ثلاثة أسباب أنجحت المشروع الإعلامي القطري في بدايته، أولها: ندرة المنافسين، وثانيها: أنها طرحت نفسها مرآة لجمهور واسع، تردد نفس تعصباته وشعاراته الشائعة. أما ثالثها: فسوف نصل إليه في موضع من هذا المقال.
ذلك أن السببين الأول والثاني كانا أيضا العاملين اللذين أديا إلى تراجع الإعلام القطري لاحقا.
ظهر لقناة الجزيرة منافسون. سواء من القنوات الموجهة إلى الجمهور المحلي في دول مثل مصر، أو من القنوات الموجهة إلى جمهور إقليمي واسع، كما الحال في سكاي نيوز عربية والعربية. بل ولاحقا قناة العالم الإيرانية، في الفترة التي تضاربت فيها مصالح قطر مع مصالح المشروع الشيعي السياسي، فاختلفا حول سوريا.
أما لعبة مجاملة الجمهور في شعاراته فلم يكن ممكنا لها الاستمرار. قدمت الجزيرة نفسها في البداية بوصفها قناة “الرأي والرأي الآخر”، فوجد كل باحث عن رأي يعبر عنه ما أراد، على لسان هذا الضيف أو ذاك. لكن التحزبات الإقليمية في مرحلة لاحقة أظهرت الحقيقة؛ أنها قناة رأي واحد، تعبر عن نظام واحد، وأن الرأي والرأي الآخر مسموحان ما داما بعيدين عن قطر والمصلحة القطرية.. أما وقد صارت قطر لاعبا في الواجهة، فكان حتما على القناة أن تعبر عن نفسها كميكروفون في يد النظام القطري، بشكل لا يختلف كثيرا عن تجربة صوت العرب في الستينيات.
وبالتالي صارت الجزيرة طرفا، لا جهة إعلام مستقل، فبدأ جمهورها يتآكل. في حرب ٢٠٠٦ كانت الجزيرة مصدر الأخبار المفضل لـ(٤٣٪) من اللبنانيين الشيعة، في ٢٠١١ صار (٧٪) فقط من اللبنانيين الشيعة يضعون الجزيرة في مرتبة قناتهم الإعلامية المفضلة[1]. والسبب أن الجزيرة جعلت العلاقة مع جمهورها مشروطة بإرضائه، وليست مشروطة بتقديم معلومة محايدة مستقلة. حين تفقد الجزيرة القدرة على إرضاء شريحة من الجمهور تفقدها فورا، وسيتكرر هذا في مصر وغيرها من الدول العربية، حيث ستتحول الجزيرة إلى رمز لـ”الكذب الإعلامي القادم من الخارج مستهدفا الاستقرار”. وهذا على خلاف تجارب إعلامية سابقة في المرحلة التي سبقت الفضائيات، مثل بي بي سي، التي كانت بالنسبة لجمهور عريض من المستمعين العرب مصدر المعلومة الموثوقة، سواء كانت على هواه أم لا.
السبب الثالث الذي أنجح الجزيرة سابقا يختلف عن السببين الأول والثاني في أنه لا يزال سانداً الإمبراطورية الإعلامية القطرية ومؤجلا انهيارها. السبب الثالث هو القوة الاقتصادية القطرية التي تعتبر المشروع الإعلامي مشروعها القومي الأساسي، وأحد ركائز استراتيجيتها السياسية. الجزيرة كانت الاسم الكبير الذي ينظر إليه الجميع، فتتشتت الأعين عن الأعمدة التي يرتكز عليها الإعلام القطري، والتي يمكن تلخيصها في ستة:
- قاعدة من الجمعيات الأهلية غير الحكومية والمراكز الحقوقية الصديقة: وظيفة هذه القاعدة إكساب المنتج الإعلامي القطري مصداقية، إما عن طريق إصدار تقارير عن قضايا تريد قطر التركيز عليها، أو بتوفير ضيوف للتعليق على الأحداث، مع القدرة على إخفاء هويتهم السياسية خلف هويتهم “المهنية”. أي بتقديمهم على أنهم نشطاء حقوقيون وليسوا نشطاء سياسيين. من أمثلة ذلك المواقع الحقوقية اللندنية، مثل المركز الإماراتي لحقوق الإنسان، ومركز قرطبة للتعايش بين الحضارات، ومركز رصد الشرق الأوسط، ورابطة مسلمي بريطانيا[2]. يدير هذه الجمعيات نشطاء من الإخوان المسلمين المرتبطين بقطر، والذين صاروا ضيوفا دائمين في وسائل إعلامها، وفي الأقسام العربية من الشبكات الإعلامية الأجنبية، وبالتالي محركين للرأي العام.
- مواقع إنترنت بلغة أجنبية مثل Middle East Eye، و Middle East Monitor، وظيفتها إعادة تدوير الأخبار للمواقع العربية. ينشر الموقع الإنجليزي الخبر ثم تنشره مواقع عربية منسوبا إلى الموقع الإنجليزي، ثم تنشره عشرات المواقع الإخبارية الأخرى في الشبكة نفسها، فيتحول إلى “حقيقة”.
- مواقع منتسبة إلى علامات تجارية شهيرة مثل هافنجتون بوست، النسخة العربية، الذي استخدم العلامة التجارية بينما كانت سياسته التحريرية مختلفة تماما. ومؤخرا أُنهي التعاقد مع هافنجتون بوست وأسقط اسم “هافنجتون” من عنوان الموقع، وذلك بعد سنوات تعرض فيها الموقع الأمريكي لانتقادات متعددة بسبب ما تنشره النسخة العربية.
- التغلغل في الخدمات العربية للشبكات الإعلامية الغربية، مثل بي بي سي ودويتشه فيله، وتكوين شلل داخلية توجه السياسة التحريرية للأقسام العربية، وتؤثر في المعلومات المتوافرة لدى الصحفيين في المؤسسة الأم، وتتحكم في قائمة الضيوف الذين يظهرون على الشاشة.
- شبكة من النشطاء، الذين تَرَكُوا بلدانهم الأصلية وأسسوا شبكات إعلامية في تركيا وبريطانيا، منها قنوات تلفزيونية ومنها مواقع إنترنت مرتبطة بها.
- أما الوظيفة الأكثر تأثيرا لهؤلاء النشطاء فهي أنهم شكلوا ما نسميه “مكاتب الاستقبال الإعلامي” للإعلاميين الغربيين المهتمين بمنطقة الشرق الأوسط. وهي عبارة عن مجموعات من الإعلاميين وظيفتها استقبال كل مراسل قادم إلى المنطقة، وإحاطته بدائرة من الصحفيين المحليين والنشطاء “المضموني التوجه السياسي”. فصار مراسلو الصحف الأجنبية يقدمون رؤيتهم عن المنطقة من خلال عيون هؤلاء النشطاء، ويستقون معلوماتهم منهم، ويبرزون القصص الصحفية التي يقترحونها، ويستشهدون بالمساهمين الذين يقترحهم هؤلاء النشطاء كشهود عيان أو أصحاب تجارب.
حين نتحدث عن شبكة الإعلام القطرية فإن هذا العنصر الثالث لا يزال الركن الأساسي الداعم لها. ومع القدرات الاقتصادية التي تستطيع الدولة القطرية توفيرها يمكن للمواقع الإخبارية التابعة لها أن تتكفل بتكاليف الانطلاق من عواصم غربية، مما يضفي عليها مصداقية لدى قراء العربية، ويسهل الاتصال بصحفيين ذوي أسماء أجنبية تضفي شعورا بالحياد.
تتجمع هذه العناصر لتجعل شبكة الإعلام القطرية هي الطريق الأكثر إغراء وتوفيرا للفرص للإعلاميين. ومن الناحية الأخرى، فهي تنشر رسالة بين الإعلاميين والكتاب بأن إغضاب قطر وحلفائها من الإخوان والنشطاء لا يعني سوى حرمانك حتى فرصة الظهور الإعلامي لك أو لأعمالك.
[1] – شبلي تلهامي، The World Through Arab Eyes
[2] – أندرو جيليجان، الدايلي تليجراف، ٨ فبراير (شباط) ٢٠١٥ How the Muslim Brotherhood Fits into a Network of Extremism