الدكتور القس أندريه زكي*
التقى العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز، أثناء زيارته لمصر، والبابا تواضروس الثاني، بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية، في لقاء وصفه المتابعون للحدث باللقاء التاريخي. وللمملكة العربية السعودية لقاء تاريخي سابق عام 2007، بين الملك السعودي الراحل عبدالله بن عبدالعزيز وبابا الكنيسة الكاثوليكية، البابا بنديكتوس السادس عشر، وهذا التوجه الذي ليس بجديد على المملكة العربية السعودية، يبدو منه بوضوح النوايا السعودية في بناء الجسور مع الآخر. ويعبر بالضرورة عن الموقف الجديد الذي تأخذه السعودية.
يعد هذا اللقاء هو الأول على الإطلاق بين عاهل سعودي وخادم للحرمين الشريفين، ببابا للكنيسة القبطية الأرثوذكسية، ولذا فهذا اللقاء يمثل علامة فارقة في علاقة المملكة العربية السعودية، والكنيسة القبطية. وقد كان هذا اللقاء بمثابة رد مهم على من يحاولون الدفع بتوتر العلاقة بين المملكة العربية السعودية وغيرها من الأديان.
وقد لقي لقاء العاهل السعودي والبابا ردود أفعال مهمة، إذ أعرب الكثيرون، ومنهم الباحث والكاتب الصحفي سليمان شفيق، عن أن هذا اللقاء تاريخي، إذ يعد أول مواجهة للتيار المتطرف في مصر، والذي دأب مشايخه في فتاواهم على ازدراء كل من المسيحية والكنيسة. ووصف كثيرون هذا اللقاء بأنه يبعث برسالة محبة وتسامح للعالم كله.
لكن على المستوى الأعمق يمكن أن نرى بعدًا آخر لأهمية هذا اللقاء، فاللقاء كان لقاء بين طرفين دعما مصر في أحلك أيامها، من أجل استردادها من قبضة من كانوا يقودونها إلى مرحلة من التطرف. فثورة 30 يونيو (حزيران) لم تكن ستنجح هذا النجاح إلا بتضافر الجهود جميعها، ولا يستطيع أحد إنكار دور المملكة العربية السعودية أو الأقباط. ولذا فقد كان هذا اللقاء بمثابة لقاء لممثلين عن قوى اجتمعت على دعم مصر وخيرها.
فلم تكن ثورة 30 يونيو (حزيران) مجرد ثورة ضد جماعة سياسية، بل كانت ضد جماعة استخدمت الدين كستار تستتر وراءه، لتحقيق مصالح سياسية، وقد كان دعم السعودية، لثورة 30 يونيو (حزيران) ردًا لموقفها نحو مصر وشعبها، ودعمها لمصلحة الشعب المصري، وليس لتيار سياسي بعينه.
أظهر هذا اللقاء بعداً وطنياً يقودنا لبعد أعمق، وخصوصًا ونحن في إطار مجتمع ما بعد حداثي، وما أشير إليه هنا هو الحاجة البالغة لبناء جسور مع الآخر، من منطلق قبول الآخر وتقديره، بل تقدير اختلافه، دون التنازل عن الهوية، بل البحث عن الأرضيات المشتركة. وفي هذا كان لقاء العاهل السعودي بالبابا نقلة نوعية في الحوار.
ويمكننا تصنيف هذا الحوار على عدة مستويات، أولها وأهمها: أن هذا الحوار يمكننا وصفه بأنه حوار عربي- عربي، فيه حدث تلاقٍ لطرفين مؤثرين ولهما دور كبير، كل منهما يقدر الآخر ويقدر دوره وتأثيره. ولذا فهذا اللقاء يعد رسالة مهمة، دافعة لفكرة العيش المشترك، وله دلالات تؤكد أن السلام الاجتماعي ضرورة ملحة لا يجب إهمالها، أو إغفالها وسط كل المحاولات التي تحاول جاهدة تفتيت المنطقة، بزرع الفتنة. إلا أن استقبال الملك للبابا قدم رسالة للجميع، وأكد رسالة السلام الاجتماعي والعيش المشترك للعالم أجمع. ويعكس اللقاء إيمان الملك السعودي بالإنسانية والوحدة بين أبناء الشعب الواحد.
ويمكننا أيضًا تصنيف الحوار على أساس أنه حوار “إسلامي– مسيحي” إذ ظهر جليًّا أمام الجميع زخم في هذه الزيارة، فهي ليست مجرد لقاء بين رموز وطنية، بل هي في الأساس رموز دينية، فخادم الحرمين الشريفين، يتلاقى مع بطريرك الأقباط، فيبدي كل منهما السماحة والرحمة والحب للآخر، معلنًا أن وحدة وتماسك المسلمين والمسيحيين هي السبيل للقضاء على الإرهاب وأعوانه. وهكذا، فالرسالة واضحة، لكل من يشيعون الفتنة، ولكل من يرون في الطائفية سلاحًا يستخدمونه ضد أمن مصر وسلامتها. وقدم اللقاء رسالة توضح أهمية التعددية.
وعلى المستوى السياسي والاجتماعي والثقافي، فإن التعددية هي أرضية للعيش المشترك، وحينما تغيب التعددية يتولد الصراع وتتعمق الطبقية، وتصبح الأحادية والهيمنة أساس الوجود. لذا؛ أصبح من الضروري وجود مجتمع مدني قوي يكون الأرضية التي تُمارس فيها التعددية على مستوى الهوية. هذه العلاقة الجديدة بين الدولة والمجتمع المدني سوف تسهم في السلام الاجتماعي والعيش المشترك، فلا سلام ولا تقدم ولا عيش مشتركاً بدون التعددية.
إن التعددية التي تتم ممارستها في سياق من الشمولية، تخلق تماسكًا وتكافلًا لا يقف عند حدود الدين والأسرة والقبيلة. وعندما يعمل الناس معًا على حل القضايا التي تواجه المجتمع، نجدهم يوحدون جهودهم للتغلب على الصعوبات والتحديات. إن الوطن العربي يعاني من الخلافات التي تنجم عن الانقسامات الدينية والعرقية والثقافية. لكن التعددية تتجاوز الانقسامات التقليدية وتشجع تنمية المجتمع المدني والديمقراطية. ويعد التماسك بين جماعات المجتمع المختلفة من بين نتاج مثل هذه التعددية. والتماسك في هذا السياق هو مفهوم اجتماعي واقتصادي وثقافي وسياسي وديني.
. ولذا؛ كان اللقاء بمثابة وقفة مهمة لنا جميعًا، علينا أن نتفحصه، وندرسه ونتأمل فيه. يجب أن نعيد ترتيب أوراقنا، فلا ننغلق على أنفسنا مدعين أن في هذا حفاظاً على الهوية، بل يجب أن ننفتح على الآخر، نتفهمه ونتقبله، نتلاقى معه، ونبني جسور تواصل ترقى بالعلاقة فوق الخلافات، وتبحث عن نقاط التشارك والأرضيات المشتركة.
ومن هذه النقطة أود التأكيد ثانية على أهمية العيش المشترك، الذي كان محور الرسالة التي قدمها لقاء العاهل السعودي سلمان بن عبدالعزيز والبابا تواضروس الثاني، راجيًّا الله أن نعيش معًا في سلام ورحمة ومحبة.
* رئيس الطائفة الإنجيلية في مصر