيجة حتمية لهزائمهم العسكرية المذلة.