تمتلك كتب السيرة الذاتية والمذكرات “وقعاً متميزاً” لدى القراء العرب، وشهدت في العقدين الماضيين تطوراً ملحوظاً على مستويي التأليف والنشر، وقد تنوعت سرديّاتها ومناهجها فاتجهت حيناً إلى الكتابات الحميمة للشخصيات العامة الوافدة من تجارب متنوعة، ومزجت أحياناً أخرى بين العالم الخاص والإنجازات. لم تقتصر هذه الأدبيات على بعض القيادات الوطنية العربية المؤثرة، بل تعدتها لتصبح قيمة اقتصادية وثقافية وتاريخية وفنية. يمكن ملاحظة أن العديد من الاقتصاديين ورجال الأعمال، لا سيما في دول الخليج العربي، اتجهوا في السنوات الأخيرة إلى الكتابة عن تجاربهم في النهضة الاقتصادية لبلدانهم، مما أعطى حيزاً لفهم التحولات الإيجابية والمنعطفات الهامة للاقتصادات الخليجية.
في “ونصحت لكم.. مذكرات مؤسس وأول محافظ لبنك الكويت المركزي” (دار مدارك للنشر، دبي، الطبعة الأولى، 2016) يوثق حمزة عباس حسين تجربته الدينامية في كتاب احتوت صفحاته وفصوله على سيرة رجل وطني عمل بجدٍ على تنمية القطاع المصرفي في الكويت ضمن مرحلة تأسيسية صعبة، شهدت الكثير من التقلبات والنجاحات.
تعرض الكاتبة الكويتية نادية علي الشراح في تقديمها للكتاب أهم ما ورد في فصوله بدءاً من “نشأة حمزة عباس حسين منذ ولادته في الكويت مروراً بتعليمه ثم عمله واستكماله دراسته، ثم تأهيله لاستلام مهام سكرتارية مجلس النقد، وتكليفه بتأسيس البنك المركزي، والإجراءات التي قام بها في تأسيس قاعدة منهجية لعمل البنوك المركزية. وتمر المذكرات –كما تشير الشراح- بمحطات رئيسة في حياته المهنية والشخصية، والأزمات الاقتصادية التي عايشها خلال إدارته للسياسة النقدية، وأهمها أزمة المناخ، وعلاقته مع الأطراف الرئيسة ومتخذي القرار خلال تلك الأزمة. كما تتضمن مساهماته في خدمة بلده بعد انتهاء عمله كأول محافظ لبنك الكويت المركزي حيث استُدعي ليُفاد من خبرته في المجالس واللجان المختلفة. تستكمل المذكرات بالتوقف عند علاقة حمزة عباس حسين بالأمير الراحل الشيخ جابر الأحمد الصباح (1926-2006)، تأكيداً وتجسيداً للعلاقة الشخصية والإنسانية التي تدعمها الثقة المهنية، كما قد استمرت هذه العلاقة لمدة طويلة”. (ونصحت لكم.. مذكرات مؤسس وأول محافظ لبنك الكويت المركزي، ص7-8).
جاء الكتاب في (12) فصلاً: السيرة الذاتية، النشأة، الدراسة، العمل واستكمال الدراسة، مجلس النقد، الزواج، تأسيس البنك المركزي، أزمة المناخ والقرارات اللاحقة للأزمة، العودة إلى العمل العام، كلمة أخيرة، الذكريات مع الأمير الراحل، الأصدقاء والزملاء.
الطفولة والدراسة وإدوارد محلب في بغداد
يسرد حمزة عباس حسين في الفصلين الأولين: السيرة الذاتية والنشأة أهم محطات حياته وخبراته العملية ومشاعره الإنسانية وتفاعله مع عائلته ومحيطه وأسرته. استند حسين إلى ما نشرته صحيفة “القبس” الكويتية في عددها الصادر بتاريخ 1/2/2003 تحت عنوان “رجل الاقتصاد يكره السياسة” (حمزة عليان) تضمن سرداً لسيرته الذاتية، معتبراً أن ما ورد في المقال يعكس الحقيقة في سيرته إلى حد كبير، لذا قام بنشره بالكامل ضمن المذكرات.
ولد حمزة حسين عباس عام 1934. تلقى تعليمه الأولي في المدرسة المباركية في الكويت ثم التحق بالجامعة الأميركية في بيروت وحصل على شهادة الليسانس في الاقتصاد عام 1958. عمل في الدائرة المالية أواخر عام 1958 في قسم الاستثمار، وانتقل بعدها إلى وظيفة نائب المدير في دائرة الموظفين خلال الفترة من 1959 إلى 1960. تحولت الدائرة إلى ديوان الموظفين فيما بعد، وهي الفترة نفسها التي تولى فيها الأمير الراحل الشيخ جابر الأحمد الصباح رئاسة دائرة المالية. أكمل دراساته العليا في جامعة أكسفورد بكلية سانت أنطوني (1960-1962) ضمن بعثة كويتية أرسلتها وزارة المالية. كما تلقى تدريباً في (Bank of England) وهو بنك مشابه للبنوك المركزية. عُيِّن سكرتيراً في مجلس النقد الكويتي من عام 1963 حتى عام 1968، ثم نائباً لمحافظ الكويت في صندوق النقد الدولي، واستمر في هذا المنصب حتى عام 1983. عُيّن نائباً لمحافظ بنك الكويت المركزي عام 1968، وفي الوقت نفسه كان يقوم بأعمال المحافظ. خلال الفترة من 1973 إلى 1983 عُيّن محافظاً لبنك الكويت المركزي. (ص12-13)
ارتبط حسين بعلاقة وثيقة مع أمير الكويت الشيخ جابر الأحمد الصباح عندما كان وزيراً للمالية، وهو الذي شجعه على إكمال دراساته العليا ليسند إليه فيما بعد منصب حاكم البنك المركزي، واستمرت العلاقة وفق قاعدة الثقة القائمة على الصدق والإخلاص والمشورة الناصحة والصحيحة (ص16-17). أبو عباس، إنسان واقعي (…) من محبي مدينة لندن ومن المرتادين الدائمين لها في فصل الصيف (…) حبه لعالم الاقتصاد أورثه محاسنه، فدائماً ما يتابع ويقراً ما ينتجه العالم الصناعي (…) عاشق لهوايتين: القراءة والرياضة (…) هو موسوعة متنقلة في الثقافة الغذائية، بحيث لا تفوته معلومة إلا ويأخذها ويتحدث فيها مع أصدقائه وعائلته (ص17).
التفاصيل الأخرى حول النشأة أتت بقلم حمزة عباس حسين يسرد فيها علاقته مع أسرته: والده وأمه وإخوته وذكريات الطفولة: “ولدت أنا حمزة عباس ميرزا حسين من عائلة خاجة، في مدينة الكويت وتحديداً في منطقة (شرق) الواقعة في المطبة والميدان بجانب حسينية معرفي وحسينية علي الموسوي. في تلك الفترة لم يكن في الكويت نظام لتسجيل المواليد، إلا أنه وفقاً للبطاقة المدنية فأنا من مواليد الأول من أكتوبر [تشرين الأول] عام 1934 (…) ولأنني ولدت بعد ثلاث فتيات فقد حظيت بالكثير من العناية والاهتمام من والديَ تحديداً، وكذلك من إخوتي (ترتيبه السادس بين ثمانية أبناء)، فقد كانت والدتي سكينة –رحمها الله- شديدة العناية بي نظراً لطبيعتها العاطفية، وهي صفة ورثتها عنها (…) والدي الحاج عباس ميرزا حسين –رحمه الله- كان يعمل بشكل أساسي في تجارة القماش (…) تميز والدي منذ صغره بالنشاط والهمة، وقد ساعده ذلك في توسيع تجارته (…) اتصف بالانفتاح في تعامله مع الجميع ولم تنحصر تجارته في التعامل مع فئة أو جهة معينة (…) كما كان لوالدي إسهامات متعددة في العمل الخيري والديني، فهو من أبرز المساهمين بالأموال لحسينية سيد علي الموسوي، الذي كانت تربطه به وبعائلته صلة قرابة ونسب، وهو أحد المساهمين في تأسيس المدرسة الجعفرية (ص24-25).
حين يروي حمزة عباس بعض ذكريات الطفولة والصبا يتوقف عند محطتين: الأولى: رحلته إلى البصرة برفقة صديقه صالح خاجة عام 1948، بطائرة مروحية صغيرة تابعة للخطوط الجوية العراقية تتسع لتسعة أشخاص فقط. وكانت هذه الرحلة من الرحلات التي يقوم بها التجار الكويتيون من الكويت إلى البصرة بشكل مستمر لمتابعة أعمالهم. والثانية: زيارته وأخيه محمد إلى منزل السيد إدوارد محلب في بغداد، بناء على دعوته وهو يهودي من أصل عراقي، تربطه علاقة صداقة وتجارة مع والده (…) تعد هذه العائلة من أواخر الأسر اليهودية التي هاجرت من الكويت إلى بغداد. وعندما قرروا في أواخر عام 1953 الهجرة النهائية من العراق إلى الولايات المتحدة باعوا الأرض التي يملكونها (ص30).
التحق حمزة عباس بالمدرسة الجعفرية في السنوات الأولى من التعليم، التي لم تكن حكراً على طائفة معينة، انتقل بعدها إلى المدرسة المباركية، وتابع الثانوية التجارية مع ثلة من الشباب وتخرج فيها عام 1952. سافر بعدها إلى لبنان من أجل إكمال دراسته الجامعية في الجامعة الأميركية صيف 1953 برفقة زملاء له بينهم عبدالرحمن العوضي وراشد الراشد. كان عباس من المجموعة الثالثة التي تتوجه إلى الدراسة وقد سجل في قسم الاقتصاد وتخرج فيه عام 1958.
الطريق إلى النهوض الاقتصادي
بعد عودته إلى الكويت باشر حمزة عباس عمله في الدائرة المالية والنفط حيث عمل في القسم السري، وهو عبارة عن مكتب لإدارة الاستثمار في الخارج (لندن) ويتولى هذا المكتب حفظ الحسابات والمراسلات. بحكم عمله في هذا القسم، أُتيح له التعرف على الأدوات الاستثمارية التي كان يتابعها القسم السري من الودائع والأسهم والسندات التي تستثمرها دولة الكويت في الخارج (ص47-48).
تم تعيين الأمير الراحل الشيخ جابر الأحمد الصباح رئيساً لدائرة المالية أوائل عام 1959، ولم يكن في الكويت آنذاك سوى بنكين فقط، هما البنك البريطاني الذي أصبح لاحقاً بنك الكويت والشرق الأوسط وبنك الكويت الوطني. يشير عباس إلى أن مدير دائرة شؤون الموظفين حمد يوسف العيسى (…) كان يتطلع إلى ترتيب هيكل تنظيمي أفضل لعمل الدائرة فطلب منه العمل معه على ذلك ووافق على طلبه (…) وبعد تكوّن الهيكل الجديد لديوان الموظفين توجه عباس إلى العيسى مبدياً رغبته بالاكتفاء بهذا العمل والتوجه إلى الخارج للدراسة، وكان قد اشترط عليه العمل لمدة عام واحد في هذه الدائرة (…) والتقى عباس بالشيخ جابر الأحمد الصباح في مبنى شؤون الموظفين وطلب منه أن يسمح له بالسفر لاستكمال تخصصه غير أن (الأمير) لم يوافق، مقترحاً عليه أن تكون الدراسة لفترة قصيرة ومرتبطة بالمهام الوظيفية، لذلك طلب من الدكتور فخري شهاب، الذي كان يعمل مستشاراً غير متفرغ للأمير آنذاك وأستاذاً في جامعة أكسفورد، أن يُعِد له برنامجاً أكاديمياً وتدريبياً، وقد استغرق تدريبه أكثر من عامين في مجالات السياسة النقدية والمصرفية، وتوجه عباس يوم 19 يونيو (حزيران) عام 1960، إلى بريطانيا فالتحق بكلية سانت أنتوني وهي من الكليات الحديثة-آنذاك- في الدراسات العليا التابعة لجامعة أكسفورد.
أسس مجلس النقد الكويتي برئاسة الأمير الراحل الشيخ جابر الأحمد الجابر الصباح عام 1960. وفي أوائل عام 1963 وبعد عودته بفترة قصيرة، تم تعيينه بقرار من مجلس النقد سكرتيراً للمجلس، خلفاً للسيد هنري ترنر البريطاني الجنسية، والذي عمل لمدة ثلاث سنوات معاراً من بنك إنجلترا ثم مستشاراً للمجلس لمدة سبعة شهور (…) اقتصرت صلاحيات المجلس بصفة أساسية على طباعة إصدار أوراق النقد وضرب المسكوكات وإعادة إصدارها واستبدالها. يلفت عباس إلى أنه خلافاً لما كان متبعاً في الدول الأخرى في المنطقة –آنذاك- والتي كانت تقوم بإصدار عملتها الوطنية بعد الاستقلال؛ فإن الكويت قامت بإصدار عملتها الوطنية في بداية شهر أبريل (نيسان) من عام 1961 في حين أن الاستقلال تم في يونيو (حزيران) من العام نفسه (ص57). قامت الدولة بدعوة المواطنين لاستبدال الروبية الهندية بالدينار الكويتي الذي يعادل –آنذاك- نحو (13.33) روبية تقريباً (ص57).
شارك حمزة عباس حسين في مؤتمر في موسكو يقوم بتنظيمه والإشراف عليه (Institute of Banker) وشاركت فيه جميع البنوك والمؤسسات المالية العالمية. يتناول هنا بعض التفاصيل قبل المؤتمر وبعده فيقول: “على الرغم من عدم وجود أي علاقات دبلوماسية بين الكويت والاتحاد السوفيتي حينها، توجهت للسفارة السوفيتية لطلب التأشيرة، وكان استقبالهم غير ودّي، لعدم اعترافهم بالكويت خلال حقبة الأزمة السياسية بين دولة الكويت والنظام العراقي برئاسة عبدالكريم قاسم. غادرت إلى موسكو عن طريق كوبنهاجن، وكانت جامعة موسكو مقراً لفعاليات المؤتمر وسكناً لضيوفه في الوقت ذاته. وقد كان هذا هو التمثيل الأول لدولة الكويت في هذا المؤتمر، وأفدت كثيراً من تلك المشاركة وتعرفت على مهنيين وأصحاب خبرة ومحاضرين متميزين. كما أذكر أن ممثل جمهورية العراق حينها كان يتهرب من لقائي والحديث معي أثناء المؤتمر لتوتر العلاقات بين الكويت والعراق”. (ص59).
في 1962 وبتوجيه من الشيخ جابر الأحمد الصباح تم تعيين حمزة عباس نائباً لمحافظ الكويت في صندوق النقد الدولي، وكان الشيح جابر هو محافظ الكويت حينها. هذا التعيين تبعه حضور فعاليات الاجتماع السنوي الأول لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي. ومما يذكره حمزة عباس حسين عن هذا الاجتماع: ” كان ترتيب مواقع الدول في القاعة الرئيسة يتوزع بحسب الحروف الأبجدية، وكانت دولتا الكويت والعراق في موقع متجاور. وقد ألقى الشيخ جابر كلمة الكويت في الجلسة الصباحية، بينما قمت بتمثيل دولة الكويت في الجلسة المسائية، وقام رئيس الوفد العراقي بمهاجمة تمثيل الكويت باعتبارها جزءاً من العراق، ولم يتح لرئيس الاجتماع الذي كان من جمهورية مصر العربية، وممثلاً عن منطقة الشرق الأوسط، المجال للرد أو التعليق، وتظاهر بعدم رؤيتي على الرغم من تنبيه بعض رؤساء الوفود له” (ص61).
خلال عمله سكرتيراً لمجلس النقد بين عامي 1963 و1968 واجهت الكويت ثلاثة أحداث كبرى متلازمة يذكرها حمزة عباس ببعض تفاصيلها. الأول: تنظيم التحويلات المالية؛ والثاني: دعم المجهود العربي الحربي؛ والثالث: سعر صرف الدينار الكويتي. إلى جانب عمله في مجلس النقد تم تكليفه بتأسيس البنك المركزي وإعداد مسودة القانون (…) قرر مجلس النقد البدء بتأسيس بنك الكويت، فتمت مراسلة وزارة الأشغال لتجهيز المبنى، وهو المقر الحالي للبنك المركزي وتم استلامه عام 1976.
في مارس (آذار) 1964 تزوج حمزة عباس من ليلى أحمد حيدر الجاسم التي تخرجت في جامعة القاهرة عام 1963 في تخصص الخدمة الاجتماعية. رزقا بالتوأم غادة وسندس ثم دانة بعد عشر سنوات. التحقت بناته جميعهن بالدراسة في أميركا بعد انتهاء المرحلة الثانوية في الكويت، وتخصصت سندس في (Computer Engineer)، وحصلت على شهادتها من جامعة بوسطن. وتخصصت غادة في الاقتصاد وحصلت على درجة الماجستير في إدارة الأعمال من جامعة كولومبيا في نيويورك وجامعة (London Business School) في إنجلترا. وتخصصت دانة في إدارة الأعمال – التمويل وحصلت على شهادة (Business Administration – Finance) من جامعة (Northeastern University) في بوسطن.
البنك المركزي: التأسيس والتحديات
يذكر حمزة عباس حسين كل التفاصيل المرتبطة بالمسيرة الطويلة في تأسيس “بنك الكويت المركزي” منذ بزوغ الفكرة واتخاذ القرار، فيقول: “تقدم مجلس الوزراء إلى البرلمان الكويتي بمشروع القانون القاضي بإنشاء بنك الكويت المركزي عام 1968، وتمت مناقشته في الفصل التشريعي الثاني، ثم صدر القانون رقم (32) لسنة 1968 في شأن النقد وبنك الكويت المركزي وتنظيم المهنة المصرفية. وفي أكتوبر (تشرين الأول) من عام 1968 صدر المرسوم الأميري بتعيين حمزة عباس نائباً لمحافظ بنك الكويت المركزي، وكُلف حامد مبارك بمهام سكرتير مجلس النقد بالوكالة. (ص16-77).
يسرد حمزة عباس حسين المراحل التي رافقت تأسيس هيكلية البنك المركزي. لم يتجاوز عمره (34) عاماً حين تم تعيينه نائباً لمحافظ البنك. استغرقت رحلة التدشين عشرين سنة، بدءاً من السنوات الخمس التحضيرية التي كانت بمثابة وضع اللبنات الأولى لعملية التأسيس، التي أشرف عليها إلى جانب عمله كسكرتير لمجلس النقد، ثم أكمل مسيرة العمل لـ(15) سنة الباقية كنائب للمحافظ في السنوات الخمس الأولى، ثم أول محافظ لبنك الكويت المركزي في العشر سنوات اللاحقة.
كان من بين الأولويات التي تم التركيز عليها خلال استكمال الهيكل التنظيمي لبنك الكويت المركزي: تأسيس إدارة البحوث الاقتصادية، نظراً لما لها من أهمية خاصة في منظومة أعمال البنوك المركزية ومسؤوليتها بالتحديد في رسم السياسات النقدية (…) وبعد إنجاز هذه الخطوة تم تأليف فريق العمل المؤلف من مجموعة من الشباب الكويتي معظمهم من خريجي جامعة الكويت والآخرون من الخارج. وكان من بين فريق العمل: جاسم السعدون، عبدالرحمن الحمود، في إدارة البحوث الاقتصادية، وعبدالرسول أبو الحسن مدير إدارة الرقابة المصرفية، وصالح السليمي الذي أصبح لاحقاً مدير إدارة الرقابة المصرفية بعد استقالة أبي الحسن، ومحمد القاضي مدير إدارة البحوث الاقتصادية. وتكون فريق العمل من الفريق الفني الذي ضم مستشارين: قانوني وخبير مالي لمتابعة العمليات المالية وسكرتيرة.
من بين أهم الأحداث الرئيسة التي عايشها حمزة عباس خلال ممارسته لمهامه في بنك الكويت المركزي، تفعيل تطبيق السياسة النقدية والرقابية. يلفت إلى أنه “في بدايات أنشطة البنك المركزي، وتحديداً في يوليو (تموز) 1971، قرر الرئيس الأميركي الأسبق ريتشارد نيكسون فكّ الارتباط بين الدولار الأميركي والذهب، بعد أن كانت الولايات المتحدة ملزمة بمعادلة الدولار الأميركي بوحدة من الذهب، ولأن الكويت كانت تعتمد بشكل رئيس على إيرادات النفط المسعرة بالدولار، إلى جانب أن الولايات المتحدة كانت شريكاً تجارياً رئيساً لها، فإن ذلك الإجراء الذي نتج عنه هبوط رئيس في سعر صرف الدولار أمام العملات الأخرى، كان له تأثير كبير على وضع الدولة المالي أسوة بقرار صرف الجنيه الإسترليني الذي حدث عام 1967، فقد انخفض الدولار أمام الدينار بنسبة (7%) ولم يتم تخفيض الدينار الكويتي، وأصبح سعر الصرف الجديد (330) فلساً بعد أن كان (335) فلساً للدينار الكويتي مقابل الدولار” (ص84-85).
تكرر هذا النوع من الحوادث المالية عام 1972 وكان أمام حمزة عباس حسين لتفادي أي إشكال مالي قد يؤثر على الدينار ثلاثة خيارات أو بدائل: الأول: الاستمرار في الارتباط بالدولار غير المستقر، الثاني: الارتباط بحقوق السحب الخاصة، والثالث: البحث عن أفضل توليفة من العملات، أي سلة عملات لدول ترتبط معها الكويت بعلاقات تجارية ومالية واستثمارية، وربط سعر صرف الدينار بعملاتها (ص85-86). وقع الخيار على البديل الثالث.
يفصل حمزة عباس حسين الحديث عن إجراءات دعم الجهاز المصرفي للدولة، كما يتحدث عن المراحل التي واكبت تأسيس مركز الدراسات المصرفية ومهامه. وفي ختام الجزء المتعلق بمرحلة العمل في بنك الكويت وضع خريطة طريق أمام المصرف المركزي حددها على النحو الآتي:
- إن العلم وفن تطبيق النظريات العلمية عنصران أساسيان لنجاح عمل البنوك المركزية، وخصوصاً في رسم وتنفيذ السياسات النقدية والرقابية.
- يتحتم على البنك المركزي ألا يتعاطى الشؤون السياسية، وألا يكون جزءاً من القرارات الشعبوية.
- يجب ألا تتعدى علاقة البنك مع وسائل الإعلام حدود توضيح قراراته التي يصدرها من وقت إلى آخر بشأن السياسة النقدية والرقابية.
- تقديم المشورة المالية للحكومة، وعلى البنك المركزي أن يكون صريحاً في هذه المشورة.
الكابوس المحتم والعودة إلى العمل العام
حذر حمزة عباس حسين المعنيين من احتمال انهيار سوق المناخ، وكان على دراية أن ثمة مشكلة كبرى قد تقع: “كنت سأصبح سعيداً لو وافق الأمير الراحل الشيخ جابر الأحمد الصباح على طلب التنحي، بعد رفض سموه في المرتين السابقتين خلال فعاليات سوق المناخ، فهذا ما كان سيخلصني من الكابوس المحتم حدوثه، وهو انهيار السوق”.
يحدد في مذكراته العوامل المسببة لأزمة سوق المناخ منها ما هو اقتصادي ومنها ما هو سياسي. في التفاصيل يقول: “كانت البنوك تمنح القروض على أساس التدفقات المالية أو الرهونات –أو الاثنين معاً- حسب التعليمات الصادرة عن بنك الكويت المركزي، سواء الأفراد أو لشركاتهم الخاصة التي تمثل قطاعات مختلفة من الاقتصاد كالتجارة والصناعة والخدمات المالية والعقار وغيرها. وقد تسرب جزء من هذه القروض إلى سوق المناخ لوجود إغراءات مالية كبيرة، تتمثل في إقدام المتداولين الرئيسين على المضاربات والبيع الآجل بفوائد عالية. وحين جفت السيولة في نظام التداول لم يتمكن المضاربون من دفع التزاماتهم من الديون المتضخمة نتيجة البيوع الآجلة، مما أدى إلى انهيار السوق عند الاستحقاق ليتضح أن قيمة الشيكات المؤجلة الدفع قد بلغت (27) مليار دينار كويتي، وهو ما يمثل ستة أضعاف قيمة الائتمان الحقيقي في الجهاز المصرفي الذي تمّ تكوينه على مدى أكثر من أربعين عاماً، أي منذ بدء عمل أول بنك بالكويت في أوائل الأربعينيات من القرن الماضي”. (ص105).
يشير عباس إلى التدابير المتخذة من المصرف المركزي للحد من أزمة سوق المناخ، حيث تم تطبيق قرارات مهمة من ضمنها: منع البنوك من قبول أسهم الشركات الخليجية كضمانات ورهونات للقروض التي تمنحها لعملائها، وكانت تعليمات البنك المركزي صارمة في هذا الشأن (ص106).
بعد تركه منصبه كمحافظ شغل حمزة عباس مناصب عدة: عضو في العديد من مجالس الإدارات لشركات استثمارية وبنوك داخل الكويت وخارجها؛ عضو المجلس الأعلى للتعليم؛ عضو المجلس الأعلى للتخطيط؛ عضو اللجنة العليا للتنمية “إصلاح المسار الاقتصادي”؛ مستشار اللجنة العليا المالية الاقتصادية في مجلس الأمة؛ عضو في لجنة الاستثمار المركزي.
الأمير الصباح… طاقة كبيرة ورجل الإنجازات
يسجل حمزة عباس أبرز المحطات العملية والإنسانية مع الأمير الراحل الشيخ جابر الأحمد الصباح منذ التحاقه في دائرة المالية نهاية عام 1958 وحتى تسلمه مقاليد الحكم. نشرت هذه الانطباعات سابقاً في كتاب حمل عنوان: “الأمير الراحل الشيخ جابر الأحمد الجابر الصباح (الحاكم– الوالد- الإنسان)” عام 2003 وقد ارتأى عباس إعادة نشرها في الجزء المتعلق بتجربته مع الأمير الراحل. نورد هنا بعضها:
- كان الأمير الراحل رجلاً متديناً، يبدأ نهاره مبكراً بقراءة القرآن الكريم، ومن هواياته الخاصة رياضة المشي وقيادة السيارات، والاهتمام بالزراعة وممارستها باليد، وكذلك مشاهدة الأفلام الهادفة وخصوصاً الاجتماعية، وهو ليس أكولاً بطبعه وأكله خفيف جداً حتى في المناسبات الرسمية، حيث يجالس من يدعوهم ويجاملهم بتناول أشياء خفيفة وهو بذلك حريص جداً على نظامه الغذائي والصحي (ص141).
- جاءت الخطوة الوحدوية للنقد الخليجي من سموه عام 1964، عندما فكر في أن يكون للخليج العربي عملته الموحدة، وهي فكرة لم تكن مطروحة في أي منطقة أخرى في العالم في ذلك الوقت، فكان لسموه السبق في هذا التوجه الاقتصادي العالمي، ولم تكن لدول الخليج في ذلك الوقت عملة وطنية خاصة بها بل كانوا يستعملون الروبية الهندية، فأرسل سموه رسائل إلى قطر والإمارات والبحرين يدعوهم إلى أن يكون لهم ومعهم الكويت عملة خليجية موحدة، وطرح بديلين: إما الاتفاق على استعمال الدينار الكويتي، أو استصدار عملة جديدة يُتفق عليها في ما بينهم، وظلت الفكرة مطروحة انتظاراً للقرار السياسي المناسب (ص142).
- كان الشيخ الراحل جابر الأحمد الصباح رجل دولة من الطراز الأول ينظر إلى مشروع يُعرض عليه من جميع الجوانب الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، واضعاً نصب عينيه مصلحة الكويت والكويتيين، ويدير الأزمات الاقتصادي بروية وإدراك وخبرة عالية، ولديه طاقة كبيرة لتحمل مواصلة العمل، ولم يكن يحب الرسميات وتتسم طباعه بالبساطة مع الجدية في العمل والصراحة في الحق. وكانت علاقته مع موظفيه سهلة ومبسطة ويشجعهم دائماً على طرح أفكارهم بحرية. لقد كان ديمقراطي التوجه والقرار.
- كان سموه يحب مساعدة الناس في سرية تامة تحفظ لهم كرامتهم، وأذكر أنه في إحدى زيارات سموه إلى مصر في الستينيات، وجد بعض المصريين من البسطاء وعامة الشعب يأتون إلى جناحه في الفندق للسلام عليه وألسنتهم تلهج له بالدعاء، وكان ذلك مدعاة لدهشتي وإثارة لفضولي، فاستفسرت من أحد المرافقين عن هوية هؤلاء الأشخاص، فأفاد بأن أولادهم يدرسون على نفقة سموه الخاصة والبعض الآخر يتلقون مساعدات جارية منه. لقد كان عطوفاً وإحسانه في السر يسبق إحسانه في العلن (ص144-145).
شهادات: شخصية رائدة وإنكار للذات
تضمن الكتاب سبع شهادات من قبل بعض أصدقاء وزملاء (المدرسة والجامعة والعمل) حمزة عباس حسين ترد أسماؤهم على النحو الآتي: الدكتور وديع بدوي (العمل في بنك الكويت المركزي)، الدكتور عبدالرحمن العوضي (زميل المدرسة الجعفرية في الكويت والجامعة الأميركية في بيروت)، الأستاذ راشد الراشد (زميل المدرسة المباركية في الكويت والجامعة الأميركية في بيروت)، الأستاذ محمد القاضي (العمل في البنك المركزي)، الأستاذ عبدالوهاب الهارون (العمل في لجنة الشؤون المالية في مجلس الأمة الكويتي)، الأستاذ جاسم السعدون (العمل في بنك الكويت المركزي)، الأستاذة صبيحة عبدالقادر الجاسم (العمل في المجلس الأعلى للتخطيط).
في شهادته عن حمزة عباس حسين يسجل وديع بدوي هذه الانطباعات: “وجدت في الأستاذ حمزة عباس بعض الصفات التي جعلته في نظري من الشخصيات الرائدة، فهو إنسان يقدّر العمل، ويرضى لنفسه، وهو رجل كبير ومحافظ بنك، براتب قليل، وغير مناسب، وهذا إنكار للذات إلى أبعد الحدود، ولا أعتقد أنه يوجد أناس كثيرون لديهم التفكير نفسه (…) حمزة عباس هو الذي أقام القواعد الثابتة للبنك الكويتي المركزي، وجعل المهمة سهلة لمن يأتي بعده، هو رجل أقام البنيان، ولولا البنيان الراسخ ما تمّ البناء، فهو من أقام القواعد الثابتة للبنك المركزي كمؤسسة مصرفية، ذات قيمة، وذات قدم راسخة، بين البنوك المركزية في العالم، ومن استكمل تشييد البنيان، وأقام الصرح، على هذه القواعد الثابتة، هو الشيخ سالم عبدالعزيز الصباح المحافظ السابق لبنك الكويت المركزي، والذي كان تلميذاً لحمزة عباس، وأفاد منه، كما أفاد كل من كان في البنك المركزي”. (ص158-159).
ينتمي حمزة عباس حسين إلى جيل الرواد من الذين عملوا على النهوض بوطنهم في المجالات كافة. لقد انطوت هذه المذكرات على زوايا مشرقة، فحملت في ثناياها ذاكرة مرحلة كاملة يتقاطع فيها الاقتصادي مع السياسي والاجتماعي مع الذاتي. لقد كشفت عن حجم التحديات والآمال والانكسارات وعن مقدار طول الأناة والحكمة التي تمتع بها كثيرون من رجالات الدولة والاقتصاد في الكويت.