تنبأت التحليلات المختلفة للمشهد السياسي في الجزائر، في مطلع القرن الواحد والعشرين، بانتصارات ساحقة للأحزاب الإسلامية، فقد شهدت البلاد خلال فترة العشر سنوات الماضية مشاركة الإسلاميين بشكل كامل في العملية السياسية. ومع ذلك لم تستطع الأحزاب الإسلامية الخروج عن إطار إستراتيجية النخبة الحاكمة بما تتضمنه من عوامل مضادة، وقامت بتحييد معارضتها من خلال التعددية غير المحفوفة بالمخاطر. ويشهد الوقت الحالي تعزيزا لتلك الإستراتيجية عن طريق رعاية الدولة للجماعات الإسلامية مثل الصوفية التي تدعو إلى إستراتيجيات لا تتعارض مع ما تراه النخبة الحاكمة.
منذ القرن العشرين، ويغلب الطابع السياسي على المجموعات الصوفية الجزائرية (والتي يطلق عليها «الطرق»، ومفردها طريقة)، وخاصة أثناء الحرب ضد القوى الاستعمارية، في ظل مطالبتها بالمشاركة بصورة غير مباشرة في الحياة السياسية. وحتى يومنا هذا، فإنهم لا يقدمون أنفسهم بصفة المنافس بل بصفة الناصح للنخبة الحاكمة فحسب. وبالنسبة لأتباع الطريقة، فإن الزاوية (وهي المقر الرئيسي للطريقة[2]) تركز على التنمية الذاتية أكثر من المشاركة الأيديولوجية. وفي سياق تشويه سياسات الأحزاب على نطاق واسع، تجد أن أصحاب هذه الرؤية السياسية أو بالأحرى تلك التي لا تميل للانخراط في السياسة تفضل عدم ظهور الصوفية في الأوساط المجتمعية والمشاركة في الحياة السياسية.
وبعد التعرض للتهميش، لفترات طويلة منذ ستينيات القرن العشرين، من قبل قادة مرحلة ما بعد الاستقلال ومحاولات القمع على يد الإسلاميين في التسعينيات[3]، أصبحت الصوفية الآن تلبي حاجة كل من الحكام والمواطنين إلى خلق قنوات جديدة للانخراط في الحياة السياسية وتعبئة الإمكانيات وتكشف عودة الطرق الصوفية الغطاء عن العديد من التغيرات الأساسية التي طرأت على الجزائر خلال فترة العشر سنوات الماضية.
أولا: أدى إعادة هيكلة احتكار الدولة للمشهد السياسي، وتفردها به وبالمجتمع المدني من خلال شبكات جديدة – وبعد فترة من الحكم الانتقالي وتقليص الرئيس بوتفليقة للدور الجماهيري الذي كان يلعبه الجيش – إلى تحويل وتغيير قواعد المشاركة السياسية بشكل جذري. حيث أصبحت المنافسة السياسية الحقيقية غير مسموح بها مع الإبقاء على التعددية الشكلية، ولذا لم يعد للفئات القديمة التي تمثل المعارضة مقابل العناصر الموالية للدولة أي صلة بالحياة السياسية في الواقع.
وأصبح علينا – بدلا من ذلك- أن ندرك بشكل أفضل المنافع التي تعود على الأفراد نتيجة لتعزيزهم لأواصر الصلة مع النخبة الحاكمة؛ بينما يرون أنفسهم فوق سياسات الأحزاب، وفي حالة الصوفية، نجد أن هذا يأتي في سياق تعزيز التناول المقبول للتغير الاجتماعي والإصلاح الديني بما لا يهدد هيكلة الدولة والتي جعلت الصوفية تبدو وكأنها شريك ذو امتياز للنخبة السياسية. بالإضافة إلى أن تجنب المنافسة مع القوى المؤسسية في الدولة والتركيز على كرامات الأولياء والأساطير التي تنسج حولهم يعطي قادة الصوفية مصداقية يمكنهم استغلالها عندما يُطلب منهم تعبئة الأصوات من أجل دعم انتخابي معين، وعادة ما يكون عن طريق تقديم المشورة حول الاختيارات السياسية لأتباعهم، علاوة على أن الأتباع قد يفضلون اختيار الزاوية التي ينتمون إليها باعتبار أنها وسيط اجتماعي من أجل تأمين إعادة التوزيع من قبل الدولة أكثر من كونها أحزابا سياسية متحدة مع النخبة الحاكمة.
ثانيا: ظهور الصوفية مرة أخرى على الساحة يوضح كيف قامت الأنظمة بتوحيد قيادتها السياسية، عن طريق إعادة السيطرة على المجال الديني، فقد عانت تلك الأنظمة من جراء الهجمات الإرهابية المستمرة في الجزائر، ومن محاولات الإسلاميين للسيطرة على مجريات الأمور.قام الرئيس بوتفليقة بإعادة الصوفية إلى الوجود مرة أخرى كنموذج وطني وشعبي للإسلام الذي يدافع عن الهوية الجزائرية ضد التهديدات الخارجية، وفي المقابل أقرت الأنظمة الصوفية بأن تلك الأنظمة هي الجهة الشرعية الوحيدة التي تملك حق تنظيم الحياة الدينية والسياسية في البلاد. أطلقت الصوفية على القيادة السياسية لمحمد السادس عبارة (أمير المؤمنين)، وصفت الرئيس بوتفليقة بأنه من جلب السلام مرة أخرى وحدَّ من مظاهر التطرف الديني، وفي ذلك محاولة لإضفاء الصبغة الشرعية على السلطة السياسية الحصرية لتلك القيادات.
كما أن دعم الصوفية على المستوى الوطني يساعد أيضا على إظهار الدولة كشريك مهم في دوائر السياسة الخارجية التي تدعو إلى مساندة القوى الدينية المعتدلة والموالية للغرب والتي يمكنها تهدئة النزاعات الثائرة في المجتمع المدني جنوبي البلاد.
إذا كانت جميع أنظمة الصوفية قد استعادت اهتمام الدولة والشعب بها مرة أخرى خلال فترة العشر سنوات الماضية، فإنها لم تتمتع بنفس القدر من الصلاحيات فيما يخص الوصول إلى النخبة الحاكمة ومؤسسات الدولة ووسائل الإعلام الجماهيرية والجامعات والقطاع الخاص والأماكن العامة. جدير بالذكر أن أكثر الطرق الصوفية تمتعا بالصلاحيات الطريقة العلوية، والطريقة التيجانية، والجمعية الوطنية للزوايا، والاتحاد الوطني للزوايا الجزائرية حيث تعمل تلك الطرق والهيئات الصوفية على بيان الإسلام الحقيقي الذي يجب أن يعمم داخل الجزائر، وتطمح في أن يكون بديلا عن جمعية العلماء، مع مواصلة الإنكار على السلفية الوهابية ووصفها بالتهديد الخارجي، ونقد التجربة الانتخابية الإسلامية والبحث عن عوامل تعبئة بديلة تقوم على أساس كرامات الأولياء والممارسات الروحية أكثر منها على بناء الأحزاب.
وبخلاف الحديث المعتاد عن طبيعة الصوفية التي لا تميل إلى السياسة، يجب علينا أن نعي وأن نحلل الأسلوب الذي انتهجته الطرق والزوايا الصوفية لتعزيز علاقتها مع النخبة الحاكمة للبلاد جيدا لكي نتمكن من فهم كيفية تنفيذ مخطط المحو التدريجي للمنافسة السياسية وإحلال الربائنية السياسية محلها كوسيط بين المجتمع المدني والسلطة في ظل وجود محدود للتعددية.
الزوايا الجزائرية في مواجهة الجبهة الإسلامية للإنقاذ
بدأت الحركات الصوفية في الظهور مرة أخرى بالجزائر كقنوات هامة للتعبئة، فقد شاركت بشكل كبير في تعزيز سياسات الرئيس، وخاصة تلك المتعلقة بالتوافق الوطني والتي كانت تهدف إلى تسوية النزاع الذي حدث بين القوى الإسلامية وبين الجيش في تسعينيات القرن العشرين. يتطلب تحديد ما إذا كان الفرد ينتمي إلى الصوفية النظر إلى مستويات مشاركة ذلك الفرد مع الزاوية، وهي تختلف اختلافا كبيرا ومن ثم يصعب إصدار تقديرات دقيقة بهذا الصدد حيث يرى البعض أن عدد الصوفية في الجزائر يتراوح بين 1.5 إلى 4 ملايين شخص من أصل 35 مليون نسمة[4] وهو عدد سكان البلاد.
الأمر الأكثر أهمية هو تزايد البحث عن الاعتراف الرسمي بين الزوايا بشكل هائل منذ بدايات القرن الواحد والعشرين، حيث بلغت عضوية الجمعية الوطنية للزوايا 890 زاوية و35 طريقة في [5]2005، بينما بلغت عضوية الاتحاد الوطني للزوايا الجزائرية 380 زاوية وطريقة، منها أقوى الطرق الموجودة على الساحة ألا وهي الطريقة العلوية في 2008 [6].
أثناء فترة الاستعمار الفرنسي، خضع قادة الزوايا لرقابة صارمة من قبل قوات الاستعمار. بينما كانت الأغلبية تحارب الإدارة الاستعمارية[7]، كان هناك البعض يتعاون معها في مقابل بعض الامتيازات. وبعد استقلال البلاد في العام 1962، اعتبرت الزوايا بقايا للاستعمار ولا تمثل أكثر من مؤسسات رجعية تحول دون تحقيق التطور السياسي والاقتصادي بالبلاد[8]. لدرجة أن بعض الزوايا تم إحراقها وتدميرها بالكامل ومصادرة أصولها. كما تم مصادرة أموال شيوخ الصوفية ووضعوا تحت الإقامة الجبرية، ومنهم الشيخ المهدي شيخ الطريقة العلوية والذي تم نفيه من موطنه إلى المستغانم (في الجهة الغربية للجزائر) من قبل الرئيس بومدين سنة 1970.
بالإضافة إلى الاتهام بالخيانة المذكورة أعلاه، كانت عملية تهميش الزوايا جزءً من عملية أكبر يقوم بها حزب جبهة التحرير الوطني؛ ذلك الحزب الذي تفرد بمقاليد السلطة منذ سنة 1962، والذي لم يسمح بأي منافسة في تعبئة المجتمع المدني الريفي. وقد كانت القضية الرئيسية والشغل الشاغل للرئيس بومدين في ذلك الوقت هي الثورة الزراعية، والتي كانت مضمّنة في ممارسات الزوايا. إلا أن تلك الممارسات التي كانت تُعنَي بكسر أي حركة سياسية تطل برأسها (مثل الحركة الوطنية الجزائرية، والبربريست، والمنظمات الشيوعية أو أي من المؤسسات ذات الطابع الديني أو السياسي) أخذت في الانتهاء منذ اندلاع أحداث الشغب والعنف في 1988 والتي أجبرت جبهة التحرير الوطني على أن تسمح بنظام التعدد الحزبي. وشجع نظام التعدد الحزبي هذا على إنشاء أحزاب إسلامية جديدة والتصريح بتلك الأحزاب ومنها الجبهة الإسلامية للإنقاذ والتي انطلقت في 1989 وقد قدر عدد الأصوات التي حصلت عليها بحوالي 4 أصوات.
اعتمدت الدولة على الزوايا لمواجهة النفوذ الهائل الذي اكتسبته الجبهة الإسلامية للإنقاذ. ولأنه تم إقصاؤها منذ زمن بعيد من المشهد السياسي، كانت الزوايا بمثابة أداة صادقة يمكن تقديمها للناس على أنها الشكل التقليدي والمحلي للدين في محاولة لمواجهة ما يطلقون عليه ثورة الجبهة الإسلامية للإنقاذ على الأسلوب الأفغاني. وأيضا الحال نفسه بالنسبة للعلمانيين والبربريست واليساريين الذين كانوا يعانون أيضا من إستراتيجية الجبهة الإسلامية للإنقاذ التي تحرم عليهم بعض الأمور، ولذا فقد رحبوا جميعا بفكرة الترويج للزوايا كثقل موازن لوجود الإسلاميين.
وفي مايو 1991، قامت الحكومة الجزائرية رسميا بقيادة الرئيس شاذلي بن جديد برعاية إنشاء الجمعية الوطنية للزوايا الجزائرية بهدف «محاربة جميع الحركات التي تنطلق باسم الوهابية أو الشيعة أو غيرها من المعتقدات الدخيلة على المجتمع والتي حاولت وتحاول تقديم أفكار منحرفة عن المدرسة المالكية والتي تمثل القاسم المشترك الذي يجمع بين أغلبية الشعب الجزائري[9]. وجاء إنشاء الجمعية الوطنية للزوايا بعد عدة أيام فقط من الإضراب العام الذي نظمته الجبهة الإسلامية للإنقاذ احتجاجا على إعادة الحكومة للتصويت في الانتخابات التشريعية[10].
غير أن هذه الإستراتيجية المتمثلة في استخدام الصوفية لتجنب الصراع لم تحقق الثمرة المرجوة منها حيث شهدت البلاد موجة عنف هائلة امتدت لفترة عشر سنوات آثرت خلالها الزوايا الصمت ولم يكن لها دور يذكر ولم تظهر الزوايا مرة أخرى على الساحة السياسية إلا بعد تقلد الرئيس بوتفليقة للحكم في 1999 وانتهاء الحرب الأهلية في البلاد.
دعم صلاحيات بوتفليقة فوق الرئاسية
منذ إعلان حالة الطوارئ في 1992 عقب حظر الجبهة الإسلامية للإنقاذ، فُرضت قيود هائلة على حريات الأحزاب بما يصب في مصلحة الجيش واحتكار الخدمات السرية على الدولة فقط. وفي إطار سياق عجزت فيه المؤسسات الضعيفة عن ضمان تلقي نفس المعاملة أو التمثيل الحقيقي لدى المجتمع، كان هناك تبادل واضح للمصالح بين الرئيس بوتفليقة والزوايا. وعندما بدأ أول فترة من حكمه، آثر بوتفليقة أن يُخرج نفسه من حالة الصراع بين الجيش وأحزاب المعارضة من خلال تدشين شبكات المجتمع المدني الخاصة به، وخاصة السعي للحصول على الدعم والشرعية من جانب الزوايا حيث قام بوتفليقة أثناء الحملات الرئاسية لفترة حكمه الثانية في 2004 والثالثة في 2009، بزيارة الزوايا لكي تحل عليه بركة شيوخ الصوفية المحليين.
ومن جانبها ساندت الزوايا والطرق الرئيس بوتفليقة بشكل هائل عندما أمر بتعديل الدستور في 2008 ومن ثم حكم البلاد لفترة ثالثة. حيث أنه وفي أثناء الانتخابات الرئاسية في 2009، ساندت الطريقة التيجانية والطريقة القادرية وزاوية سيدي شيخ والرحمانية ومشيخة سيدي سالم والاتحاد الوطني للزوايا الجزائرية بكل صراحة ترشح بوتفليقة وعقدوا اجتماعات لدعمه، علاوة على التحدث إلى وسائل الإعلام المختلفة.
حاولت الزوايا من خلال دعم بوتفليقة أن تحافظ على الوضع السياسي الذي أيد إعادة ظهورهم مرة أخرى على الساحة. وحيث أنه تم القضاء على الأحزاب وباتت بلا جوهر تقريبا، لا يستطيع أحد أن يلوم على الزوايا والطرق موقفها المؤيد لبوتفليقة ليس كمرشح رئاسي فحسب، بل كرئيس للجزائر؛ خاصة بعد أن قدم نفسه كمرشح مستقل.
وبسبب تأييدها للصلاحيات والسلطات فوق الرئاسية، التي يمارسها بوتفليقة كحكم على جميع الفصائل السياسية الأخرى، لم تجد الطرق والزوايا غضاضة في اتباع شعارهم الذي يقضي بعدم الاعتماد على الأحزاب أو الأنظمة والتوجه إلى الرئيس فقط، وجاءت بعض تبريرات اختيار بوتفليقة – وإن كانت لا تغير كثيرا من واقع الحياة السياسية – على لسان قادة الطرق والزوايا مثل ما صدر عن رئيس الاتحاد الوطني للزوايا الجزائرية حين أكد على «إنجازات … الأخ عبد العزيز بوتفليقة، ذلك الشخص الذي كرس حياته للوطن…(كان) بمثابة الوالد المؤسس والمقاتل المخلص»[11]. وبالمثل قال شيخ الطريقة الهبرية أنه : «دعم الإنسان المتواضع، والتواضع جزء من التقاليد الصوفية، لأن الصوفي يعتقد أن القوة لله وحده دون غيره».
وفي المقابل غلب على التأييد الذي لاقته الزوايا الطبيعة الربائنية أكثر منها أن تكون مشاركة في هيكل السلطة المؤسسي، وهو الأمر الذي لا تسعى إليه الزوايا على أي حال. وفي ظل الشراكة الرسمية للرئيس، قامت الزوايا بفرض شرعيتها ونفوذها محليا من خلال حشد المؤسسات الخيرية والترفيهية التي تتواصل معها وكذلك قنوات اتصالها بالقبائل المحلية.
ولأن اختيار الرئيس ودعمه كان أمرا مجمعا عليه في انتخابات 2009، أمَّنت الزوايا مريديها من التعرض لأي حساسية سياسية حيث أن الحواجز الأيديولوجية للأحزاب لا تمثل لها أي عائق على الإطلاق. إلا أنه ما زالت الزوايا تجد صعوبة في الإقرار بالمساعدات المالية على اختلاف أنواعها والتي تتلقاها منذ دعمهم للرئيس بوتفليقة حيث يتم تقديم منح الدولة والتبرعات الخاصة غير الرسمية من قبل ممثلي الدولة لقيادات الطرق الصوفية دعما لأنشطتهم الاجتماعية التي تتناول الفقراء والشباب كما استفادت الشركات المحلية المقربة من القيادات الصوفية كثيرا من العقود العامة، بالإضافة إلى قيام وزارة الإسكان والتعمير بتدشين برنامج هام يعني بتجديد مقرات الزوايا.
وفي دعوى قضائية تم رفعها في 2007، تم اتهام قوعيش قدور، مستشار الرئيس السابق ورئيس الجمعية الوطنية للزوايا الجزائرية منذ 1992، بالتلاعب بالمال العام وإبرام صفقات مشبوهة بين الشركات الأجنبية والوزارات الجزائرية المختلفة[12]، فقد تعتبر هذه الطريقة هي الذي تتبعها الزوايا حاليا في الاعتماد على موارد الدولة التي يمكن أن تُعتبر أداة بديلة لتأمين الأموال كما أنه ومن ناحية أخرى تم تقليل المساهمات المالية التقليدية للفقراء والمساكين، والتي كانت تعتمد عليها الزوايا للقيام بدورها في إعادة التوزيع الاجتماعي، كما أصبحت الدولة هي من يتولى جمع الزكاة بصورة مباشرة في الوقت الحالي.
قناة جديدة للوجود السياسي
عادة لا تشارك الطرق الصوفية بالرأي ولا تظهر على الساحة في وقت الأزمات إلا بغرض تأييد حكام الدول حيث تعتمد هذه الطرق- لتوسيع نطاق نفوذها وتعبئة المزيد من الأتباع والمريدين وزيادة القبول لدى الجماهير-على الأساليب غير الحوارية والتي لا تتضمن أنشطة سياسية أو مذهبية في احتفالها بهويتها الإسلامية والترويج لأفكارها . وفي الآونة الأخيرة، نظمت قيادات الصوفية في الجزائر بالمشاركة مع مؤسسات الدولة العديد من المؤتمرات والندوات والفعاليات الفنية والتي حاولوا فيها شرح ماهية الصوفية وكيف أنها هي الحل لمواكبة التغيرات العالمية والمشكلات الاجتماعية الوطنية.
وعادة ما تكون الاحتفالات التي تجمع أتباع الزوايا والطرق الصوفية على اختلاف دوائرهم المحلية احتفالات دينية بحتة مثل الاحتفال بالمولد النبوي الشريف. وبالإضافة إلى تلك المظاهر التقليدية، يتم تنظيم مواجهات صوفية جديدة في الوقت الحالي غير أن الموضوعات المطروحة لا تتعلق فقط بالممارسات الدينية، بل بالقضايا المعاصرة؛ مثل البيئة ومكافحة المخدرات، وظهور الإسلام المتطرف، والحوار بين الحضارات. التأكيد على الصوفية لا على أساس المعايير الدينية بل على أساس كونها ثقافة سلام وموسيقى وحركات راقصة يعمل على تمكين الزوايا من مواجهة المشاركة المتدنية في الطقوس والشعائر وخاصة بين الشباب والمسلمين الذين يهتمون بالصوفية، ولكنهم يرفضون تسلسل المشيخة والتقارب بين الطرق المختلفة.
وأصبحت هذه الاحتفالات الواسعة التي تقيمها الصوفية لحظات فارقة بالنسبة للزوايا تجمع خلالها الموارد المالية والتبرعات المؤسسية. أحيانا تُفرض رسوم للدخول أو يُطالب الأتباع بدفع أي مساهمات مالية مساعدةً منهم في تنظيم المهرجانات غير أنها في معظم الأوقات يتم تمويلها مباشرة من قبل مؤسسات الدولة مثل وزارات الثقافة أو الشؤون الإسلامية ويأتي تنظيم مثل هذه الفعاليات تحت رعاية الرئيس مؤشرا لتوجه الدولة في إعادة طرح الصوفية من جديد كجزء من الهوية الوطنية، بجانب أن ذلك يساهم في إعادة ظهور الصوفية كعامل حاسم في الأجندة الشاملة.
الحديث الدائم عن الثقافة والحوار بين الحضارات[13]، وتجنب طرح موضوعات صراع القوى بين الشمال والإسلام كما يفعل الإسلاميون مما يفسح المجال أمام الصوفية والدولة لجذب صانعي السياسات والصحفيين وأساتذة الجامعات الأوروبيين، فيبدون استحسانهم للصوفية (والجزائر) ويشيدون بدورها كحلقة وصل بين الغرب والعالم الإسلامي، وقد أدى تبني ثقافة السلام والحوار إلى قيام بعض المؤسسات العالمية برعاية تلك الفعاليات، وعلى رأسها منظمة اليونسكو ومجلس أوروبا، بالإضافة إلى حرص الممثلين الرسميين للدول الأوروبية على حضور تلك الفعاليات.
وقد يعتبر الترويج للدور العالمي لقادة الطرق الصوفية أداة من أدوات السياسة الخارجية للبلاد، وفي مثال حي يعكس إستراتيجية كل من الجزائر والمغرب في جعل الصوفية مركزا لأهداف السياسة الخارجية فقد نشأ نزاع بين الجزائر والمغرب حول زعامة الزاوية التيجانية كون مؤسسها السيد أحمد التيجاني من مواليد الجزائر، وتُوفي في مدينة فاس بالمغرب، حيث يأتي الآلاف من إفريقيا السوداء كل عام لزيارة المقر الأم لزاوية التيجانية في مدينة فاس بالمغرب ويقوم الكثير منهم بدراسة العلوم الإسلامية في المغرب.
وفي المقابل يتوقع الملك تلقي الدعم فيما يخص قضية الصحراء الغربية وبالفعل فإن شيوخ الطرق كانوا يتدخلون على فترات منتظمة لإقناع بعض الدول مثل نيجيريا أو السنغال بعدم الاعتراف بالجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية. وفي إطار الذكرى المئوية الثانية لوفاة السيد أحمد التيجاني في يوليو 2007، اجتمع ما يقرب من 1400 عالم من علماء الصوفية من أكثر من 40 دولة[14] لمدة ثلاثة أيام في مدينة فاس تحت رعاية محمد السادس، وقد شارك الملك حتى في التنظيم الداخلي للتيجانية كما أُصدر ولأول مرة ظهير ملكي (مرسوم يصدره ملك المغرب) بتعيين الشيخ الحالي للتيجانية (وكذلك قائد الطريقة القطانية لإنهاء النزاع الذي كان قائما على الخلافة) ليحل هذا التعيين محل التعيين المعتاد قبل ذلك والذي كان يتم من خلال الإجماع (اتفاق بين القيادات التي تحلم هي الأخرى بالخلافة). وقد اعتُبر هذا الإجماع محاولة من محمد السادس لإرسال رسالة قوية إلى الجزائر بخصوص ملكية المغرب للطريقة والتي كانت حريصة هي الأخرى على الحصول على دعم الطريقة.
وفي نوفمبر(تشرين الثاني) 2006، أقامت وزارة الشؤون الدينية أول مؤتمر دولي للتيجانية تحت رعايتها، والذي تجمعت فيه الحركات الصوفية من أكثر من 40 دولة مختلفة كما شجع الرئيس بوتفليقة أيضا مجال البحث في العلوم الاجتماعية حول الصوفية في الجزائر؛ مثل المؤتمر الدولي المتنقل الذي يتم تنظيمه كل عام حول «الصوفية والثقافة والموسيقى» والذي تنظمه مراكز البحوث ويجتمع فيه كل مرة أكثر من أربعين عالما من علماء الاجتماع المعروفين وأعضاء أكبر الطرق الصوفية في الجزائر.
وتمثل هذه الفعاليات أيضا أرضا خصبة بالنسبة للرئيس يمكنه من خلالها تعزيز البعد الإقليمي لعلاقته مع قيادات الصوفية، وخصوصاً مع الموجودين منهم في مسقط رأسه في المنطقة الغربية من الجزائر. وقد يكون الاهتمام المتزايد بالطريقة العلوية بقيادة الشيخ بن تونس أحد الدلالات المهمة على ذلك.
ففي 2003 قام الرئيس بإعادة أملاك الطريقة العلوية التي تمت مصادرتها منها على يد النظام الذي سبقه أثناء فترة السبعينيات من القرن العشرين. وفي 2009 تم تنظيم الاحتفال بالمئوية الثانية للطريقة تحت رعاية الرئيس. وقد بدأت فعاليات الاحتفال بكلمة ألقاها وزير الشؤون الإسلامية، بو عبد الله غلام الله، وأشار فيها إلى «أنه يجب على الدولة الحفاظ على تراث الطريقة العلوية وتعزيز دورها في تعليم الشباب[15]». وقد بدأت المهرجانات في يناير(كانون) 2009، بانطلاق «قافلة الأمل» من الجزائر ومرت بـ30 دولة مختلفة قبل الوصول إلى المستغانم لعقد المؤتمر النهائي هنالك، ومن ثم تابعت القافلة نشاطها من خلال ثلاث مراحل مختلفة كانت تهدف من ورائها إلى عرض الأنشطة الفنية والثقافية والروحية لقيادات الطرق الصوفية وتعزيز السلام، وتوفير بيئة حوار خصبة مع غيرها من الزوايا والجمعيات والبلديات الموجودة بالجزائر.
وبعد انتهاء قافلة الأمل، تم عقد مؤتمر استغرق سبعة أيام في يوليو 2009 بهدف إلقاء الضوء على المساهمات الروحية للطريقة العلوية في الهوية الجزائرية، بالإضافة إلى العديد من الموضوعات الأخرى مثل التسامح والعولمة والتعايش السلمي مع الآخر. هذا وقد حضر المؤتمر العديد من علماء الصوفية وأساتذة الجامعات من أكثر من 35 دولة مختلفة، بما فيهم الشيخة نور، المرأة الوحيدة التي تترأس إحدى الطرق الصوفية[16].
وبالإضافة إلى رعاية الدولة للفعاليات والمؤتمرات متمثلة في الرئيس ووزارة الثقافة ووزارة الشؤون الإسلامية ووزارة الطاقة والتعدين وولاية وبلدية المستغانم وبلدية باريس، تتضمن الرعاية أيضا العديد من شركات القطاع العام الجزائرية مثل الخطوط الجوية الجزائرية واتصالات الجزائر وشركة جراند ترافو بترولي، علاوة على العديد من الشركات المحلية الخاصة، بالإضافة إلى مؤسسة «ألف» المملوكة للطريقة والمعنية بإنتاج البرمجيات الإسلامية، وجميعها يملك قدرات هائلة في الترويج للطريقة العلوية.
الإسلام على طريقة الدولة ومواجهة المجتمع المدني
لاقت الزوايا ترحيبا بالغاً، منذ نهاية فترة التسعينيات من القرن العشرين، بين الأفراد الذين يرغبون في عدم المواجهة مع الآخرين باسم الإسلام بعد المعاناة لما يزيد عن عشر سنوات من الحرب الأهلية[17]. ولذا فقد اعتمد الرئيس بوتفليقة بشكل كبير على الأصول الروحية الصوفية من أجل تنفيذ سياساته الخاصة بالتوافق الوطني والتي أعلن عنها في 1999، والتي أصدر بموجبها عفوا عاما عن جميع الجرائم التي تم ارتكابها سواء من قبل القوات الأمنية أو من قبل الجماعات المتطرفة. كما شجع الرئيس أيضا قيادات وشيوخ الزوايا على دعوة أتباعها لدعم إجراءات العفو المذكور. كما دعا أيضا وزير الشؤون الإسلامية الطوائف الصوفية للاعتراف «بضرورة تسليط الضوء على أهمية التوافق والائتلاف»، ومن ثم بدأت الزوايا حملة توعوية تتمثل في عقد العديد من الندوات والفعاليات الدينية والتي تهدف في المقام الأول إلى إقناع الجزائريين بقبول فكرة التوافق.
كذلك تقوم الزوايا – من خلال الاتهام المستمر للحركة السلفية الوهابية وتعزيز مشروع السلام والتوافق بعد انتهاء الحرب الأهلية – بإعادة الصورة الطبيعية للصوفية وإعادة تأهيلها على أنها الوجه الحقيقي للإسلام في الجزائر. حيث يتم تقديم الأمير عبد القادر حاليا على أنه أحد قادة الصوفية، وهو الذي طالما قدمته جبهة التحرير الوطني على أنه رمز من رموز مقاومة الاستعمار. وقد بدأت السلطات الصوفية تدريجيا في تولي الأنشطة المنوطة بوزارة الشؤون الإسلامية، والتي كان يتولاها جمعية العلماء ذات التوجه الإصلاحي السلفي والتي كانت تمثل رمزا لثورة الاستقلال في الجزائر.
يظهر شيوخ الصوفية الآن بشكل منتظم من خلال البرامج الدينية التي تذاع عبر الراديو أو التليفزيون الجزائري وخاصة خلال شهر رمضان المبارك الدروس المحمدية والتي يتم تنظيمها في وهران أثناء شهر رمضان بواسطة الزاوية الهبرية البلقادية تحت رعاية الرئيس بوتفليقة؛ وقد تم إقرارها لأول مرة في 2006 من قبل رئيس الوزراء آنذاك عبد العزيز بلخادم على أن تكون الملتقى السنوي الجديد للعلماء المحليين والأجانب في الجزائر.
وفي أعقاب مؤتمر الطريقة العلوية في 2009 الذي تناولناه آنفا بالتفصيل، استنكر المجلس الإسلامي الأعلى إصدار الشيخ خالد بن تونس كتابا تضمن تصويراً وتجسيداً للرسول، صلى الله عليه وسلم، ومن ثم تدخل الرئيس على الملأ ورفض إجراء مناظرة وأعلنت جمعية العلماء المسلمين أخيرا أن ما حدث لم يتخطَّ حد الملاحظات الودية. وبنفس الروح دعت الجمعية الوطنية للزوايا الجزائرية في 2007 إلى تأسيس «المؤسسة العليا» لإصدار الفتاوى على أن تخضع للإشراف المباشر من قبل رئاسة الجمهورية ربما في محاولة منها لتهميش دور المصلحين من علماء دار الإفتاء الحالية[18].
وبالفعل فبعد بدء الجمعية الوطنية للزوايا الجزائرية في عرض فكرة ضرورة اعتراف الدولة الرسمي بدبلومات العلوم الإسلامية المقدمة من قبل الزوايا كانت تقوم قيادات الصوفية وبشكل منتظم بدعم الحملة الرئاسية ضد حركات التبشير التي تظهر في البلاد بين الحين والآخر.
تنادي الزوايا بشكل مستمر بضرورة الاعتراف بها كأركان أساسية مكونة للمجتمع المدني في ما يتعلق بحل النزاعات الاجتماعية. وفي الحقيقة فإنه من الصعب تقييم مدى نجاحها في تلك المهمة بالإضافة إلى توجهاتها بخصوص السلام والتفاهم المشترك. وبالتأكيد فإنها تمثل مصدر قوة بالنسبة للحكومة الجزائرية والتي تواجه أزمة هائلة حول شرعيتها بين أفراد الشعب الجزائري بسبب عجزها عن توفير الخدمات الأساسية (مثل الطرق والمواصلات والتعليم والتوظيف والصحة، وما إلى ذلك) ومنع التهديدات الإرهابية المستمرة.
لكن لا يبدو أن الزوايا قد نجحت في تهدئة ما يزيد عن 1000 حالة ما بين أعمال شغب اجتماعي ومظاهرات وإضرابات والتي اجتاحت البلاد في 2009 احتجاجا على التدني والتدهور الذي وصلت إليه ظروف المعيشة علاوة على الفساد الذي استشرى في الحكومة، ناهيك عن البطالة والأحوال الاقتصادية.
كما تصاعدت في نفس الوقت انتقادات الفقراء المحليين التي تتهم الشيوخ بانشغالهم التام بتأمين علاقاتهم المميزة مع النخبة الحاكمة في الوقت الذي ينسون فيه مسؤولياتهم المحلية الحقيقية.
وحتى داخليا وعلى الرغم من تأييد المشاركة الجماهيرية فقد واجهت الزوايا صعوبات بالغة في إرساء الديمقراطية فيما يتعلق بقيادة وزعامة الزوايا، حيث فضلت الاستمرار بنفس الطريقة من توريث الزعامة لسلالة قائد الزاوية وتناقل المسؤوليات والمميزات بين أفراد العائلة (المشيخة) على أعلى مستوى. الأمر الذي أدى إلى اندلاع الخلاف في 2008 بين فصيلين من داخل الجمعية الوطنية للزوايا (بدر الدين أصدر شريطاً يتهم فيه قدور قوعيش بالاستيلاء على السلطة والتفرد بها منذ 1992)، مما حدا بهم إلى التقدم مباشرة وعلى وجه التحديد إلى الرئيس يطالبونه بتعيين القائد، في إشارة إلى أن الزوايا تواجه صعوبات بالغة في الاعتماد بشكل أساسي على المجتمع المدني من أجل ضمان شرعيتها.
وقد أدى ذلك إلى قيام بعض نقاد المجتمع المدني عن استيائهم من اعتماد الزوايا على السلطة فوق الرئاسية التي يتمتع بها الرئيس دون المؤسسات السياسية والآليات الديمقراطية، حيث تساهم بذلك معظم الزوايا في التقليل من شأن منظمات المجتمع المدني وشرعية الدولة.
فعلى سبيل المثال، حذرت الجمعية الجزائرية لحقوق الإنسان مؤخرا أنه «عندما (يستغل) ولي من الأولياء أو وزير من الوزراء الزوايا كعامل أساسي في حل أي أزمة تنشأ في المجتمع، فإنه بذلك يرتكب سلسلة من الأخطاء السياسية والقانونية … إذ إنه يقر بذلك أن المؤسسات الرسمية عبارة عن كيانات غير فعالة في المجتمع، الأمر الذي يدعو إلى التساؤل عن مدى شرعية وسلطات الحكومة[19].
وعلاوة على ذلك، يرى البعض أن استخدام الزوايا على النحو الملاحظ مؤخرا لدعم وتعزيز سياسات الدولة أمر غير قانوني بالمرة، ويخالف المادة (11) من قانون المؤسسات الذي يمنع المؤسسات التطوعية وغير السياسية من أن يكون لها أي علاقة بأي مؤسسة ذات طابع سياسي، كما أنه لا يجوز لتلك المؤسسات بموجب نفس القانون أن تقبل أي شكل من أشكال المنح أو العطايا أيا كان السبب أو المشاركة في تمويلها»[20].
في الواقع، فقد كانت الزوايا في بعض الأحيان ضحايا لحالة الغموض الذي تكتنف علاقتها بوزارة الشؤون الإسلامية من جهة وبالسلطات السياسية للدولة من جهة أخرى. وإذا كانت الجمعية الوطنية للزوايا قد نالت عطايا الرئيس بوتفليقة وكانت حتى وقت قريب خاضعة لوزارة الشؤون الإسلامية، فقد تم إنشاء الاتحاد الوطني للزوايا الجزائرية في 2003 تحت رئاسة محمد غلال وإشراف وزارة التضامن الوطني (والمنوط بها كذلك متابعة عملية التوافق). وعلى الرغم من تأييد الاتحاد الوطني للزوايا الجزائرية دائما للرئيس بوتفليقة، إلا أنه قام في 2006 بتعيين أحمد بن بلة – أول رئيس للجزائر عقب الاستقلال – رئيسا شرفيا للاتحاد. وعندما كانت هناك شكوك في 2008 بالتردد في دعم وقبول التعديلات الدستورية واتباع مشورة بعض القيادات العامة في الجيش، مُنع الاتحاد الوطني بكل بساطة من إقامة اجتماعه السنوي.
البحث عن الإسلام المعتدل ما يخالف السياسة
يكشف لنا إعادة ظهور الصوفية على صعيد المشهد السياسي في الجزائر أنه قد يكون من الضروري أن نعيد تحديد القراءات التقليدية لدور الدين في السياسات في ظل وجود عوامل دينية؛ وقوى مجتمع مدني مع الوضع في الاعتبار حالة عجز الهياكل الحزبية السياسية التقليدية، والتي تبحث عن طرق جديدة للمشاركة في الحياة السياسية. وفي الحقيقة لا تعد الحركات الصوفية من النوع الذي لا يميل إلى السياسية ككل، بل تتمتع الصوفية بمفاهيم خاصة بها حول السياسة، ويدعمها السياق الحالي للحالة السياسية حيث فقدت الأحزاب قدرتها على الإصلاح.
وفي محاولة منها لمساعدة الدول في دعم شرعيتها فقد أخذت الطرق الصوفية حاليا في مهاجمة السلفيين وحاولت تهدئة المحتجين من المجتمع المدني، ويجب على الأنظمة الجزائرية والشركاء الدوليين إدراك ما يروج للطرق الصوفية على أنها المروج الجديد للإسلام المعتدل والديمقراطي.
الجدير بالذكر أن الأنظمة قامت بدعم الجماعات الإسلامية في الماضي كقوى موازنة للحركات والتوجهات العلمانية واليسارية في 1970، لتكتشف أن الجماعات الإسلامية نفسها أخذت منحًى خاصا بها بعد ذلك حيث ازدادت في العدد واشتدت حماستها وصارت تشكل تحديات خطيرة بالنسبة للحكومة. ويجب على الجزائر أن تأخذ حذرها هذه المرة وألا تتسبب في خلق موقف مماثل عن طريق تعزيز ودعم الطرق الصوفية وعدم قبول غيرها حيث أنه لا بد أن يكون دعم الصوفية من منطلق كونها «حليفا» أيديولوجيا، وليس من منطلق رغبة حقيقية في فتح مجال التمثيل السياسي وتحقيق التعددية في أرض الواقع، بما في ذلك بالنسبة للصوفية أنفسهم. حيث أن قيادات الصوفية لا تتبنى المعايير الدينية والسياسية التي تتفق مع توجهات الدولة إلا لأنها هي المهيمنة على الساحة في الوقت الحالي، لأن هذا الأمر يمثل قضية وجود من عدمه بالنسبة إليهم، وليس لأنهم جزء من مشروع متكامل جديد للمجتمع مما يظهر حالة عدم الاستقرار في اختيارات الحركات الاجتماعية في هذه السياقات.
كما أن المشاركة الظاهرية لقوى المجتمع المدني، مثل قيادات الصوفية في الحياة السياسية، تعني التقليل من شأن قدرات تلك القوى فيما يتعلق بالاستجابة للطلبات الاجتماعية على المدى الطويل. علاوة على ذلك، فإن تقديم الحركات الصوفية، كقوى ضغط سياسي على غيرها من الأحزاب السياسية، إستراتيجية سرعان ما سيتوقف عند حدود معينة، لأنه يستحيل عملياً أن تقدم تلك الحركات الصوفية أية إضافات جديدة سواء اجتماعية أو تعليمية في السياق الحالي.
وفي الإطار نفسه تؤدي إستراتيجيات الصوفية العازفة عن السياسة هذه إلى إغراء صانعي القرار الأجانب الذين هم على وشك إدراك مدى تهميش الأطراف السياسية في إصلاح الحكم الحالي في المنطقة. هذا وقد لعب صانعوا القرار الأوربيون دورا هاما في دعم الصوفية بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، حيث عمدوا إلى البحث عن أساليب جديدة للحد من نفوذ الجماعات التابعة لتنظيم القاعدة أو ما يطلقون عليه مسمى «المسلمون المتطرفون» مثل الجماعة المرتبطة بالحركة الوهابية. وقد دعم صانعوا القرار الأمريكيون على وجه الخصوص الأحزاب الإسلامية وشجعوهم على المشاركة في الانتخابات.
لكن بسبب كون التعددية ما زالت صعبة المنال بالنسبة إليهم، فقد ظل صانعوا القرار الأجانب متخوفين من إمكانية ظهور ملامح التطرف بين الأحزاب الإسلامية، وتابعوا بحثهم عن عناصر جديدة يمكنها تحقيق التحول الديمقراطي في المنطقة. وفي إطار سعيهم وراء خلق لون جديد من الإسلام يتماشى مع قيم الديمقراطية المتحررة، يتوجه حاليا الكثير من أساتذة الجامعات وصناع القرار في واشنطن إلى استخدام الحركات الصوفية، وتقديمها في صورة حلفاء ديمقراطيين جدد في العالم العربي.وقامت العناصر الأمريكية على وجه الخصوص بمضاعفة مبادرات الدعم العامة وإقامة المؤتمرات التي تناقش دور قيادات الصوفية المحتمل في ترسيخ الديمقراطية.
على الرغم أن هذه الإستراتيجيات تفتقد إلى بيان كيفية تأثير دعم الصوفية على حساب انفتاح النظام وقبوله للجماعات الدينية والسياسية الأخرى في التعددية والحريات الدينية والمدنية، والمساحة المشتركة بين الجميع برعاية الصوفية
[1] باحثة واكاديمية جزائرية بمركز كارنيجي للدراسات.
[2] يستخدم مصطلح «الزاوية» كمرادف لمقرات الطرق الدينية الصوفية التي يتم إنشاؤها حول مقام ولي من الأولياء. ويتم نسبة الطريقة إلى مؤسسها؛ فعلى سبيل المثال، فإن الطريقة المتبعة لتعاليم شخص يدعى «التيجاني» تسمى الطريقة التيجانية، وهكذا. ويتم إقامة الزوايا غالبا حيث دُفن الولي، وتصير مقصدا للزيارة من قبل المريدين.ففي حال قام حوالي 20% فقط من الجزائريين والمغاربة بزيارة الزوايا من أجل ممارسة أنشطتهم الدينية أو الاجتماعية أو التعليمية المختلفة، فإن هذه الزوايا يمكنها أن توحد قرى كاملة أثناء الاحتفالات الثقافية أو الدينية مثل الاحتفال بمولد النبي أو أن تهدئ من حدة الخلافات الداخلية. والكثير من الزوايا لديه ثروات كبيرة نتيجة للصدقات التي تتقبلها (سواء الزكاة المفروضة أو الصدقات المندوب إليها) والتي يُفترض من هذه الزوايا أن تقوم بإعادة توزيعها على الفقراء. يطلق على أتباع الصوفية «المريدين» (ومفردها «مريد، إلا أن الاستخدام الشائع في المغرب هو «فقير» و»فقراء»).
وتركز صوفية الطرق على الشعائر الروحية مثل «ذكر الأسماء الإلهية» و»الحضرة» (ويطلق عليها في المغرب «عمارة») – «التوسل بأسماء الله» و «الذكر الإيقاعي» – تحت قيادة زعيم الطريقة (الشيخ، وجمعها «شيوخ»)، وممثله (ويطلق عليه «مرشد» أو «مقدم»)، وكذلك السماع (وهي الأغاني الدينية). ومن معتقدات الصوفية أيضا الإيمان بالرؤى والكرامة والسر والخلوة. يذهب الناس إلى الزوايا من أجل تحصيل البركة من الأولياء الذين يسألونهم أن يتوسطوا بينهم وبين الله. ودائما ما يتم إنكار ذلك التأكيد المستمر على قدسية مقامات الأولياء وعقيدة السر من قبل جمعية علماء المسلمين وغيرهم من الجماعات الإسلامية التي تصف هذه الممارسات بأنها ممارسات شركية. ومع أن الكثيرين من المغاربة لا يعتبرون أنفسهم صوفية، إلا أن الصوفية تبقى مهمة في جانب التكوين الثقافي للبلاد. ويُعتبر ورثة الولي من طبقة أعلى من غيرهم (المرابطين أو الشرفاء) حيث أنهم يصلون بسلسلة أنسابهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم
إن تعدد جنسيات الطرق الصوفية الموجودة بالمغرب (حيث ترجع أصول بعضها إلى العالم العربي ككل، أو إلى إفريقيا السوداء، أو الصين أو تركيا أو إيران وأوروبا)، يضيف إليها المزيد من القوة والنفوذ. وتشمل الطرق الرئيسية في بلاد المغرب الجازولية والعيساوية والشرقاوية والوزانية والدرقاوية والتيجانية والقادرية البودشيشية. ولأهميتها فإنها تقع في المناطق الحيوية التجارية مثل بركان وفاس. أما في الجزائر فتشمل أهم الطرق الصوفية الرحمانية والقادرية الشاذلية والسنوسية والتيجانية والهبرية والعيساوية والعلوية والدرقاوية.
[3] شانفي أحمد، إحياء الصوفية الإسلامية، تراث العلوم الاجتماعية الدينية، العدد 135 (2006).
[4] جورج جوف، اقتباس بواسطة لامين شيكي، الجزائر ترعى الصوفية لتحارب التطرف، رويترز المملكة المتحدة في 8 يوليو 2009.
[5] بايا جاسمي، الشبكات في الجزائر، لو اكسبريس 28 فبراير 2005.
[6] الخبر 13 من مارس 2008.
[7] إي. نيفو «الإخوان المسلمون في الجزائر، باريس. طبعة غويو، دار King للطباعة والنشر 1845.
[8] لودميلا هانيش، رفض الصوفية كحاجز أمام العقل – مساهمة في توسع التوجهات الإصلاحية الجزائرية 1925-1939
The Maghreb Review أو «نظرة على بلاد المغرب»، المجلد 11، 5-6 (1986): 102-6.
[9] إسماعيل حاج علي، الجزائر: الندوة الأولى للزوايا، في المغرب والمشرق العربي – يناير- مارس 1992 ص53-67.
[10] المرجع السابق.
[11] http://www.elmouwatan.com/1/3528.html
[12] انظر http://www.elwatan.com/Affaire-de-Gouaiche-Kadour
[13] لتقييم الأسلوب الذي يتعامل به الاتحاد الأوروبي مع المسلمين من خلال حوار الثقافات، يمكن الرجوع أيضا إلى:
Burgat le dialogue des cultures une vraie fausse réponse à l’autoritarisme in Autoritarismes démocratiques et démocraties autoritaires – – Convergences Nord- Sud,, Olivier Dabène, Vincent Geisser, Gilles Massardier, Michel Camau (dir.) (Ed.) (2008- 233-248)
[14] زكية عبد النبي، عندما تواجه الروحانية التطرف، التراث الصوفي يعزز العلاقات الإفريقية»، نورث أفريقا تايمز (الأحد 16-22 سبتمبر 2007).
[15] فيلا بوردجي، «الجزائر: الاحتفال بالمئوية الثانية للطريقة العلوية»، لا تريبون (31 يناير 2009)
http://fr.allafrica.com/stories/200901310029.html
[16] مصطفى بن فضيل، الأوقات السياسية والصوفية لسيدي بوتفليقة، الوطن (21 مارس 2009).
http://www.algeriawatch.org/fr/article/pol/bouteflika_3/mystique_politique.htm.
[17] للمزيد حول أهمية الإجماع في سياسات مرحلة ما بعد الخلاف، انظر جوديث شيل، إعادة تدوير البركة: المعرفة والسياسات والدين في الجزائر المعاصرة، دراسات مقارنة في المجتمع والتاريخ(2007) 49(2): 304-328، ص307 وسوزي أندزيان، التجارب الدينية في الجزائر المعاصرة. أتباع الأولياء في إقليم تلمسان، باريس، الطبعات CNRS 2001.
[18] دعوة الجمعية الوطنية للزوايا الجزائرية أثناء عقد اجتماعها الثاني في 2002 إلى إنشاء «المؤسسة العليا» للفتوى على أن تخضع لإشراف رئاسة الجمهورية»
http://www.elwatan.com/Association-des-zaouias-d-Algerie
[19] عابد شريف، القبلية والجمهورية، لو كوتيديان دوران (21 أغسطس 2008).
http://www.algeria-watch.org/fr/article/tribune/tribu_republique.htm.
[20] مجيد ماكيدي، المال والسياسة وامتهان القانون، الوطن (9 مارس 2009).