أطل أبو بكر البغدادي بتسجيل صوتي يوم 16 سبتمبر(أيلول)، حمل عنوان “وقل اعملوا”، صدر عن مؤسسة الفرقان، إحدى الأذرع الإعلامية للتنظيم. جاءت الكلمة الصوتية في حدود نصف ساعة، تناولت مواضيع عدة، وتدرجت في تسلسلها، مما يدفع للقول بأنها لم تصغ على عجل؛ ولم تفتقر للبنية التنظيرية هذه المرة، بل تناولت قضايا جدلية في خطاب الفكر الجهادي -المزعوم- المعاصر. يشبه إلقاء الكلمة الصوتية التي أطلقها في يوليو(تموز) 2019، تحت عنوان “ويأبى الله إلا أن يتمَّ نوره” من ناحية لغة الخطاب وحماسية اللهجة.
أحاول هنا تحليل خطاب البغدادي والوقوف على أبرز ما جاء به، وما حمله من رسائل ودلائل تتعلق بالتنظيم داخليا وخارجيا، ودلالة التوقيت.
تحدث البغدادي باستفاضة حول أهمية الصبر، والبقاء على العهد والموالاة للتنظيم. فانطلق من كون التنظيم باقياً ومستمراً، وتتوافد عليه البيعات والمبايعون وتكرار جملة “أكثر من نصف عقد” كانت محاولة للمزيد من تأكيد بقاء التنظيم. ثم توجه بالحديث حول عمليات التنظيم وقيامه بما أطلق عليه التنظيم “غزوات الاستنزاف” التي نشر التنظيم إصداراً خاصا بها في يونيو (حزيران) 2019، ثم الحديث عما أطلق عليه “غزوة الاستنزاف الثانية” في العشر الأوائل من ذي الحجة.
حديث البغدادي، حول العمليات الإرهابية التي قام بها التنظيم خلال ما أطلق عليه “غزوة الاستنزاف” الأولى والثانية، تجاهل بتعمد عدد الضحايا الناتج عن تلك العمليات، لضعفها مقارنة بأثر العمليات الداعشية في الماضي. وذلك بخلاف الإصدارات السابقة للتنظيم وخاصة كلمات البغدادي التي كان آخرها في أبريل (نيسان)، وركز بصورة أساسية على ذكر عدد الضحايا. وهذا ما يدلل على أن التنظيم وقياداته يرون في طبيعة العمليات القائمة أنها ضعيفة التأثير، واستحضار الأعداد المضخمة هي محاولة لإثبات الوجود وتأكيد الاستمرارية. كما أن تجاهل الحديث حول العمليات القريبة التي شنها التنظيم، والحديث حول عمليات آخرها العشر الأوائل من ذي الحجة، على الرغم من حداثة الإصدار تفيد أيضا بضعف التنظيم وضعف أثره.
أمريكا، ومخاطبة أتباع القاعدة:
منذ ظهور تنظيم داعش بشكله الحالي، “الدولة الإسلامية في العراق والشام”، وتأخذ خريطة الإرهاب العالمي شقين: الأول والأقدم متعلق بمحاربة ما يطلق عليه هؤلاء “العدو البعيد” والمعني الولايات المتحدة الأمريكية ومصالحها في مناطق مختلفة، وهو تركيز تنظيم القاعدة بالأخص. والثاني يتعلق بالعدو القريب، والمعني به الأنظمة العربية، وهذا ما وضعه تنظيم داعش نصب عينه من البداية.
الشاهد هنا أن تنظيم القاعدة ومنظريه كانوا يرون أن إضعاف الولايات المتحدة سيوفر الفرصة للعمل بسهولة في المنطقة العربية. وعليه جاءت عمليات التنظيم منذ البداية في ديسمبر (كانون الأول) 1992 بالتركيز على مصالح الولايات المتحدة. تنظيم داعش عمل بطريقة مغايرة، فخصوصية ظهوره في المنطقة، ورمزية سوريا والعراق في سياق دولة الخلافة المزعومة، دفعته بالأساس للتركيز على المنطقة العربية أو ما يطلق عليه “العدو القريب”.
في إصدار البغدادي الحالي لوحظ بصورة واضحة تركيزها على الولايات المتحدة، حيث أشار إلى تراجع دورها في العراق وأفغانستان، ومالي والنيجر.
استحضر البغدادي تصريحات “جوزيف فرنسيس دانفورد” رئيس هيئة الأركان المشتركة الأمريكية وقوله: “ليست لدينا قوة ردع لحماية شركائنا بالمنطقة”، للقول بأن البغدادي يخاطب أتباع تنظيم القاعدة، الذين تربوا على أن مواجهة الولايات المتحدة تأتي في البداية، وحال إضعافها وقطع التعاون بينها وبين ما يطلق عليه “العدو القريب” يتم التوجه نحو الأنظمة العربية. ونسب البغدادي الفضل في ذلك لتنظيم داعش، هو محاولة واضحة منه للحصول على ولاء أتباع تنظيم القاعدة، بكون التنظيم بدأ في المرحلة التالية في تأسيس دولة الخلافة المزعومة من قبل التنظيمات الإرهابية، بإضعاف أمريكا وقطع سبل حمايتها للأنظمة العربية وفقا لتصريحات “دانفورد”. ومن ثم فإن الخطاب لا يدفع نحو عمليات ضد الولايات المتحدة، بقدر ما يدعو لمواجهة الأنظمة العربية. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل بصورة واضحة على عدم إمكانية التنظيم نقل قيادته المركزية للخارج وبناء معاقل جديدة بنفس قوة وجوده في المنطقة.
التوقيت، وقبول التوبة:
تأتي كلمة البغدادي بعد أيام من ذكرى أحداث 11 سبتمبر (أيلول)، التي أظهرت بما لا يدع مجالاً للشك أن تنظيم القاعدة كان يضع الولايات المتحدة نصب عينه، في مراحله واستراتيجياته المختلفة. كما أنها أيضا تأتي في توقيت يعاني فيه تنظيم القاعدة داخليا من بعض المشكلات والتحديات التي تساهم في إحداث حالة تخبط داخلية، وتعود تلك الحالة إلى مقتل حمزة بن لادن، وتقديرات الحالة الصحية للظواهري، مما يفقد التنظيم لوقت حالة السيطرة الكاملة من القيادة المركزية على الأتباع والفروع.
استمرار تنظيم القاعدة في التضخيم من أحداث 11 سبتمبر (أيلول)، دون جديد يذكر بعد ذلك يساويها في القدر، ولا حديث عن إضعافها للولايات المتحدة والانطلاق في مرحلة مواجهة الأنظمة العربية، دفع البغدادي إلى ذلك الإصدار ونسب الفضل لتنظيم داعش فيما ادعاه من إضعاف للولايات المتحدة من ناحية، مستهدفاً تغييراً في موقف أتباع تنظيم القاعدة من تنظيم داعش، في سياق التنافس بين التنظيمين، وجرهم نحو التنظيم. ومن ثم نصح البغدادي أتباعه بقبول توبة التائبين وتوضيح صحيح الدين لهم، وفقا للنهج الداعشي، أي تصحيح الخلافات والسجالات الفقهية التي ظهرت في اعتراضات تنظيم القاعدة على نشأة تنظيم داعش.
الهجوم على السجون الهدف القادم:
في ختام حديث البغدادي، في الشق الرابع كما قسم إصداره، تحدث باستفاضة حول الظلم، الذي يطال أعضاء التنظيم بسجنهم، مطالبا القابعين بالخارج للتحرك نحو تحريرهم وإطلاق سراحهم، في دعوة واضحة لشن هجمات على السجون: “السجون السجون يا جنود الخلافة، فإخوانكم وأخواتكم، جدوا في استنقاذهم ودك الأسوار المكبلة لهم، فكوا العاني…”.
يحاول البغدادي التصريح بأنه يهتم لأمر الأتباع المسجونين، والتضامن معهم والوعد بتحريرهم؛ وهذا عنصر تشجيعي للموالين بخلاف البعد الديني. وتوضح مدى معاناة التنظيم وفقدانه لعناصره وضعف قوامهم، وربما فيها إشارة أخرى.
أخت صفية وأم عمارة، رسالة لخروج النساء:
وفر البغدادي ختام إصداره للحديث لزوجات الداعشيين بالسجون، واختار مخاطبتهم بـ”أخت صفية، وأم عمارة” بالترتيب لما لهما من دلالة. فـ”صفية” يقصد بها الصحابية “صفية بنت عبدالمطلب” عمة نبي الإسلام محمد (صلى الله عليه وسلم)، وشقيقة أسد الله “حمزة بن عبدالمطلب”. قصة صفية، توحي بدلالة واضحة على الصبر وتحمل المصائب، فيذكر عنها أنها بعد التمثيل بجثمان “حمزة بن عبدالمطلب” توجهت إلى أرض المعركة، قاصدة رؤياه، وقد نصح نبي الإسلام بإبعادها إلا أنها أبت فسمح (صلى الله عليه وسلم) بذلك وقالت قولها المشهور: “عليك صلاة الله يا أبا عمارة، وغفر لك، نحن قوم عادتنا القتل والشهادة، لا حول ولا قوة إلا بالله.. إنا لله وإنا إليه راجعون.. حسبي الله ونعم الوكيل.. وغفر الله لك ولي وجزاك جزاء عباده الصالحين”.
بعد نصحه النساء بالصبر، أتبع البغدادي خطابهم بقوله “أم عمارة” دعوة للخروج والقتال ثأرا لأبنائهن وأزواجهن. فـ”أم عمارة” هي “نسيبة بنت كعب بن عمرو بن عوف”، وهي إحدى الصحابيات المقاتلات في صفوف المسلمين في غزوات عدة. وما يذكر حوله في ذلك الصدد، أنها حاولت قتل “مسيلمة بن حبيب” (مسيلمة الكذاب) في معركة اليمامة ثأراً لقتله ابنها “حبيب بن زيد بن عاصم” وإن كانت لم تنجح في ذلك وقتله ابنها الثاني “عبدالله”.
ختاما:
يمكن فهم دلالات كلمة البغدادي، بأنها تأكيد لضعف التنظيم، من ناحية غياب الحديث حول أثر العمليات، واستغلال معاناة تنظيم القاعدة واستهداف أتباعه، والدعوة لعمليات ضد السجون لإخراج العناصر الداعشية ومحاولة تجميع القوى، والحديث حول قبول بيعات جديدة وموالين جدد، وأخيرا دعوة العنصر النسائي للخروج للقتال في صفوف التنظيم ثأرا لأزواجهن وأبنائهن.
لغة خطاب البغدادي وحديثه عن إضعاف التنظيم للولايات المتحدة، وعدم قدرتها على دعم الشركاء في المنطقة، من شأنها التدليل على أن العمليات القادمة للتنظيم لن تخرج عن إطار سوريا والعراق ودول المنطقة العربية خاصة، كما أنها تؤكد التحليلات الرامية إلى أن التنظيم ليس لديه القدرة على نقل قيادته المركزية لخارج حدود المنطقة خاصة سوريا والعراق.