الأحد، ١٢ نوفمبر/ تشرين الثاني ٢٠١٧ (٠٠:٠ – بتوقيت غرينتش)
ساهمت قناة «الجزيرة» منذ تأسيسها في بثّ الفوضى المفهومية والخلط في المصطلحات، ولم ينتظر كاتب هذه السطور الأزمة الخليجية الأخيرة للتنديد بذلك والتنبيه إلى خطورته على الرأي العام العربي، فقد نبّه في مرات عدة على صفحات هذا الملحق ومنذ سنوات طويلة إلى أن الفوضى المفهومية ليست عملية بريئة بل هي مقدمة لإحلال الفوضى العامة في المجتمعات ومقدمة للهيمنة عليها.
قناة «الجزيرة» دأبت منذ سنوات طويلة على الخلط بين الإسلام والإسلاميين، والتشكيك بكلّ حركات الاستقلال الوطني، وبمفهوم الاستقلال ذاته، وتغييب الإسهام الليبرالي واليساري والمسيحي في التاريخ السياسي والثقافي للمنطقة، والخلط بين الفكر الإسلامي الإصلاحي والفكر الإسلامي الأصولي، والقفز على مراحل من التاريخ العربي المعاصر مقابل تضخيم مراحل أخرى، والتجريح المفرط ببعض الشخصيات التاريخية، على غرار عبدالناصر وبورقيبة والحسن الثاني، مقابل السكوت على مساوئ شخصيات أخرى.
كان كاتب هذه السطور قد نبّه سنة 2001 مثلاً إلى خطورة أن تستعمل «الجزيرة» عبارات تشكيكية عند الحديث عن الإرهاب والإرهابيين، من قبيل استعمالها عبارة «ما يدعى بالإرهاب» بدل الحديث مباشرة عن الإرهاب، وهذا ما تواصل الالتزام به إلى اليوم، على رغم استفحال الظاهرة ووضوحها أمام الجميع. في الظاهر، يبدو ذلك نوعاً من الحرفية والحيادية الإعلامية، لكنه حياد كاذب، أولاً، لأن الإرهاب وقائع لا دعاوى، وثانياً لأن قناة إعلامية إذا كانت إلى هذا الحدّ ملتزمة بالحذر والحيادية فإن عليها أن تلتزم بذلك في كل المواضيع، وليس في موضوع الإرهاب وحده.
نعود اليوم إلى قناة «الجزيرة» لننبه إلى خطورة إصرارها منذ أشهر على استعمال كلمة «علمانية» و «سياسة علمانية» عند الحديث عن الإصلاحات التي تقوم بها المملكة العربية السعودية لمؤسساتها الدينية. ينبغي أن يكون الشخص إما جاهلاً كل الجهل أو ضارباً عرض الحائط بالمبادئ الدنيا للنزاهة والصدقية كي يستعمل كلمة علمانية في هذا السياق، ويحشر مسائل مثل تنظيم تدخّل هيئات دينية في المجال العام أو السماح بقيادة النساء للسيارة في خانة العلمانية. لماذا حينئذ الإصرار على استعمال هذه الكلمة بالذات؟ ولماذا الدفع إلى الخلط واللبس في المفهوم، لا سيما أن العلمانية تقترن خطأ لدى جزء مهم من الرأي العام بالسياسات المعادية للدين، بل الإلحاد أيضاً؟
الإرهاب والتشدد الديني لا يحتمل أن يتحدث عنهما بعبارة «ما يدعى»، ومقاومتهما لا علاقة لها بالعلمانية. بل هما داءان مستأصلان في كل المجتمعات العربية، وإذا لم يحصل التصدّي لهما بعمق وحزم فإن مصير هذه المجتمعات سيتجه إلى الفوضى والدمار.
والمملكة العربية السعودية التي تضمّ المقدسات الإسلامية تضررت مثل غيرها من الإرهاب، لكن ضررها كان من نوع خاص. فعندما استقبلت شخصيات من «الإخوان المسلمين» الهاربين من القمع الناصري في الستينات، جازاها هؤلاء جزاء سيئاً عندما استعملوا مؤسساتها التعليمية والدينية لأخونة الوهابية التقليدية وتطعيمها بأفكار المودودي وسيد قطب وتحويلها من المحافظة الدينية إلى الحركية والعنف، فحملت وزر «الإخوان» وهي براء منهم. ثم عندما قامت الثورة الإيرانية سنة 1979، كانت السعودية من أول ضحاياها، من خلال عملية اقتحام الحرم المكّي بقيادة جهيمان العتيبي، وقد جاءت تلك العملية نتيجة لمسار أخونة الوهابية وبداية إرساء مسار سنية ثورجية متشبهة تهافتا بالخمينية ومنافسة لها باقتباس آلياتها، وقد تواصلت منذ ذلك الحين إلى أن أصبحت صرحا ضخما مع «القاعدة» و «داعش»، وتحملت المملكة عواقبها داخليا وخارجيا.
لكلّ مجتمع الحق، بل الواجب، في أن يتصدّى بحزم للتشدّد الديني المولّد للإرهاب، بالطريقة التي تناسب تاريخه وثقافته وبيئته. وكل المجتمعات العربية اصطلت وتصطلي بنار الإرهاب الذي لا ينشأ من فراغ، بل هو عاقبة عوامل عدة، منها تراث لم يحصل التعامل معه بالنقد والمراجعة والتنقية من الشوائب والتبيئة مع متطلبات العصر. لذلك ليس من الغريب أن توجد جراثيم التشدّد والإرهاب في كلّ مكان، ولا تسلم منها المؤسسات والخطابات الرسمية نفسها، عن قصد أو غير قصد، ما لم تحصل عمليات مراجعة عميقة وشجاعة، لا تكتفي بالمخرجات بل تعالج الداء من أصوله ومقدماته.
ليس التصدّي للتشدّد الديني المنتج للإرهاب علمانية، ولا علاقة له بهذا المفهوم. ولا يمكن أن يكون الدافع للإصرار على هذا الخلط إلاّ من صنف الدافع للإصرار على استعمال عبارة «ما يدعى» عند الحديث عن الإرهاب والإرهابيين منذ تفجيرات أيلول (سبتمبر) 2001.