كبح الإذعان في استمرارية التنازل لفكر الإخوان
محمد بن حسين بن فهد الدوسري [1]
إن استمرارية تداول الأفكار عبر الزمان حقيقة مطلقة، لا يمكن زعزعتها ولا النيل من قوتها التأثيرية، ولو كانت غير ذات جدوى واقعية، عبر فترات الركود الفكري المحدودة زمناً وواقعاً. فهي (أي الأفكار) تبقى مجردة في الفضاء المجرد، حتى يتم ترسيخها بإنزالها على واقع الأحداث المعاصر لها. وتنزيل تلك الأفكار دون مراعاة شروط التنزيل وقواعد التكييف وضوابط الكليات المقاصدية، يجعل تلك الأفكار المجردة عند تنزيلها على الأحداث المعاصرة مُصادمةً لحقائقها، وجمعاً للنقائض والنقائص في أصل تلك الأفكار، بما يرتد على أصولها الكلية ومنطلقاتها المقاصدية.
إن الاستمرار على فعالية مناهج التكفير وأفكار الجهاد والقتال، وترسيخ مبادئ الولاء والبراء المتجذرة في كتابات سيد قطب ومحمد قطب وأقطاب الصحوة الإسلامية المنبثقة من جماعة الإخوان المسلمين، وانعدام النقد لها وتمحيصها وتوضيح ما تتضمنه نصاً وروحاً ومنطوقاً ومفهوماً، في أنها تؤسس، وقد أسست لجماعات وتنظيمات التكفير والجهاد والقتال والتفجير، فتلك الاستمرارية لهي القاعدة والأساس الأولي لكبح جماح التطرف لدى كل غرٍ طري الفكر وسريع الغليان، بسبب القدرة لدى تلك الكتابات المتطرفة على تشكيل عقول أولئك الأغرار. ومن أعظم ما غفلت عنه أفكار كبار متطرفي الإخوان المسلمين، وعلى رأسهم سيد قطب ومن نحا واقتفى طريقه ومساره، أنهم لم يستوعبوا الغموض الذي يُحيط بالواقع، وعدم الفهم الحقيقي للحكم الشرعي، ومراعاة تنزيله بضوابطه وشروطه، وكذلك فقدان تلك الزعامات الفكرية لمسألة أصولية فقهية مهمة جداً، وهي تحقيق مناط المسائل، وأن تلك الزعامات الفكرية المتطرفة على مر العقود الماضية، لم تُدرك أنها تخوض في مسائل اجتهادية تحتمل الظن الاجتهادي، ولا يترتب عليها حكم يقيني قطعي، وذلك أن ما قَوِي مدركه من مسائِل الاجتهاد يُراعى فيه الخلاف، وهذا ما لم تُدركه قوى وتيارات الصحوة الإسلامية على مختلف مشاربها، وهذا الذي أوقعها في خط ومسار التيار المتشدد، والنزوع إلى الانعزال، إلى حياة الفصل بين كل اثنين في جميع مناحي الحياة، حتى أصبح المجتمع مصاباً برهاب الخوف من الوقوع في الخطيئة، وعدم مراعاة ما يُراعيه الفقهاء والأصوليون في تنزيل الأحكام وتكييف المقاصد الكلية منها والجزئية، فقد أكد أولئك الفقهاء والأصوليون على مر العصور، كما يقول القرافي في الفرق الثامن والعشرين بين قاعدة العرف القولي يقضى به على الألفاظ ويخصصها، وبين قاعدة العرف الفعلي لا يقضى به على الألفاظ ولا يخصصها: “وعلى هذا القانون تُراعى الفتاوى على طول الأيام، فمهما تجدد في العرف اعتبره ومهما سقط أسقطه، ولا تجمد على المسطور في الكتب طول عمرك، بل إذا جاءك رجل من غير أهل إقليمك يستفتيك لا تجره على عرف بلدك، واسأله عن عرف بلده وأجره عليه وأفته به دون بلدك والمقرر في كتبك، فهذا هو الحق الواضح، والجمود على المنقولات أبداً ضلال في الدين وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين، وعلى هذه القاعدة تتخرج أيمان الطلاق والعتاق وصيغ الصرائح والكنايات، فقد يصير الصريح كناية يفتقر إلى النية، وقد تصير الكناية صريحاً مستغنية عن النيّة”[2]. لذا فإن التشديد على الفهم والفقه والاستنباط -كما قرره القرافي آنفاً- يدلُّ على أن الواقع لا يكون دائما واضحا وضوح الفجر الصادق؛ ولكنه قد يكون ملتبساً ومظلماً يحيطه الشك والاحتمالات، التي تفتقر إلى الفكر النير والتجربة والخبرة، وذلك كي يتم تفكيك تلك المقفلات في النصوص وتوضيح حقيقة الواقع، كي يتم تنزيل الأحكام بعلم قصده الشارع في تنزيل الأحكام. (فالعالم من يتوصل بمعرفة الواقع والتفقه فيه إلى معرفة حكم الله ورسوله، كما توصل شاهد يوسف بشق القميص من دبر إلى معرفة براءته وصدقه، وكما توصل سليمان (عليه اسلام) بقوله: “ائتوني بالسكين حتى أشق الولد بينكما” إلى معرفة عين الأم، وكما توصل أمير المؤمنين علي (رضي الله عنه) بقوله للمرأة التي حملت كتاب حاطب لما أنكرته: لتخرجن الكتاب أو لنجردنك (…) إلى استخراج الكتاب منها. ثم قال القرافي: “ومن تأمل الشريعة وقضايا الصحابة وجدها طافحة بهذا، ومن سلك غير هذا أضاع على الناس حقوقهم، ونسبه إلى الشريعة التي بعث الله بها رسوله”[3]. وإن ما وقعت فيه الجماعة الحاضنة (وأعني بها جماعة الإخوان المسلمين) لأفكار التنظيمات الإرهابية، هو أنها أغفلت الواقع ولم تُحط بالنص الشرعي وادعت القدرة على القيام بأمور الفتوى، وهذا جعل مفكريها ومنظريها يتصدون لأحكام التكفير وتقسيم المجتمعات إلى جاهلية وغير جاهلية، وإلى تخيل أن الزمان قد استدار، وقد رجع كهيئته عند بعث الرسالة، وتنزيل تلك الصورة المتخيلة في الأذهان، ومن ثَم تخيلها واقعاً معاصراً، واستحضارها في الذهنية الفكرية لأولئك المنظرين؛ كي يبنوا عليها تلك الأفكار التي أصبحت الوقود والفاعل الحقيقي والمؤثر في تلك الفظاعات، التي ترتكبها جماعات الإرهاب والتكفير من (داعش) و(جبهة النصرة) و(الجهاد). وقد وصلت تلك الأفكار إلى فكر القيادات السياسية في الولايات المتحدة الأميركية، وقررت أن تحذو طريق ما قررته القيادة السياسية في المملكة العربية السعودية، وذلك بأن تُقرر أن جماعة الإخوان المسلمين جماعة إرهابية، يتوجب الوقوف أمامها بكل حزم وعزم، وأن خط الدفاع الأول أمام الكفر الإرهابي هو معالجة حقيقة الجماعة التي تحمل بذور تلك الأفكار الجهادية والقتالية التكفيرية المتطرفة، التي لا ترى إلا نفسها، وأنها هي من تملك الحقائق المطلقة، وأن البشرية لا حق لها في الحياة، ولا يجوز أن تتمتع بتلك الطبيعة التي خلقها مبدعها، فقد صدّقت لجنة في الكونغرس الأميركي على مشروع قرار ينص على إدراج جماعة الإخوان المسلمين في قائمة الإرهاب[4]، وقد وافقت اللجنة القضائية في مجلس النواب الأميركي على مشروع القرار. وقال رئيس اللجنة بوب غودلاتي بعد التصويت: إنه كان يجب إدراج جماعة الإخوان منذ مدة في قوائم الإرهاب، بسبب تبنيها الإرهاب والتهديد الذي تشكله على الأميركيين والأمن القومي للولايات المتحدة. وتضمنت مسودة القانون مطالبة إدارة الرئيس باراك أوباما “بتقديم تبرير مفصل عن أسباب رفضها وضع الجماعة ضمن قائمة الإرهاب الدولي، ويتم تقديم هذا التبرير إلى الكونغرس خلال مدة لا تتجاوز ستين يوما”. وطالبت مسودة المشروع وزير الخارجية الأميركي جون كيري، بالتعاون مع كل من وزيري الخزانة والأمن الداخلي، بممارسة صلاحياته ووضع منظمة الإخوان المسلمين ضمن “قائمة منظمات الإرهاب الأجنبي”. وكذلك ينص المشروع على أنه “يمنع أي أميركي أو مقيم على أراض أميركية من التعامل مع أي شخص أو جهة على علاقة بتنظيم الإخوان في أي بقعة من العالم”، و”يمنع أي مواطن أجنبي على صلة بالتنظيم من دخول الأراضي الأميركية”، بالإضافة إلى “حظر أية ممتلكات أو أموال في حوزة مؤسسات مالية أميركية تخص الجماعة”.
لذا؛ فإن هذا التقدم الفكري لدى القيادة التشريعية والسياسية في الولايات المتحدة الأميركية هو بصيص أمل حقيقي في إدراك أن الفكر المتطرف المتجذر في القتل والتدمير والتكفير للبشرية، هو خطر حقيقي على الدول المسلمة وعلى المملكة العربية السعودية في المقام الأول؛ وذلك لأنها قد أدركت حقيقة منذ زمن طويل أن الإرهاب ومحاربته لا يمكن أن تقوم به الدول الكبرى مثل الولايات المتحدة الأميركية دون إدراك أن المملكة العربية السعودية هي الشريك الحقيقي في التغلب على الفكر الإرهابي المتطرف، المتجذر في القتل والتدمير والتكفير، وأن السعودية دولة محورية في تفكيك الفكر المتطرف الإرهابي، الذي يجعل الإسلام والخط السني منطلقاً له.
[1] كاتب ومستشار قانوني سعودي.
[2] القرافي، الفروق المسمى أنوار البروق في أنواء الفروق، م 1، ص322.
[3] ابن القيم، إعلام الموقعين، 1/69
[4]ورد هذا الخبر عن جمع كثير من القنوات الإخبارية الأميركية والعربية.