في منتصف يناير (كانون الثاني) الجاري، سيتعين على الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أن يقرر ما إذا كان سيصدق على امتثال إيران لبنود الاتفاق النووي، وهو إجراء يجب أن يتم بصفة دورية كل ثلاثة أشهر، وفقا لشروط الاتفاق.
وليس من المستبعد أن يقوم الرئيس الأمريكي بسحب الثقة من إيران، نظراً لسياسته الصارمة تجاه الجمهورية الإسلامية، حيث أعلن مرارا أن الاتفاق الذي أبرم في عهد الرئيس السابق باراك أوباما لم يكن في مصلحة الولايات المتحدة الأمريكية، بل اعتبره أحد أسوأ القرارات الأمريكية، متهما إيران بارتكاب مخالفات متعددة للاتفاق، ومنتقدا -على نحو خاص- عدم تطرق الاتفاق لبرنامج الصواريخ الإيراني.
ومما لا شك فيه أن التطورات الجارية حاليا في إيران، واندلاع التظاهرات في العديد من المدن الإيرانية، وما صاحبها من أعمال قمع من جانب النظام الإيراني، نتج عنها موت العشرات من المتظاهرين، كل تلك التطورات ستكون من بين العوامل التي ستضعها الإدارة الأمريكية في الاعتبار، وستمثل ورقة ضغط جديدة يستخدمها البيت الأبيض في تعامله مع الملف الإيراني، وهو ما بدا واضحاً في التصريحات الصادرة أخيرًا من واشنطن، عدا عن تغريدات الرئيس الأمريكي دونالد ترمب الداعمة والمؤيدة للمتظاهرين، من خلال حسابه الرسمي عبر تويتر، والتي صرح في إحداها بأن الشعب الإيراني سيتلقى الدعم المناسب في الوقت المناسب.
الموقف الأوروبي
وفي حال قيام الولايات المتحدة بفرض عقوبات جديدة، ستفقد طهران عددا من شركائها الاقتصاديين. فمنذ التوقيع على الاتفاق النووي مع إيران عام 2015 صار الاتحاد الأوروبي ثالث أكبر شريك تجاري لطهران. وتتخوف طهران من أن أوروبا لن تلبث أن تشارك في العقوبات الأمريكية الجديدة في حال تم الإعلان عنها، عقاباً على برنامج تطوير الصواريخ الباليستية. وهو الأمر الذي يراه بعض المحللين غدا واضحاً في الآونة الأخيرة، ويستدلون بذلك على ما أعلنته باريس -على سبيل المثال- حول مواقفها، سواء فيما يختص ببرنامج طهران لتطوير الصواريخ الباليستية، أو تجاه القمع الوحشي للنظام الإيراني ضد المتظاهرين السلميين، وما تبعه من تأجيل متكرر لزيارة وزير الخارجية الفرنسي المقررة مسبقا إلى طهران، على وقع تأثيرات المشهد الأخير، وتصاعد حدة المظاهرات الشعبية ضد نظام الملالي، على الرغم من حرص باريس على الإبقاء على خطوط التواصل مفتوحة؛ حيث بدا وكأن مواقف باريس تقترب كثيرا من موقف البيت الأبيض.
في حين يقرأ مراقبون آخرون التصريحات والمواقف الفرنسية الأخيرة بشكل مختلف، ويرون فيها تساهلاً تجاه إيران، وحرصاً أوروبياً على الإبقاء على الاتفاق النووي حتى لو اتخذت واشنطن موقفا مغايرا، لا سيما وأنهم يَرَوْن في ذلك مصلحة في كبح واحتواء النظام الإيراني من جانب، وتنمية مصالحهم الاقتصادية من جانب آخر، إذ العشرات من الشركات الأوروبية أوجدت لها موطئ قدم في إيران عقب إبرام الاتفاق النووي عام ٢٠١٥، وكان بمثابة الفرصة الاستثمارية الذهبية في سوق ناشئة وغنية ترفد وتنمي هذه الشركات.
إيران من جانبها تنظر إلى الموقف الأوروبي بريبة -في حقيقة الأمر- ولا تعول كثيرا في الوقت الراهن على التعاون الاقتصادي مع الاتحاد الأوروبي، ولا سيما فيما يتعلق بالعلاقات والمعاملات المصرفية. أما المرتبة الثالثة التي يحتلها الاتحاد الأوروبي في قائمة الشركاء التجاريين لإيران، فيمكن أن تعزى ببساطة إلى الصادرات النفطية الإيرانية إلى أوروبا.
كانت أوروبا في الماضي من بين الشركاء التجاريين التقليديين لإيران (بجانب شركائها في جنوب شرق آسيا)، لكن طهران مضطرة إلى البحث عن شركاء جدد، في ظل ما تواجهه حاليا من مخاطر سياسية وتحسبا لتعرضها لعقوبات اقتصادية جديدة، من شأنها محاصرة إيران بعزلة دولية قد تمتد لفترات طويلة.
ومن الواضح أن إيران جادة في البحث عن شركاء تجاريين من بين البلدان التي لم تكن تعتبر ضمن قائمة الشركاء التجاريين المثاليين لطهران. ولعل سياسة المسؤولين الإيرانيين المعتمدة منذ فترة طويلة على تعزيز العلاقات مع دول الجوار، كانت تهدف بالأساس إلى اتخاذ الاحتياطات اللازمة لمواجهة مثل تلك الظروف الاستثنائية، حيث لا يزال عدد من دول الجوار في صدارة الشركاء التجاريين للدولة الإسلامية، وعلى رأسهم تركيا والعراق وعمان وأفغانستان.
كما أن تعزيز علاقات طهران الاقتصادية مع كل من روسيا وأذربيجان ودول وسط آسيا، يمكن أيضا أن يعزز موقف إيران، وأن يسهم في حماية اقتصادها في مواجهة أي سلسلة جديدة من العقوبات الاقتصادية التي قد تتعرض لها.
تركيا
تعد تركيا الشريك الاقتصادي التقليدي الذين تُعول عليه طهران كثيراً، فبالإضافة إلى التصاعد الطردي والمتصاعد في حجم التبادل التجاري البيني، حتى غدت تركيا في مركز متقدم ومؤثر في الاقتصاد الإيراني، وما تساهم به تركيا بقوة في تهيئة البيئة المناسبة في رفد الاقتصاد الإيراني وإنعاشه من خلال شركاء إقليميين جدد، ومن ذلك مشروعها “مجموعة عملية إسطنبول – قلب آسيا) الذي استخدم دعم أفغانستان كغطاء لتمرير تعزيز وخدمة اقتصاد نظام الملالي.
فإن القيادة الإيرانية تنظر إلى تركيا باعتبارها طوق نجاة سبق اختباره فعلاً فترة العقوبات الدولية السابقة، وقبل إبرام الاتفاق النووي الإيراني عام ٢٠١٥ مع الدول الست. وقد كُشف أخيراً عن دور تركي مؤثر وناجح في خرق العقوبات الدولية السابقة على نظام الملالي، ورفده بمئات الملايين من الدولارات -المغسولة- التي تورطت في غسلها بنوك وشخصيات تركية مرموقة ومقربة من الرئيس التركي نفسه، كما هو الحال مع وزير الاقتصاد التركي السابق محمد ظافر شاغليان، والمدير العام السابق للبنك المركزي التركي سليمان أصلان، بالإضافة إلى اعتراف تاجر الذهب التركي رضا ضراب، وهاكان عطيلة المصرفي التركي الكبير.. وجميع هؤلاء الأشخاص على مقربة مباشرة من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.
وسنستعرض فيما يلي عددا من الشركاء التجاريين الجدد الذين تسعى إيران لتعزيز العلاقات معهم بهدف تدعيم موقفها الاقتصادي في مواجهة التهديدات الاقتصادية المستقبلية.
أذربيجان
ازداد حجم التبادل التجاري بين إيران وأذربيجان بنسبة (33%) في الأشهر التسعة الأولى من عام 2017، مقارنة بالفترة نفسها من عام 2016، وفقا لتأكيدات رئيس أذربيجان إلهام علييف، خلال القمة الثلاثية في طهران في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي. وحاليا تعمل في أذربيجان حوالي (450) شركة ذات تمويل إيراني.
فضلا عن ذلك هناك مقترحات لإنشاء غرفة التجارة الأذربيجانية- الإيرانية، وإنشاء منطقة اقتصادية خاصة في مدينة أستارا الحدودية الإيرانية، وهناك مشروعات توليد الطاقة (اتفاق خودافرين – جيز جالاسي بشأن محطة توليد الطاقة الكهرومائية المشتركة)، وتسريع بناء مصنع أدوية مشترك بالقرب من باكو، كما سيتم مناقشة مشروع مشترك لإنتاج الأجهزة الزراعية، وغيرها من المشروعات خلال الاجتماعات الدورية للجنة الحكومية الأذربيجانية- الإيرانية للتعاون الاقتصادي والتجاري والاجتماعي.
ومن المقرر افتتاح مصنع مشترك للسيارات بمشاركة شركة أزوروكار وشركة إيران خودرو فى منطقة نفتشالا الصناعية فى أذربيجان فى الأسابيع القادمة.
في شهر ديسمبر (كانون الأول)، وقعت شركة آسانبر الناشئة في إيران وشركة أفيرتيل التي تتخذ من باكو مقرا لها، مذكرة تفاهم على هامش مؤتمر باكوتيل لعام 2017 والمؤتمر الدولي لأذربيجان، والمؤتمر الدولي للاتصالات وتكنولوجيا المعلومات. وتهدف مذكرة التفاهم إلى تسهيل وتعزيز العلاقات التجارية بين البلدين وخاصة فى مجال النقل.
آسيا الوسطى
تضطلع إيران بدور متزايد بوصفها معبرا لبلدان آسيا الوسطى غير الساحلية للوصول إلى المحيط. وتحرص طهران على تدعيم أهمية ميناء تشابهار الإيراني الذي افتتح حديثا لكي يكون بمثابة مركز لعبور سلع آسيا الوسطى المخصصة للتصدير.
وبعد عامين من ربط إيران لسككها الحديدية مع آسيا الوسطى، هيمنت دول آسيا الوسطى على حركة العبور بالسكك الحديدية عبر إيران، حيث بلغت حصتها أكثر من (90%).
وقد تم نقل أكثر من (960) ألف طن من البضائع عبر السكك الحديدية الإيرانية خلال الأشهر الثمانية الأولى من السنة المالية الحالية التي تبدأ بشهر مارس (آذار). كما تجدر الإشارة إلى أن أكثر من (770) ألف طن من البضائع التي تنقلها خطوط السكك الحديدية الإيرانية تنتمي إلى دول آسيا الوسطى بزيادة (80%) على أساس سنوي.
وقد تم تحميل نحو (580) ألف طن من البضائع العابرة في تلك الفترة من تركمانستان، أي ما يعادل (60%) من مجموع البضائع المنقولة عبر السكك الحديدية الإيرانية. واحتلت أوزبكستان المركز الثاني بنسبة (33%)، تليها طاجيكستان.
وقعت أوزبكستان وكازاخستان أخيرا عدة اتفاقيات مع إيران فى عدة مجالات، منها إمدادات النفط، والنقل، وتجهيز الأغذية، والإنتاج المشترك للمنتجات الزراعية، وغيرها من أوجه التعاون.
روسيا
خلال الزيارة الأخيرة التي قام بها أليكسي ميلر، رئيس مجلس إدارة غازبروم إلى طهران، وقعت الشركة الإيرانية الوطنية للنفط وشركة غازبروم الروسية اتفاقية تعاون، تقوم غازبروم بموجبها بإجراء دراسة جدوى لتنفيذ مشروعات التكامل لإنتاج الهيدروكربونات ونقلها وتجهيزها، بما في ذلك المشروعات البتروكيميائية داخل الأراضي الإيرانية.
كما وقع الجانبان على مذكرة تفاهم لاستكشاف فرص التعاون المشترك ضمن مشروع إنتاج الغاز الطبيعي المسال في إيران.
من ناحية أخرى، وقعت شركة السكك الحديدية الإيرانية اتفاقا مع وكالة التأمين على الصادرات التابعة لجامعة أوسسك، لتمويل مشروع مشترك لتصنيع معدات النقل بالسكك الحديدية. وتبلغ قيمة الصفقة (3) مليارات يورو. وبموجب العقد، اتفق الجانبان على القيام باستثمارات مشتركة خلال فترة خمس سنوات لتصنيع سيارات نقل الركاب والبضائع، وكذلك القاطرات وغيرها من المعدات من قبل شركات إيرانية وروسية فى إيران. وتشمل المرحلة الأولى من العقد تصنيع (6000) سيارة شحن عن طريق تمويلات روسية.
وفى نوفمبر (تشرين الثاني)، تم افتتاح أكبر مركز تجاري إيراني “دار التجارة الإيرانية” في ميناء إستراخان الروسي في بحر قزوين. والذي يعد مركزا للأنشطة التجارية لما يقرب من (200) شركة إيرانية، لتصبح بذلك أكبر مركز للأنشطة الاقتصادية الإيرانية في روسيا.
منذ أسابيع وقع ممثلو منطقة “التاي” -إحدى المناطق التابعة للاتحاد الفيدرالي الروسي- مع الجانب الإيراني مذكرة تفاهم لتعزيز التعاون المتبادل في العلاقات الاقتصادية والأبحاث والتكنولوجيا.
المثلثات الإقليمية
بالإضافة إلى العلاقات الثنائية، تم تشكيل مثلثين إقليميين في الآونة الأخيرة لتعزيز التعاون الاقتصادي والأمني، الأول: إيران وأذربيجان وتركيا، والثاني: إيران وأذربيجان وروسيا.
ويعتبر المثلث الثاني أكثر وضوحا، حيث يستند جوهره إلى المشروع المشترك بين الشمال والجنوب، الذي يهدف إلى بناء طريق لنقل البضائع من الهند إلى شمال أوروبا.
وفي 25 ديسمبر (كانون الأول)، من المتوقع أن يتم تشغيل خط السكك الحديدية (أستارا) في أذربيجان كجزء من مشروع ممر النقل الدولي بين الشمال والجنوب.
يتعين الإشارة إلى أن جميع الأحداث والحقائق والأرقام المذكورة أعلاه تمت خلال الشهرين الماضيين فقط. مما يشير إلى أن إيران تبذل في الوقت الراهن جهودا استثنائية مكثفة لإقامة علاقات اقتصادية جديدة، في الوقت الذي تعمل فيه على تعزيز علاقاتها القائمة مع شركائها التقليديين. وهو ما يدل أيضا على أن إيران لا تستبعد تعرضها لسلسلة جديدة من العقوبات تحت الضغوط الأمريكية بمشاركة الاتحاد الأوروبي، ومن ثم تسعى طهران لاتخاذ التدابير اللازمة وإقامة شراكات جديدة، تحسبا واستعدادا لعزلة دولية جديدة قد تمتد لفترات طويلة.