قد لا تموتُ الدولةُ الإسلامية، ولكنها فقدتْ قوتَها التفوقية؛ والسياساتُ الأمنية الحكيمة وحدها توقف عودة الشبكات الإرهابية إلى تمرّد مسلّح واسع.
في إحدى ليالي شهر نوفمبر المصرم، قام مسلّحون مُقنَّعون بإطلاق الرصاص على أربعة شبّان في ناحية حمام العليل التي تبعد حوالي 60 كيلومتراً جنوب مدينة الموصل العراقية؛ لم تكن عملية الاغتيال هذه عشوائيةً، حيث كان الضحايا أفراداً في ما يعرف بـ “الحشد العشائري”، الفصائل السنيّة المرتبطة بالحشد الشعبي، وكانت منظمات حقوقية قد سبق لها أنْ أتهمت هذه الفصائل بانتهاكات حقوق الإنسان، كما سبقَ لمقاتلي الحشد العشائري وقياداتهم التباهي علناً بالقتل الانتقامي من المشتبه بانتماءهم لداعش؛ غير أنّ الإغتيال لمْ يكنْ مجرد انتقام أو قصاص، بل يشير إلى ما رآهُ الخبراء والمحللون بوضوح: إنّ داعش يعود إلى العمليات النوعية السرية.
في مقال نشرهُ مركز المسبار بقلم الباحثة سارا برويسكوفيتش، أشارت الباحثة إلى أنّ ما يسمى بالدولة الإسلامية سوف تعود على الأرجح إلى استراتيجية القاعدة، عقب الهزائم المتتالية في العراق وسوريا، والتي تسببت بخسارة معظم الأراضي التي كانت تسيطر عليها. قد لا تكون الخلافة قائمة بعد اليوم، ولكن الدولة الإسلامية باقية عبر شبكات فعّالة، وإن كانت صغيرة، وتعكس الموجة الأخيرة من الاغتيالات ثقة متزايدة لدى مسلحي داعش، وربما كذلك صورة تشاؤمية، قد يضطر سكّان المناطق التي تحررّت مؤخراً إلى التعايش معها في المستقبل القريب.
لا يعّد هذا الأمر مفاجئاً بالنسبة لمتابعي الملف العراقي، فقد شهدت السنوات بين 2006 و 2012 تحوّل إرهاب تنظيم القاعدة إلى شبكات أشبه بالعصابات، ففي مدينة الموصل على سبيل المثال، غالباً ما كان يتكرر السيناريو نفسه: تهديدات لموظفي القطاع العام، ابتزاز الأموال من المدنيين، اغتيال النشطاء والسياسيين، زراعة العبوات الناسفة في الأماكن العامة لاستهداف القوات العراقية وقوات التحالف، وتهديد الأقليات.
ورغم انتشار نقاط التفتيش الأمينة في الشوارع والطرقات، إلّا أنّ المسلحين كانوا غالباً ما ينجحون في اختراقها بسهولة لتنفيذ إحدى العمليات ثم الاختفاء، تاركين وراءهم ضحايا من المدنيين، وقوات أمنية لا تميّز العدو فتستهدف المدني، وسرعان ما ينسى الشارع العام العدو الإرهابي ليصبّ غضبه على القوات الأمنية التي عجزت عن حمايتهم.
عودة إلى عملية الاغتيال الأخيرة التي طالت أفراداً من الحشد العشائري السنّي؛ فكما ذكرنا، لم يكن اختيار الهدف عشوائياً، بل يذكرنا كثيراً بالاستراتيجية التي اتبعتها شبكات الدولة الإسلامية قبيل إعلان الخلافة، وهي استراتيجية استهداف العناصر الأمنية لغرض الظهور بدور المقتص ممّن يريد السوء بالسنّة، وعلى الرغم أنّ الضحايا في سياق الحادثة الأخيرة كانوا أيضاً من السنّة، إلّا أنّهم -في منظور الدولة الإسلامية- كانوا خونة مرتدين، وعملاء لحكومة “الروافض”، كما تطلق داعش على بغداد.
غير أنّ ما يسمى الدولة الإسلامية تتجاهل حقيقة بسيطة: إنّ جميع المظالم لا تصل إلى حد ما عاناه السنّة من أهوال تحت حكم الدولة الإسلامية خلال سنوات ثلاث، وعلى الرغم من أن هناك مخاوف مشروعة من انتهاكات القوات العراقية المعقدة في تركيبها من جيش، وشرطة فيدرالية، وحشد شعبي، إلّا أنّ داعش قد جعلت من نفسها معياراً لكل شرّ، ومقارنة بها، يبدو الجميع مسالماً.
إنّ استهداف داعش للقوات العراقية لن يكسبها اليوم شعبية لدى الشارع، ولكن هذه الحقيقة لا تبرئ الحكومة العراقية من دورها أيضاً.
قد تميل ذاكرة الشارع إلى النسيان إذا ما تواصلت انتهاكات الحشد الشعبي ضد المدنيين، والتي يبدو أنّها، حتى الآن، حالات فردية محدودة، ولكن عدم محاسبة المخطئين والمتجاوزين سيولدُ سخطاً جماهيرياً تجاه بغداد، وهو ما تنجح الشبكات الإرهابية مثل القاعدة وداعش في توظيفه لصالحها، وعلى الرغم من أنّ السياق اليوم لا يسير لصالح هذه الشبكات، إلّا أنّه ليس أمامها سوى ترقّب تجاوزات وانتهاكات القوات العراقية لكي تستغلها. إنّ الكرة اليوم في ملعب بغداد لتقطع على المتطرفين والإرهابيين هذه الفرص المحتملة.
سيكون هناك دعم هامشي للدولة الإسلامية، وهنا لا يختلف العراق عن أي دولة في العالم، حيث لم تنجح أعلى مستويات الديموقراطية والحرية والاستقرار والتقنيات الأمنية في إبعاد شر داعش عن الدول المتقدمة، ولن ينجح العراق في القضاء على داعش كلياً، ولا بدّ من الإعتراف بأنّ حرب الأفكار والمظالم لم تحسم بعد، وما تزال الدولة الإسلامية قادرة على تجنيد المقاتلين لصالح قضيتها، خاصة بين السكّان المنهكين في المناطق التي دمرتها الحرب، وتنعدم فيها الخدمات.
هناك حقيقة لا بدّ من استغلالها لصالحنا: إنّ التنظيمات العملية للدولة الإسلامية اليوم لا تزال في المراحل الأولى، وإنّ القضاء عليها في هذه المرحلة ممكن من خلال التقنيات الأمنية، والتعاون الدولي، الذي يوقف التجنيد وغسيل الأموال والخطف والابتزاز، وحتى الاغتيالات.
لم تمت الدولة الإسلامية، ولن تموت لأجيال قادمة، ولكنها اليوم في مرحلة متقدمة من المرض، ويمكن إطالة أمدّ مرضها إذا تمّ توظيف سياسات أمنية حكيمة.
*باحثة عراقية في مركز المسبار