تعددت أسباب القتل والاغتيال، قتلى الحروب والمعارك والمواجهات، والنِّزاع على السُّلطة، أو ما يتعلق بالثَّأر، والدِّفاع عن النَّفس، والعِرض، والمال، ومَن قُتلوا بيد اللُّصوص ليسوا قليلين، أو القتل العمد والخطأ، وكلّ ما يتعلق بقتل الإنسان للإنسان، وقتل الإنسان لنفسه، منتحرًا أو انتحاريًّا، أفرادًا وجماعات، ومنه القتل والاغتيال السِّياسي، لأخذ أو اغتصاب المركز، مِن مَلكٍ أو وزير، والدِّفاع عنه، وربَّما يكون السَّبب الأخير القتل الأوسع شهرةً، الأكثر عددًا في الضَّحايا، سواء كانت النِّزاعات على السُّلطة، المهدورة بسببها دماء الآباء([1]) والإخوان([2]) والأبناء([3])، أو قتل المعارضين والخصوم السِّياسيين.
تتفرد السُّلطة عادةً بالقتل، فهذا حاكم خراسان السُّلجوقي الملك العادل سره عندما لُقب العام (540هـ/1145م) بـ«مالك رقاب الأمم»([4])، ولكم ما يعني هذا اللَّقب مِن استحواذ على الدِّماء والأرواح. ناهيك عن تصفيات الأحزاب للأحزاب والجماعات للجماعات بعضها بعضًا.
ما يخصّ القتل السّياسيّ، وتفرد السُّلطة بالقتل، نجد عند عمرو بن بحر الجاحظ (تـ: 255هـ/ 869م)، ما يعبِّر عن أنانية السُّلطة الغاشمة حتَّى بسفك الدَّم، تحتكر وظيفة القتل لها، حتَّى قتلِ أعداء الحاكم نفسه، فلا يختص بهذا غيرها، هذا مِن حقّها فقط، لا ينافسها عليه أحد، لأنَّ ممارسته مِن قِبل غيرها، يُعدّ تجاوزًا على صلاحياتها، وأولها مُلك الرِّقاب. هذا، وبغض النَّظر عن الخيال في القصة، لكنها عكست واقعًا.
كتب الجَاحظ: «نزل مَلك الزَّابج على خليجٍ مرةً، والخليج فراسخ في فراسخ([5])، فبينما هو على مائدته، وفي سرادقه([6]) على شواطئ الخليج، إذ سمع صارخةً فقال: ما هذا؟ وقطع الأكل. قالوا: امرأةٌ سقط ابنُها في هذا الخليج، فأكله التِّمساح! قال: وفي مكان أنا فيه شيءٌ يشاركني في قتل النَّاس! ثم وثب، فإذا هو في الخليجِ. فلما رأوه النَّاس سقطوا عن آخرهم، فخضخضوه، وهو فراسخ في فراسخ، حتى أخذوا كلَّ تمساحٍ فيه أخذ يدٍ»([7]).
لا يحتاج هذا المثال إلى تفسير، وليس لنَّا اعتباره ضربًا مِن خيال الأديب، فهي تُفهم قصة واقعية، إذا ما قوبلت بحوادث لا عدة لها، جاءت بصياغة أديبٍ لا مؤرخ ولا فقيه، تمارسها ولا تتنكر لها كلّ سُلطة غاشمة، وهذا ما يشرح القتل أو الاغتيال السِّياسيّ عامةً، أو الاستبداد على رقاب النَّاس.
صُنفت كتبٌ غير قليلة في القتل والاغتيال، بأسباب شتى، سياسية أو اجتماعيَّة على اختلاف دوافعها، منها ما صُنف مفردًا في هذا الموضوع، وأبرزها مما وصلنا «أسماء المغتالين في الجاهليَّة والإسلام» لابن حبيب (تـ: 245هـ/ 859م)، و«مقاتل الطَّالبيين» لأبي فرج الأصفهانيّ (تـ: 356هـ/ 967م)، وغيرها مما أتينا على تفاصيله في «تمهيد في كتب المقاتل»، الآتي بعد المقدمة مباشرة.
لكننا نفتقر لوجود كتاب ينفرد، أو يخصّ بالقتل لأسباب دينيَّة، عدا ما جاء مبثوثًا بكثرةٍ في كُتب التَّاريخ والأحكام الفقهية، وكتب الأدب العامة، وكان هذا حافزًا لتصنيف كتابنا هذا في القتل لأسباب دينيَّة، التي قد تبدو دينيةً محضةً، لكنّ الكثير منها مبطنة بموقفٍ سياسيٍّ أو شخصيٍّ.
بدأ التَّفكير بهذا الكتاب مباشرة، بعد كشف الغطاء عمَّا قررته السُّلطة العراقيَّة ببغداد (تموز/يوليو 1963) بتطبيق الشَّريعة الإسلاميَّة؛ بفئة سياسيَّة وحزبيَّة عراقية واسعة، في حينها، وهم أعضاء وأصدقاء الحزب الشّيوعي العراقيّ (تأسس: 1934). كان العدد يربو على عشرة آلاف عراقيّ.
كشف عن ذلك القرار، والفتاوى التي صادقت عليه دينيًّا وفق الشَّريعة، الضَّابط قائد الفرقة الثَّانيَّة العميد عبد الغني الرَّاويّ (تـ: 2011)، عندما ذهب إلى فقهاء الطَّائفتين- الشِّيعة والسُّنَّة- واستحصل منهم فتاوى تهدر دماء الآلاف مِن الموقوفين والمسجونين؛ بتهمة الانتماء إلى الحزب الشّيوعي العِراقيّ، وقد أوردنا تلك الواقعة في الفصل العاشر مِن الكتاب «المقتولون جماعيًّا».
بدأتُ التَّفكير بجمع كلّ ما يتعلق بالقتل، لأسباب دينيَّة في التَّاريخ العربيّ الإسلاميّ، حتَّى يومنا هذا، ما وصلت إليه اليد، وما وقعت عليه العين وسمعته الأذن، مِن قرارات وفتاوى دينيَّة، ثم العمل على التَّحقق منها، مع الاعتراف بعدم التَّمييز، في أحيان كثيرة، وهي ليست بالقليلة، بين السّبب الدِّيني والسَّبب السِّياسيّ، فكثيرًا ما يظهر الأول مبررًا للثانيّ، ومعلوم أنَّ كلَّ خلافٍ سياسي يُعد خلعًا للبيعة السِّياسيَّة، التي عادةً تكون بالرِّقاب، وعقوبة خلعها القتل، أضاف لها الوالي الأموي على العِراق الحَجَّاج بن يوسف الثَّقفي (تـ: 95هـ/714م) إلزامًا آخر: أحدث «بيعةً غير هذه، تتضمن اليمين باللَّه تعالى، والطَّلاق، والعتاق، وصدقة المال والحَجّ»([8]).
لم يكن سبط النَّبي الحُسين بن عليّ بن أبي طالب (قُتل: 61هـ/ 680م) في حلٍّ مِن طاعة الحاكم؛ فالخروج عليه يعني الفتنة، فهذا القاضي أبو بكر محمَّد بن عبد الله بن العربي المالكي (تـ: 543هـ/1148م) يقول: «فأردنا أنْ نطهر الأرض من خمر يزيد، فأرقنا دم الحسين، فجاءتنا مصيبة لا يجبرها سرور الدَّهر، وما خرج إليه أحد إلا بتأويل، ولا قاتلوه إلا بما سمعوا مِن جَدَّه المهيمن على الرُّسل، المخبر بفساد الحال، المحذر عن الدُّخول في الفتن»([9]).
كانت تلك الفتاوى، التي صادقت وشرعت تطبيق الشّريعة بالشّيوعيين العراقيين، سببًا ودافعًا أيضًا لتصنيف الشَّيخ طه جابر العلوانيّ (تـ: 2016) كتابه «لا إكراه في الدِّين إشكالية الرِّدَّة والمرتدين مِن صدر الإسلام إلى اليوم» (صدر: 2003)، أو كانت وراء الإسراع في إصدار كتابه المذكور. كتب يقول: «ابتليتُ باستفتاء في قضية الرِّدَّة، كان مِن أخطر ما مرَّ بي في حياتي، وكان له أثر كبير في عقليتي ونفسيتي، بل وفي حياتي كلُّها، ومِن المؤسف أنَّ هذه القضية قد عرضت لي في بدء حياتي العلميَّة»([10]). بمعنى أنَّ هذه القضية غيَّرت في ذهنية الشّيخ العلوانيّ، وجعلته يبحث في ردء حكم الرِّدَّة، وتأكيد عدم شرعيته، الذي لا وجود له في كتاب القرآن([11]).
غير أنَّ القتل الدِّيني، الذي تناولناه في كتابنا هذا، له عدة أشكال، وكلُّها تأخذ معنى الرِّدَّة، مَن قُتل بسبب ادعاء النُّبوة، ومَن قُتل بسبب تهمة الازدراء والاستهزاء بعنصر دينيّ ما، أو الشَّتم والسَّبّ، ومَن قُتل لمخالفة دينيَّة، ومَن اُتُّهم بممارسة السّحر، أو لبيت مِن الشِّعر، إلى غير ذلك مِن الأسباب، جمعت بالرِّدَّة أو الكُفُر والزَّندقة كافة.
ما كنا نأتي بمَن قُتل، خارج المعارك أو الغزوات، وقضى بعملية اغتيال، قبل فتح مكة (8هـ/630م)، مِن رجال ونساء، ككعب بن الأشرف، وعصماء بنت مروان، وأم قرفة وغيرهم، لولا أنَّ حكمًا فقهيًّا بُني على حوادث قتلهم، وهو الحكم الذي يفرض على المستهزئ أو السَّاب للذات النَّبويَّة، أو الذات الإلهيَّة. لذا بهذا المعنى، يُعدُّ الذين قتلوا صبرًا(إعدام) قُبيل أو أثناء فتح مكة، مِن المقتولين لسبب دينيّ.
رأينا استهلال كتابنا هذا «صرعى العقائد»، بعد المقدمة، بتمهيد في المصادر، ومنه يتضح أنَّ الكتبَ التي جمعناها كانت في المقاتل والاغتيالات، مِن دون تحديد السَّبب، أيّ مختلفة الأسباب، ولم نجد مصدرًا يختص بالمقتولين دينيًّا، صدرت في هدر دمائهم فتاوى أو أحكام مِن القضاة بالقتل، أو قتلوا بعد تكفَّيرهم واتهامهم بالزَّندقة، والتَّجاوز على الذّوات المقدسة، خارج العقوبات التي وردت في القرآن، والخالية مثلما تقدم مِن عقوبة القتل، فالرَّجم يُعد حكمًا فقهيًّا لا قرآنيًّا([12])، ويدخل في القتل بسبب دينيّ.
صدرت فتاوى تَكفّيَّر كثيرة، بحقِّ جماعات مثل النُّصيريَّة والدُّروز وغيرهم، ولم نضفها كجماعات إلى الكتاب، والسَّبب كانت فتاوى تَكفّيَّر فقط، لم يُقدم على تنفيذها فيهم، صحيح أنَّ فتوى التَّكفّير تؤدي إلى القتل، لكن لم يحصل أنْ صدر فيهم حكم قتل، قتلوا فيه أو نجوا منه. فشيخ الإسلام أحمد بن تيمية (تـ: 728هـ/1328م) كَفَّر الدُّروز والنُّصيريين، وجعلهم بخانة الكفار. قال: «لا يحل أكل ذبائحهم ولا نكاح نسائهم؛ بل ولا يقرون بالجزية، فإنهم مرتدون عن دين الإسلام ليسوا مسلمين؛ ولا يهود ولا نصارى، لا يقرون بوجوب الصَّلوات الخمس، ولا وجوب صوم رمضان، ولا وجوب الحج، ولا تحريم ما حرم الله ورسوله من الميتة والخمر وغيرهما، وإن أظهروا الشَّهادتين مع هذه العقائد فهم كفار باتفاق المسلمين»([13]).
بل قال في الدُّروز: «زنادقة مرتدون لا تقبل توبتهم، بل يقتلون أينما ثقفوا، ويلعنون كما وصفوا، ولا يجوز استخدامهم للحراسة والبوابة والحفاظ، ويجب قتل علمائهم وصلحائهم لئلا يضلوا غيرهم، ويحرم النوم معهم في بيوتهم، ورفقتهم، والمشي معهم وتشييع جنائزهم إذا علم موتها. ويحرم على ولاة أمور المسلمين إضاعة ما أمر الله من إقامة الحدود عليهم، بأي شيء يراه المقيم لا المقام عليه»([14]). لكن لم يقتلوا بفتوى، وربما قُتل منهم من قُتل في الحروب والمعارك، ولم يصدر حُكم صريح بقتلهم مِن حاكم أو سُلطان، أو نحن لم نصل إلى مصدر يُعتد به، وهذا لا يدخل في محتوى كتابنا.
كذلك الحال لم ندرج الشِّيعة بالإحساء والقطيف، ضمن المقتولين أو النَّاجين، بعد صدور فتوى علماء نجد الوهابيين (1927)، خصت في عدة أمور، ضمنوها رسالةً إلى الملك عبد العزيز آل سعود (تـ: 1953)، ومنها عن الشِّيعة «أنْ يلزمهم البيعة على الإسلام، ويمنعهم مِن إظهار شعائر دينهم الباطل»([15]). لكنّ لم تؤخذ الفتوى كحكم لتنفيذ القتل فيهم، أو اعتبارهم مرتدين كافرين مِن قِبل الدَّولة السُّعوديّة رسميًّا حال صدورها، فالشِّيعة يحجون البيت الحرام. عمومًا، مثل هذه الفتاوى كثيرة، وصدرت ضد مذاهب وجماعات، مثلما تقدم لم يشتهر أنْ عمد حاكم أو مشرعٍ إلى تجديدها أو تطبيقها.
قد يرد السُّؤال: وما هي الفائدة مِن تصنيف مثل هذا الكتاب؟! هل مِن أجل الدِّراسة والتّوثيق، وهذا بحدِّ ذاته عمل مشروع، فالكثير مِن الحوادث أو الحِقب التي أُرخ لها، لم ترتبط بغير سبب الدِّراسة. أقول: مع دافع الدِّراسة التَّاريخيَّة، وجمع هذه الفئة، وخسائر الأرواح بسبب دينيّ، قد يكون صحيحًا، هناك دافع آخر، ألاّ وهو تفاقم التّشدد الدِّينيّ، وما أسفر عنه مِن مقاتل فرديَّة وجماعيَّة، والتي عادة تكون وراءها فتوى، أو تحريض بفتوى تَكفّير، تسفر عن القتل، ومثل هذا التَّوثيق يكشف الأسباب التي دفعت بحصول هذه المقاتل، وهي اليوم تقوم بالدَّافع نفسه، فعندما يغيب الوعي، ويدخل العقل في كهف مظلم، يُستدعى الماضي بفتاويه وسيوفه، وكأن الذين قتلوا صبرًا، في العصور السَّابقة، تُبرَّر مقاتلهم اليوم بالفتاوى التي صدرت ضدهم، فنرى أنَّ المفتين والحاكمين بالقتل، عندما يقدمون على إصدار فتوى، أو أمر قتل، يعودون إلى تلك الحوادث، كنوع مِن التَّأصيل. اقرأ مثلًا محاولة والي الجوالي أو أهل الذِّمة، مُحمَّد بن فضلان (تـ: 631هـ/1234م)، لإقناع الخليفة العباسيّ النَّاصر لدين الله (تـ: 622هـ/1226م) بتطبيق فتوى المحتسب الأصطخريِّ في قتل الصَّابئة، والتي سيأتي ذِكرها لاحقًا، في الفصل الخاص بالقتل جماعيًّا.
اِشتد التَّكفّير، وبالتَّالي القتل مع الصَّحوة الدِّينيَّة، وعلى وجه الخصوص في الثَّمانينيات مِن القرن المنصرم، فظهر الحديث عن الرِّدَّة والمرتدين، وأصبح تنفيذ فتاوى القتل فوضى، مثلما حدث، في ما بعد، وقتل فرج فودة (1992)، مِن قِبل جماعة متطرفة، وعلى هذا ورد استفتاء إلى مجلة «الفكر الإسلاميّ» بلبنان عن تنفيذ فتوى قتل المرتد، فكان الجواب: «قتل المرتد أمر مِن اختصاص الحاكم أو نائبه، بعد استتابته، وليس لأحد أنّ يُباشر تنفيذ الحد سواهما»([16]).
ظل تفعيل القتل على أساس دينيّ، فبعد أنْ ظهرت آراء، بعدم شرعية قتل المرتد الفكري، أو العقائديّ، غير المحارب، وظهر كتاب للشيخ طه جابر العلوانيّ (تـ: 2016) بعنوان «لا إكراه في الدِّين إشكاليّة الرِّدَّة والمرتدين مِن صدر الإسلام إلى اليوم»، صدرت مجلة كلية أُصول الدِّين والدَّعوة بأسيوط- مصر، ببحث أفاض بتأكيد صحة الحديث «مَن بَدَّل دينه فاقتلوه»، مع وجوب تنفيذه في المرتدين، خارج الحرابة، جاء في البحث: «إن حديث مَن بدَّل دينه فاقتلوه، حديث صحيح مشهور في لفظه، متواتر في معناه، قد دلَّ على معناه دالةً قطعية، بحكم ما اقترن به إجماع الأمة، منذ عهد النَّبيّ (ص) وجريان عمل خلفائه الرَّاشدين عليه، دون خلاف مِن أحدٍ يُعتد به»([17])، واعتبار القول خلاف ذلك بدعةً وانحرافًا([18]).
اطلعنا على قضايا قتل، لها شبهة دينيَّة، كقتل شخص يُدعى يوسف الكيمياوي (731هـ/1331م)، ادعى أنّه يعرف علم الكيمياء، لكنه كان يستخدم خفة اليد، على شاكلة السَّحرة، ومعلوم أن حُكم «السَّاحر» القتل، لكنَّ الكيمياوي قُتل بسبب كذبه، وغشهِ للسلطان، وليس لأنَّه ساحرٌ، ورد في قصته: كان يوهم النَّاس بفعل الخوارق، وحاول إقناع السُّلطان، في العهد المملوكيّ بمصر، بتحويل الزّئبق إلى ذهب وفضة، ولما اكتشف أمره، اعترف أنَّ الأمرَ لا يزيد على خفة اليد والقدرة على الإقناع، فسجن وضُرب حتّى مات، وسمِّرت جثته على خشبة، ولو وجدنا فتوى أو حُكم قتل كونه ساحرًا لذكرناها في كتابنا هذا، وهذا مجرد مثال، فهناك العديد مِن الحوادث تعطي شبهة دينيَّة، والحقيقة هي غير ذلك([19]).
ذُكر في المراجع الحديثة أنَّ أشخاصًا قُتلوا قتلًا دينيًّا؛ ولكن بعد التَّحقق مِن المصادر لا نجد أثرًا لذلك، بقدر ما تعرضوا لمحنٍ دون القتل، مثل محنة الفيلسوف ابن باجه، والذي أتينا بقصته، وظهر أنّه شُهر به مِن قِبل آخرين لسبب شخصيّ، مما أدى إلى قتله بالسُّم. كذلك يذكر مرجع حديث أنَّ والي المظالم بالقيروان أبو القاسم محمَّد بن محمَّد القيسي الطَّرزيّ، قد قُتل على يد العبيديين، وبعد التَّحقق نجده تعرض لمحنة ولم يُقتل، لذا مثل هذه الحالات، وهي ليست قليلة، لم نضمنها للكتاب، وإنْ ضمنا قصتي ابن باجه والطَّرزي فلرفع الالتباس.
شاع في ما عُرف بالعشريَّة الجزائريَّة، قتل مثقف بسَبَّب دينيّ، لكن مازالت الأنباء، حتَّى الآن، متضاربة، فهناك مَن يُرجح وبقوة أنّ القتل جرى مِن قبل السُّلطة نفسها، لعدم موافقة المقتول معها مِن جهة، ومِن جهة أخرى لتتهم خصمها به، وهم الجماعات الإسلاميَّة بالجزائر خلال العقد الأخير مِن القرن العشرين (1992 وما بعدها)، ذلك المثقف هو الرَّوائي والشَّاعر والكاتب الطَّاهر جعوط (1993)، وجد مقتولاً بعد يوم مِن مقالٍ نشره، انتقد فيه الإسلاميين، وهم في حرب مع الجيش الجزائريّ، كان عنوان المقال «العائلة التي تتقدم العائلة التي تتأخر». لذا كان مِن الصّعب إيراده ضمن المقتولين بسبب دينيّ، وذلك لغموض الموقف، مثلما كتبت الصّحافة في ذكرى اغتياله([20]).
كذلك يوجد نوع آخر مِن القتل الدِّينيّ، يختلف عن المقاتل التي تضمنها الكتاب، وهو الانتحار بسَبَّب دينيّ، ويتمثل بعقيدة دينيَّة، وقتل النَّفس في تفجير، لاعتقاد المنتحر بكفُرهم، ثم الفوز بالجنَّة، وهذا ما قامت به الجماعات المتطرفة، باستخدام السّيارات المفخخة، والأحزمة النَّاسفة، والمقتولون المنتحرون لا يدخلون ضمن كتابنا هذا، فقتلهم لم يكن عقوبةً عليهم، إنما عقيدةٌ تبنوها، أدّت بهم إلى الوهم بالفوز بالجنَّة في الآخرة، أو لتحقيق الدَّولة الإسلاميَّة في الدُّنيا.
ما يشبه الانتحاريين، مِن الجماعات المتشددة، ظهور الانتحار بسبَّب دينيّ عقائديّ، وهو غلو وتشدد مِن نوع آخر، بغض النَّظر عن رأينا فيه، فنتائجه كانت قتل النَّفس، وشيوع القلق في المجتمع، وإيذاء الأسرة والمتعلقين مِن أقارب المنتحر، وإنْ كان انتحارهم دون قتل الآخرين، ودون هدف نيل الجنَّة ودخولها لحظة التَّفجير، لكنه لا يبتعد عن ذلك. مارست هذا النّوع مِن قتل النَّفس أو الانتحار جماعة عُرفت بـ«جماعة القُربان».
لم تكن الجماعة قد عُرفت واشتهرت، إلا بعد تكرار حالات انتحار داخل موكب حُسينيّ، بمدينة «سوق الشّيوخ» التَّابعة لمحافظة ذي قار (النَّاصرية) جنوب العراق. كشفت عن ذلك «وكالة الاستخبارات والتَّحقيقات الاتحاديّة» العراقيَّة، وأعلنت عن اعتقال جماعة يُطلقون على أنفسهم اسم «جماعة القربان»، وقد تبين أنَّ أعضاء هذه الجماعة ينتحرون بالقرعة، فمن تقع عليه يُقدم نفسه قُربانًا للإمام علي بن أبي طالب (اغتيل: 40هـ/661م)، وكان شعار هذه الجماعة: «علي الله، الله علي»([21]). في بداية الأمر حَسبتُ أنّ الخبر مبالغ به، لكنْ تأكد لي صحته بعد الاتصال والاستفسار، مِن أحد الأصدقاء المثقفين المقيمين بسوق الشّيوخ نفسها، ، وقال: إنَّ الحالةَ بدأت مِنذ سنة، ولما تكررت حالات الانتحار، وفي موكب حُسيني، تحوَّلت إلى ظاهرة، شاع خبرها بين أبناء المنطقة.
بعد ذلك نشرت وزارة الدَّاخليَّة العراقيَّة تصريحًا، بتفاصيل مقتضبة عن عملية مداهمة هذه الجماعة، جاء فيه: «حسب توجيهات السَّيد وزير الدَّاخلية، في متابعة الحركات والجماعات المنحرفة، والخارجين عن القانون، وبعملية استندت إلى معلومات دقيقة، تمكنت مفارز وكالة الاستخبارات والتحقيقات الاتحادية في وزارة الداخلية، من إلقاء القبض على أربعة متهمين من ما تسمَّى جماعة القربان في قضاء سوق الشيوخ بمحافظة ذي قار. إذ تم اتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة بحقهم وإحالتهم الى الجهات المختصة لإكمال الإجراءات اللازمة. إنّ وزارة الدَّاخلية أخذت على عاتقها متابعة الجماعات المنحرفة، والخارجين عن القانون، والعمل على بسط الأمن والاستقرار، وتحقيق السلم المجتمعي»([22]).
إنّ مثل هذه الشَّطحات حدثت قديمًا وحديثًا، مثل الجماعات التي عُبر عنها بـ«العليلاهية»، أو الغلو بعلي بن أبي طالب، لكنَّ الجديد في الأمر هو «قرعة الانتحار» مِن أجل عليّ! حصلت حالات الانتحار، بين الشَّباب، في موكب حُسينيّ، فبعد (2003) تصاعد الغلو مِن على المنابر الحُسينيّة، وقد شاعت ثقافة عامة في المجتمع الشّيعي الشَّبابيّ خصوصًا. هذا، وحالات الانتحار المسجلة، حتّى أيار(مايو) 2023 ثلاث حالات([23]). أشرنا إلى الانتحاريين والمنتحرين بسبب عقيدة دينيَّة، في المقدمة، ولم يتضمنها كتابنا، لأنه اختص بالقتل بفتوى أو حكم، لمعارضة في العقيدة.
إنَّ قتل الأنفس بدافع دينيّ، أو تقليد اجتماعيّ، كان معمولًا به عند بعض الشُّعوب، فهذا ابن بطوطة (تـ: 779هـ/1377م) في مشاهدته بالهند رأى أنَّ النّسوة يحرقن أنفسهنَّ بعد أزواجهنَّ، وهنَّ سعيدات في ذلك، وسط أصوات الطَّبول والأبواق([24]). كذلك كان قسم مِن البراهمة يُغرقون أنفسهم في نهر «الكنك»، كطقس دينيّ([25]).
كذلك في القتل بحساب دينيّ، سواء كان عقيدةً أم ادعاءً، يأتي ذِكر جماعة «الحشيشيَّة، وهم قومٌ في تلك الدِّيار، يرمون نفوسهم على الملوك، فيقتلونهم ويُقتلون، ويرون ذلك دينيًّا»([26]). يقصد بها جماعة «النّزاريَّة»، وكان يتحدث عن أربعة أسرى مِن هذه الجماعة، والنّسبة قال بعضهم إلى الحشائش، التي يستعملها الأطباء في تركيب الأدويَّة، وليس الحشيش([27])، مع أنَّ الحشّيش كان معروفًا، بدلالة وجود كتاب في تحريمها، ألَّفه برهان الدِّين الزِّركشيّ (تـ: 794هـ/1392م)، أو القرن الثَّامن الهجريّ، غير البعيد عن وجود السَّادس الهجري، أي وجود النِّزاريَّة، وكان يستخدم مكيفًا للدماغ، فقد ذُكر «في الحشيش مِن الإسكار والإفساد»([28]).
لا ندعي أنّ كتابنا هذا «صرعى العقائد»، قد شمل جميع الصَّرعى بهذا السَّبب، وجميع مَن نجا مِن القتل، أو كلَّ ما ورد في الرّوايات، فهذا عمل متعذر تحقيقه بطبيعة الحال، لذا نعتبره نواةَ موسوعة لهؤلاء القتلى مِن طبقات النَّاس، ومثلما تقدم لم يحصِ المؤرخون السَّابقون هذا الضَّرب مِن المقاتل في كتاب بين دفتين؛ إنما جاءت أخبارهم متناثرة بين طيات كتب التَّاريخ، وفي أحيان كثيرة وردت أخبار هؤلاء القتلى على التَّذكر، وليس عملًا خاصًّا في كتابة سيرهم، أو وقائع الحوادث التي قتلوا فيها. مع ذلك قد حرصنا على جمع حوادث الأكثر عددًا، وبأكثر مِن رواية، وممَن اعتقدنا بصحة الرّوايات التي تناولتهم.
غير أن ما تجدر ملاحظته، أنّ الرّوايات تكاد تتفق كافة على أنّ المقتولين استحقوا العِقاب؛ مِن وجهة نظر مفتيها ومنفذها، حتَّى صارت العقوبات، التي هدرت دماءهم، أساسًا لعقوبات نُفذت في العهود اللاحقة.
لم يكن موضوع كتابنا «صرعى العقائد» شاملًا لكلّ الصَّرعى عقائديًاّ بسبب الدِّين، إنّما مقتصر على التَّاريخ الإسلاميّ، وإلا نماذج القتلى بسبب ديني كثيرة وكثيرة جدًّا عند بقية الأديان والحضارات، فقد كانت الرِّدّة عند الأديان السَّابقة على الإسلام مرفوضة، ويُعاقب عليها بالقتل، والفرق لم يكن حكم الرّدة الفكريّة أو العقائديّة في الإسلام واردًا في القرآن([29])، إنما وضعها الفقهاء بعد ذلك، وقاسوها على حوادث حصلت، مثل حرب اليَّمامّة (11/12هـ)، وتلك كانت معارك، وليست رِدَّة عقائديّة فقط.
تؤكد نصوص قرآنيَّة عديدة حرية العقيدة الدِّينيَّة، غير المدعومة بالحرابة أو السَّيف، وتأكيد على أنَّ المرتد عقابه في الآخرة وليس في الدُّنيا، مثل الآية: }وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ{ (آل عُمران:85). وليس هناك أوضح مِن الآية في حرية العقيدة: }وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ{ (يونس: 99). ولا أوضح مِن الآية: }قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ{ (الكافرون: 1-6). والآية: }لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ{ (البقرة: 56).
كذلك وردت آيات تؤكد الاختلاف على أنها سُنة إلهيّة: }لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ{ (المائدة، آية: 48). }وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِي مَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ{ (يونس: 19). }وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ{ (هود: 118).
غير أنَّ التّفسير والتَّأويل، ومتطلبات مركزية الخلافة بعقيدة دينيَّة، جعلت تلك الآيات كافة خاضعة للنسخ حكمًا وتُركت تلاوةً، وأكثر النَّسخ حصل بـ«آية السَّيف»، التي قال عنها هبة الله بن سَلامة البغدادي (تـ: 410 هـ/1019م): إنَّ «هذه الآية (التَّوبة: 5)([30]) النَّاسخة، أنَّها نَسخت من القرآن مائة آية وأربعًا وعشرين آية»([31])، وفي مقدمتها آيات حرية العقيدة الدِّينيَّة، واستبدل التَّشدد والقتل، لمَن تبنى عقيدة غير الإسلام، بحرية العقيدة والخسران بالآخرة وليس القتل في الدّنيا([32]).
لكنَّ في كتاب اليَّهوديَّة مثلًا، وردت نصوص صريحة بقتل مَن كَفّر وأنكر الإله أو أرتد إلى دين آخر، مِن دون شرط الحرابة: «إذا قام في وسطكم نَبيُّ، أو حالمُ أحلامٍ، فعرض عليكم آيةً أو خارقةً، ولو تمت الآية أو الخارقةُ، التي كلمك عنها، وقال لك: لنَسر وراء آلهة أخرى لم تعرفها فنعبدها، فلا تَسمع كلامً هذا النَّبيّ، أو حالم الأحلام، فإنَّ الرَّبَّ إلهكم مُمتحنكم ليعلمَ هل تحبون الرَّبَّ إلهكم مِن كلِّ قلوبكم ونفوسكم، وراء الرَّبِّ إلهكم تسيرون وإياه تتقون، ووصاياه تحفظون، ولصوته تسمعون، وإياه تعبدون وبه تتعلقون، وذلك النَّبيّ أو حالم الأحلام يُقتل، لأنْ نادى بالتَّمرد على الرَّبِّ»([33]).
قتل الأخ والابن والابنة والزَّوجة والصّديق (لم تشمل الوالدين) إذا دعوك إلى الرِّدة عن الدِّين: «وإنْ أغراك سِرًّا أَخُوكَ، ابْنُ أُمِّكَ، أَوِ ابْنُكَ أَوِ ابْنَتُكَ أَوِ امرأتُك التي في حِضْنِكَ، أَوْ صديقُك الَّذِي هو كنَفْسِكَ قَائِلًا: هَلُمَّ نَعْبُدُ آلِهَةً أُخْرَى، لَمْ تَعْرِفْهَا أَنْتَ وَلاَ آبَاؤُكَ، مِنْ آلِهَةِ الشُّعُوبِ التي حَوْلَيكَم، القَرِيبِة مِنْكَم أَوِ الْبَعِيدِة عَنْكَم، مِنْ أَقْاصَي الأَرْضِ إِلَى أَقْصَايهَا، فَلاَ تَرْضَ بذلك، وَلاَ تَسْمَعْ لَهُ، وَلاَ تَعطف عَيْنُكَ عَلَيْهِ، وَلاَ تبقِ عَلَيْهِ وَلاَ تَسْتُرْ عَليَه، بَلْ اقتُله قَتْلًا»([34]). كذلك ورد نص في قتل السَّحرة: «ساحرة لا تبق ِ على قَيد الحَياة»([35]).
كذلك كان عند اليُونان الحُكم نفسه، فالقانون اليونانيّ يرى «المروق مِن الدِّين، أي الامتناع عن عبادة الآلهة جريمةً كبرى، يُعاقب عليها بالإعدام»، وكذا الحال عند الرُّومان([36]). وفي عهد السُّلطة الدِّينيَّة المسيحيَّة بأوروبا يُسرع العوام إلى قتل مَن تُكفّرهم الكنيسة، وتعتبرهم ضالين([37]). وهناك أمثلة كثيرة مِن مشاهد القتل والحرق حدثت بأوروبا في تلك القرون؛ ففي عهد محاكم التَّفتيش حدث السَّنة (1114م) أنْ «زجّ أسقف سواسون ببعض الضَّالين في سِجن، ولكنَّ العامةَ انتهزوا فرصة غيابه، وخافوا أنْ يصطنع رجالُ الدِّين اللِّين معهم، فهجموا على السِّجن، وجردوا الضَّالين منه وحرقوهم أحياءً»([38]).
أصدر الأباطرة قوانين تخص العقوبة على الكفَرة والمهرطقين، تقضي بحرقهم أحياءً، بل وتحرق بيوتهم، وفي دفعة واحدة أمر ملك فرنسا السَّنة (1022م) بحرق ثلاثة عشر ضالًا، وفي السَّنة (1183م) «بعث الكونت فليب صاحب فلاندرز هو ورئيس أساقفة ريمس عددًا مِن النُّبلاء، ورجال الدِّين، والفرسان، والفلاحين، والفتيات، والنِّساء المتزوجات، والأرامل إلى حيث أُحرقوا وهم أحياء، بعدما صادرا أملاكهم واقتسماها بينهما»([39]) الكونت ورئيس الأساقفة. كذلك كان مِن أشهر الصَّرعى بسبب دينيّ المؤلف والمفكر السُّويسريّ ميشال سرفيه (1553م) بسبب كتابه «في ضلالات الثَّالوث المقدس»، وكان «صاحب فضول يملك فكرًا موسوعيًّا، متلهفًا لكلِّ جديد، إنْ كان في المجال العِلميّ أو في المجال الدِّينيّ»([40]).
وزعنا صرعى العقائد، أو أسماء المقتولين بسبب دينيّ، على أحد عشر فصلًا، حسب سبب العقوبة، ومنها حسب الفئة الاجتماعيَّة، وفق التَّسلسل الزَّمنيّ، يتقدمهما فصلان في الزَّندقة والفتوى. جاء الفصل الأول في تاريخ الزَّندقة، وتعريفها، وديوانها، والقائمين عليها، وتناول الفصل الثَّاني الفتوى والمفتين، فالقتل لا يشرع ويُنفذ إلا بفتوى، وتكون الفتوى بمحضر جماعة مِن الفقهاء، أو يصدرها مفتي، واحد. أما الفصول الثَّمانيَّة التي تناولت المقتولين فهي:
قتلى ادعاء النُّبوة والمقتولين الأوائل، وقد حوى الأكثر مِن المقتولين، قدمنا فيه المقتولين الأوائل، مِن الشَّخصيات التي اغتيلت قبل وأثناء فتح مكة.
المقتولون مِن أهل الكلام والمفكرين.
المقتولون مِن أصحاب المناصب والثَّائرين.
المقتولون مِن الصُّوفيين وذوي الشَّأن الدِّيني، ويُقصد بهم ما دون الفقهاء والوعاظ أو علماء الدِّين عمومًا، كالمؤذنين أو خُدام المساجد وغيرها مِن المهن التي تتعلق بالخدمة الدِّينيَّة.
المقتولون مِن الوعاظ والفقهاء.
المقتولون مِن الشُّعراء.
المقتولون مِن غير المحددين بحِرفة أو اتجاه، فهناك العديد مِن الشَّخصيات مِن الصَّعب تحديد مهنهم أو وظائفهم، أو حتى اتجاههم الفكري أو السِّياسيّ، لكنهم تورطوا وطُبقت عليهم إحدى العقوبات القواتل.
المقتولون جماعيًّا، وهم مَن صدرت فتاوى بقتلهم كجماعة، مثلما حصل مع المطرفيَّة الزَّيديَّة، أو جماعة قتلوا على كثرتهم، مِن غير قتلى المعارك أو الحروب، فالأخيرة لا تدخل في محتويات الكتاب.
أضفنا فصلًا، وهو الفصل الحادي عشر، الذي اختص بالنَّاجين مِن القتل، وهم كثيرون أيضًا، الذين صدرت بهم فتوى أو قرار قتل، ولكن لسبب مِن الأسباب نجوا مِن السّيف أو الرّصاص وحبل المشنقة، بالهروب أو الاعفاء، أو الاختفاء حتَّى الموت، أو موت الذي أصدر الحكم بقتلهم، أفرادًا وجماعات، كنجاة الصَّابئة مِن القتل بفتوى صريحة صدرت ضدهم، في خلافة القاهر العباسي بين السَّنة (320 -322هـ/932 – 924م).
كان دورنا في الكتاب التَّوثيق، وليس إعطاء رأي ببراءة أو ذنب المقتولين أو المُكَفَّرين، مع علمنا أنَّ القتل الدِّيني، بسَبَّب العقيدة أو الرَّأي، غير مبرر في حالٍ مِن الأحوال، إذا لم يكن حرابة وإشهار سلاح، أي شنّ الحرب، فذلك لم يعد قتلًا بسبَّب دينيّ، ولا يدخل في موضوعنا.
[1] انظر: ابن الأثير، الكامل في التَّاريخ 12 ص 402 – 403. قتل قتادة شريف مكة مِن قِبل ابنه حسن، وكذلك قتل أخاه. كما سيأتي الحديث عن قتل المستنصر بالله لأبيه المتوكل على الله في محله مِن الكتاب.
[2] انظر: قتل القاهر بأمر الله لأخيه المقتدر بالله ذبحًا بالسِّيف (320هـ) بعد الانقلاب عليه (مسكويه، تجارب الأُمم 5 ص 321). قتل طغرلبك خنقًا لأخوته، السَّنة 401هـ (الذَّهبيّ، سير أعلام النُّبلاء 18 ص 112).
[3] انظر: المراكشيّ، المعجب في تلخيص أخبار المغرب، ص 74. قتل المعتضد العبادي حاكم إشبيليّة لابنه إسماعيل. الأمثلة كثيرة على قتل الأقارب في النّزاعات على السلطة، وما أثبتناه مجرد أمثلة.
[4] ابن القَلانسيّ، ذيل تاريخ دمشق، ص 284.
[5] الفرسخ وحدة قياس الطُّول أو المسافة، ويساوي: ثلاثة أميال، أو ستة كيلو متر(انظر: هنتس، المكاييل والأوزان الإسلاميَّة، ص 94).
[6] السُّرادق: ما يُمد فوق صحن أو فناء الدَّار(الجوهريّ، الصَّحاح تاج اللغة وصحاح العربيَّة 4 ص 1496).
[7] الجاحظ، الرَّسائل (رسالة فخر السُّودان على البيضان) 1 ص 217.
[8] ابن قيم الجوزيَّة، أعلام الموقعين عن ربّ العالمين 4 ص 499.
[9] ابن العربيّ، العواصم مِن القواصم، ص 244.
[10] العَلوانيّ، لا إكراه في الدِّين إشكالية الرِّدَّة والمرتدين مِن صدر الإسلام إلى اليوم، ص 41.
[11] راجع كتابنا: العقاب والغلو في الفقه والتُّراث العربيّ الإسلاميّ، دبي: مركز المسبار 2018- 2021، الباب الأول، الفصل الأول: عِقاب المرتد، ص 35 وما بعدها.
[12] راجع: المصدر نفسه، الباب الأول، الفصل الثَّالث: عِقاب الزّناة رجمًا، ص 131 وما بعدها.
[13] ابن تيمية، مجموع الفتاوى 35 ص 161.
[14] المصدر نفسه، 35 ص 162.
[15] الوردي، لمحات اجتماعيَّة مِن تاريخ العراق الحديث 6 (قصة الأشراف وابن سعود) ص 325.
[16] مجلة الفكر الإسلاميّ، العدد: 11 السَّنة 13 صفر 1405 تشرين الثَّاني(نوفمبر) 1984 باب الفتاوى، ص 120.
[17] حامد بن حمد العليّ، حديث مَن بدل دينه فاقتلوه، البحث 26، مجلة كلية أُصول الدِّين والدَّعوة بأسيوط، العدد 25 السَّنة 2007 الجزء 3 ص 2277 وما بعدها.
[18] المصدر نفسه 3 ص 2277.
[19] انظر: النُّويريّ، نهاية الأرب في فنون العَرب 33 ص 310-311. المقريريّ، السُّلوك لمعرفة الملوك 3 ص 131.
[20] انظر مثلًا: مجلة إيتانا، الطاهر جعوط، تاريخ: 15أيار(مايو) 2021 على الرَّابط:
تاريخ الدُّخول: 20/5/2023. ومحمد عبد الرَّحمْن، دماء على بحر الشّعر، جريدة اليوم السّابع المصريَّة، تاريخ: 26 آذار(مارس) 2020، على الرَّابط:
https://www.youm7.com/story/
[21] تقرير وكالة روسيا اليوم(RT)، الاستخبارات العراقيَّة تقبض على جماعة القُربان، تاريخ: 20أيار(مايو) 2023، على الرَّبط:
https://arabic.rt.com/middle_east/1462447
تاريخ الدخول: 20/5/2023.
[22] بيان وزارة الداخليَّة العِراقيّة، موقع الوزارة الرَّسمي، مؤرخ: 19 أيار(مايو) 2023 على الرَّابط:
https://www.moi.gov.iq/?article=7150.
تاريخ الدُّخول: 20/5/2023.
[23] تقرير العربية نت: القبض على جماعة القُربان التي ينتحر أعضاؤها بالقرعة، 20 أيار(مايو) 2023 على الرَّابط:
https://www.alarabiya.net/arab-and-world/iraq/2023/05/20
تاريخ الدُّخول: 20/5/2023.
[24] انظر: ابن بطوطة، الرّحلة، 3 ص 100-101.
[25] انظر: المصدر نفسه، 3 ص 101.
[26] ابن دَعثم، السّيرة الشَّريفة المنصوريَّة سيرة الإمام عبد الله بن حمزة الملقب بالمنصور، 2 ص 342.
[27] الأمين، الإسماعيليون والمغول ونصير الدِّين الطُّوسي، ص 106.
[28] الزَّركشيّ، زَهر العريش في تحريم الحَشيش، ص 111.
[29] أوردنا ذلك في كتابنا: العقاب والغلو في الفقه والتُّراث العربيّ الإسلاميّ، الفصل الأول: عقاب المرتد، ص 36.
[30] }فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ{ (التَّوبة: 5).
[31] البغدادي، النَّاسخ والمنسوخ، ص 128.
[32] في عقوبة المرتد عقائديًا وعدم جواز قتله راجع: الشيخ طه جابر العلوانيّ، لا إكراه في الدِّين، إشكالية الرِّدَّة والمرتدين مِن صدر الإسلام حتى يومنا هذا، القاهرة: مكتبة الشُّروق الدُّولية 2003 و2006.
[33] الكتاب المقدس، العهد القديم، سِفر تثنية الاشتراع 13/2-6 ص 379
[34] المصدر نفسه 13/ 7-10 ص 379-380.
[35] المصدر نفسه 22/ 17 ص 191.
[36] انظر: ديورانت، قصة الحضارة 16 ص 91.
[37] المصدر نفسه.
[38] المصدر نفسه 16 ص 93.
[39] المصدر نفسه 16 ص 94.
[40] لوكلير، تاريخ التَّسامح في عصر الإصلاح، ص 410.