الناشر: معهد مونتاني، (2018)، (614 صفحة)
قراءة: جورج كتورة
الكتاب عبارة عن تقرير، يصدر سنوياً عن معهد مونتاني -الذي يتخذ من فرنسا مقراً له- حمل التقرير لسنة 2018 عنواناً مستغرباً: «صناعة الإسلاموية». إلا أن هذا الاستغراب يتلاشى كما سنرى مع متابعة القراءة، حيث تظهر الدراسة المطولة أن هذه التسمية لم تظهر من عدم، بل إن لها ما يبررها. وبقفزة متسرعة إلى أواخر صفحات الدراسة المطولة نقع على الجهود المبذولة من حيث الاستناد إلى دراسات متعددة وإلى شخصيات على صلة بالموضوع، ناهيك عن التعريفات التي أريد لها أن تكون تبريراً لمقاصد التقرير. وسيتسنى لنا العودة إلى كل ذلك، ولكن دون تفصيل، نظراً لاتساع المادة وطولها التي تربو عدد صفحاتها على ستمئة صفحة.
كاتب الدراسة أو المشرف عليها هو الأستاذ حكيم القروي، وهو أستاذ خريج معهد المعلمين العالي، درس في جامعة ليون وكان مستشاراً في رئاسة الحكومة الفرنسية، ومستشاراً في بنك روتشلد، وله مؤسسته الخاصة لتقديم النصائح الاستراتيجية.
تأتي هذه الدراسة بعد دراستين سبقتا حول الإسلام في فرنسا وحول سياسة فرنسا تجاه العرب. إلا أن هذه الدراسة ليست مخصصة عن الإسلام، بل عن الإسلاموية، التي هي، وكما نجد تعريفاً لها في الغلاف الأخير، عبارة عن أيديولوجيا معاصرة، قوية، غير معروفة جيداً في الغرب، وهي تهدف لخلق مشروع شامل يعتبر الدين إطار حياة ومشروعاً يصلح للفرد وللمجتمع. والدراسة تطمح لإبراز معالم هذا المشروع وامتداداته في فرنسا وفي أوروبا. ووصف ديناميته انطلاقاً من كون الإسلاموية رؤية للعالم، والكشف عن أماكن وجودها وعن مصادرها. والدراسة من بدايتها تحاول أن توضح أن هذا التعبير أي الإسلاموية تعبير مصدره غربي، وهذا ما لا يقبله لا الإخوان المسلمون ولا الجهاديون. وإن تعددت أسباب وجود الإسلامويين من التهميش في أماكن وجودهم في الغرب، أو من جراء استعمارهم في بلدانهم الأصلية، فهم الآن موجودون ولهم أيديولوجيتهم الفقهية – السياسية القائلة بنقاء الإسلام، والعودة إلى الإسلام الأصيل. هذا لا ينفي فكرة الإصلاح التي ظهرت في أواخر القرن التاسع عشر، والتي دعت لبناء إسلام متجدد، إصلاحي، كان له رواده الذين وعوا بشكل أو بآخر الحداثة ومتطلباتها. إلا أن هذا أيضاً كان وبعد السبعينيات من القرن الماضي سبباً لتجدد الفكر الإسلاموي وازدهار خطابه، بدءاً من الحركة الجهادية في أفغانستان.
وقبل انتشارها في أرجاء العالم ظهرت الفكرة الإسلاموية في أوساط الإخوان المسلمين في مصر والراديكالية في الخليج وفي تركيا. ولاحقاً في أوساط الثورة الخمينية في إيران بعد عام 1979. هذا، وقد تعززت هذه الفئات بجمعيات وبشخصيات أمنت لها استمراريتها وانتشارها في العالم الإسلامي وفي الغرب أيضاً (لا سيما في فرنسا)، وبطرقها الخاصة، إن بواسطة الكتب التي توزع مجاناً غالب الأحيان، أو بأشرطة الفيديو وسواها، أو حتى بالمحطات التلفزيونية التي غالباً ما تمول من قبل دول معينة، أو من مؤسسات دينية فاعلة.
منشأ الإسلاموية
إذا كانت بعض البلدان قد استقرت فيها أفكار ليبرالية كما في الغرب حيث تعززت سلطة الدولة، أو في الصين حيث تعززت فكرة الولاء للسلطة (الزعامة)، فإن البلدان التي خضعت للاستعمار، ومهما كانت الأسباب: وكالات تجارية، أو حتى الاستعمار المباشر الذي توالى على بلدان متعددة امتدت من المغرب إلى الهند وإلى الأمريكتين، فإن حركات التحرر بدأت أيضاً هناك. والباحث يختار نقطة البدء من الهند، مستذكراً الجهود التي قام بها شاه ولي الله الدهلوي (1703 – 1762) (ص29 وما يلي). والذي قاد أفكاراً جهادية تدعو لتحرير الهند. وقد زعمت الدراسة عمق الترابط بين هذا الوسط الثقافي والأوساط في الخليج التي رعت ولادة الأفكار المنسوبة للشيخ محمد بن عبدالوهاب أيضاً. بل إن هذا كان أيضاً تلميذاً لمحمد حياة السندي، العالم الهندي المتحدر من السند، والذي كان أيضاً محمد بن عبدالوهاب واحداً من تلاميذه. إلا أن الدراسة تركز على الطابع الإحيائي للأفكار الدينية التي استخدمت كردة فعل على الاستعمار، وعلى إنشاء المدارس والجامعات في الهند، واستخدام ذلك وسيلة للتحرر بطرحها لأفكار دار الحرب ودار الإسلام، في إشارة لفقدان السلطة لصالح المستعمرين الإنجليز الذين يسمون الموظفين ويسيطرون على القضاء وعلى طبقات الموظفين.
وفي التقليد الذي رسمه شاه ولي الله الدهلوي ظهرت أيضاً حركة سياسية دينية عرفت باسم «أهل الحديث». وقد انتشرت هذه الحركة انطلاقاً من الهند أيضاً، وكانت تهدف لتنقية الإسلام من الممارسات المستعارة، إن من الهندوسية أو من جانب فرق أخرى كالصوفية. كما حاربت الحركات التبشيرية المسيحية التي انتشرت في أواخر القرن التاسع عشر. وقد أقامت هذه الحركة ترابطاً وثيقاً مع الجماعات السلفية. ومن أبرز رجالات هذه الحركة ناصر الدين الألباني (1914 – 1999) الذي قدم إلى السعودية عام 1961 وتولى التدريس في جامعة المدينة، لكنه اصطدم مع علمائها حول قضية لبس الحجاب. فغادر إلى سوريا والأردن. وقد ترك أهل الحديث أثراً بارزاً في باكستان حيث تتكاثر جمعياتهم وتختلف حول مواضيع سياسية كالمشاركة في الانتخابات أو العودة إلى الجهاد.
وإلى هذه الحركات الإسلاموية تضاف حركات أخرى مثل حركة التبليغ التي تأسست عام 1927، والتي استطاعت عام 1984 أن تحشد مليون مشارك في لاهور أتوا من (90) بلداً. وتهدف الحركة إلى أن تكون حركة جماهيرية. وهي تحاول أسلمة مظاهر الحياة اليومية كافة جاعلة من النبي أنموذجاً ينبغي تقليده. هذا إلى جانب طقوس أخرى تتعلق بالصلاة (مع الأفضلية لصلاة الجماعة) والذكر، والتركيز على قول الشهادة بالعربية، والجهر مع إمام الصلاة بإعلاء الصوت معه في تلاوة الفاتحة.
في هذه الفترة أيضاً ظهرت حركة الجماعة الإسلامية، في الهند البريطانية والهدف منها إصلاح المجتمع بالالتزام بالأوامر الدينية. وهنا تعود الإدانة إلى أبي الأعلى المودودي (1903 – 1979) في ترويج هذه الأفكار، والذي أسس حزبه في باكستان وقد آمن بأن على الدولة الإسلامية أن تتولى كافة مظاهر الحياة والمجتمع. وقد شاركت الجماعة الإسلامية في الانتخابات الباكستانية فيما بعد وكان لها نوابها. إلا أن تأثير المودودي قد امتد فيما بعد ليطال الإخوان المسلمين، بل إن مؤلفاته ترجمت إلى اللغة الفارسية وبإيعاز من الخميني.
ومع أن هذه الجماعة كانت فاعلة سياسياً واجتماعياً في باكستان ومشاركة في الحياة السياسية، فإنها استطاعت أن تؤسس لها أكثر من جمعية، وبعضها من الجمعيات الشبابية في المملكة المتحدة.
في باب آخر من هذا التقرير إشارات واسعة إلى الجانب الآخر، الجانب الإصلاحي الذي شهدته هذه الفترة من مثل التنظيمات التي قامت بها الدولة العثمانية في أواخر عهدها، وقيام دولة محمد علي باشا، وإسهام الأفغاني ومحمد عبده في هذه المجالات. هنا يدخل الباحث في فصل ثانٍ حول حركة الإخوان المسلمين.
1- حسن البنا: في أعماله وأفعاله يركز على ما يزعم أنه أسلمة الحياة، والمؤسسات والبنى. فهمه للإسلام هو نظام حياة شامل. وهو يركز على شعبية الإسلام، والسياسة عنده وكذلك المؤسسات القضائية يجب أن تخضع لفهمه للشريعة. وذلك -حسب زعمه- بهدف استعادة عظمة الأمة والوقوف بوجه الانحدار الذي سببته النخب الغربية. وإن كان لا يقول بالخلافة لكنه يركز على فهمه الذي يسميه «سياسة الشريعة»، رافضاً النظم الأخرى من ليبرالية إلى اشتراكية. ساهم الإخوان في الحركات السياسية آنذاك ضد البريطانيين، وتاجروا بعقيدة الجهاد، وسقط العديد منهم وبعضهم بسبب معاداته للسلطة والقيام بالتظاهر ضدها. إلا أن هذه النزعة ازدادت تطرفاً مع سيد قطب (1906 – 1966). استعاد سيد قطب أفكار أبي الأعلى المودودي حول الحاكمية (لا حاكم إلا الله). معتمداً بعدم شرعية «إلا ما أنزل الله». وإن لم يعمل بذلك صاحب السلطة، فهو فرعون. وعدم الأخذ بالشريعة يعني العودة إلى الجاهلية. حتى أثناء إقامته في أمريكا انتقد نمط الحياة الغربية والاختلاط بين الجنسين معتبراً ذلك من الصفات الحيوانية. كتب سيد قطب معظم مؤلفاته في السجن بعد اتهامه بمحاولة اغتيال عبدالناصر. وفي هذه المؤلفات شدد على وجوب إقامة الدولة الإسلامية، أو الحكومة الإسلامية وتبني القرآن دستوراً للدولة. ولا تعتبر مقررات المجالس التشريعية شرعية إلا بالتوافق مع فهم سيد قطب للإسلام. لتحقيق ذلك طالب سيد قطب بما أسماه “الجهاد” من أجل إقامة الدولة التي يرى أنها إسلامية.
2– بعد حرب أفغانستان وصعود نجم القاعدة، إن مع عبدالله عزام أول الأمر أو ابن لادن بعده، انتقل ثقل الحركة الإسلاموية إلى الغرب، وإلى فرنسا، موضوع هذه الدراسة على الأخص. وهنا ظهر ما يعرف «بفقه الواقع»، وإن كان له أصوله القديمة إلا أنه تمت إعادة إحيائه هنا على يد فقهاء وأساتذة مغاربة مثل هيثم آيت يحيا. كما تم إنشاء مكتبات مثل «النواة» تتخصص بنشر الكتب الإسلامية، ومنها كتب يحيى وسليمان الكعبي. هذا إلى جانب الجمعيات مثل «أنا مسلم» وهي تهدف إلى تربية المسلمين على الإسلام الكامل. وقد تم إيقاف هذه الجمعية بأمر قضائي لترويجها للإرهاب لبعض الوقت.
يتابع الكتاب عرضاً تاريخياً موثقاً لعمل ونشاط الإخوان المسلمين في معظم البلدان العربية، رابطاً بين نشاطهم وعلاقاتهم المضطربة مع السلطة أحياناً، أو تلك التي استطاعت أن ترسي سلطة لها في أوقات معينة، كما في مصر، مع الانتخابات التي أوصلت محمد مرسي إلى رئاسة مصر، أو إلى حزب النهضة المشارك في السلطة في تونس بعد بدايات أول ربيع عربي. أو المتحالف معها كما في المغرب. اللافت هنا، عدا العرض التاريخي هو التحول الذي جرى بعد نجاح الثورة في إيران، هو القبول بوجه إسلامي للثورة وتالياً للسلطة. وفي بداية هذه الثورة قام أكثر من لقاء معها للاستفادة من كيفيات تولي السلطة وإجراء انتخابات والتفكير باقتصاد يقوم على أسس إسلامية. وإذ نعرض عن التفاصيل فلوقوعها في إطار تاريخي معروف ما زال إلى الآن حياً بشكل من الأشكال.
الفصل الثالث من الدراسة يتناول الإسلام في تركيا. البلد العلماني الذي يحكم منذ عام 2002 بحزب إسلامي يتسم بصفة قومية يزعم أنها تميزه عن الإخوان المسلمين. لم يقض هذا الحزب على العلمنة كلياً بل دمج قوميتها التركية لتذوب وسط حركة تركية إسلاموية، يتولاها اليوم حزب العدالة والتنمية بقيادة رجب طيب أردوغان الذي يتوالى انتخابه بصورة ديمقراطية منذ أكثر من عقد من السنين. هذا بعد العديد من التحولات والانقلابات التي شهدتها البلاد بعد انقضاء فترة حكم مصطفى كمال أتاتورك، الذي أدخل العلمنة بأوجهها الثورية والجمهورية والشعبوية والقومية والدولتية. وكان للجيش دوره الأساسي في حماية هذه القيم العلمانية إلى فترة ظهور حزب العدالة والتنمية ودخول رجب طيب أردوغان مدافعاً عن قيم جديدة، وعن دور للشأن الديني في تثبيت واقع جديد في البلاد، وقد استعان في ذلك بالطبقات الشعبية وبالمنتمين منهم للفرق الصوفية. ومنذ صعوده يحاول أردوغان احتكار السلطة، وقد نجح في ذلك أخيراً إلا أنه تجدر الإشارة إلى أن الإسلام الأردوغاني هو إسلام أقرب إلى الشأن السياسي منه إلى التشريعي الصرف. وإن كان قد أدخل بعض القيم التي كانت ممنوعة في زمن أتاتورك، مثل الحجاب، وقد سمح الآن به في البرلمان، كما في الجامعات والوظائف العامة. تجدر الإشارة أيضاً إلى تخرج أردوغان في مدارس دينية (مدارس إمام – خطيب) وهذه مدارس لجأت إليها الطبقة الوسطى المحافظة لتتجنب المدارس غير الدينية. وفيها تعرف أردوغان على معظم معاونيه ووزرائه لاحقاً. وإلى جانب دور المدارس الدينية كان لرجال الأعمال المحافظين دورهم في رفع الحزب إلى السلطة وإلى استمراره في هذه السلطة لليوم. يساعده في ذلك عدد من نواب الرئيس وهم جميعاً من المدرسة الدينية نفسها التي تخرج فيها أردوغان.
إلا أن السلطة السياسية ما استطاعت الاستمرارية لولا بعض الإجراءات مثل تقديم التعليم الديني وجعله إلزامياً في المدارس التركية، من المرحلة الإعدادية حتى الثانوية. ولا يعفى من ذلك إلا اليهود والأرمن واليونانيون. وإلى جانب ذلك توجد المدارس القرآنية التي تحوي عدداً لا يستهان به، وبمن في ذلك غالبية من النساء. كما تستحوذ المصاريف الدينية على قسم من الموازنة العامة. الأمر الذي دفع إلى ظهور نخبة محافظة تتولى عملية التحول الاجتماعي والسياسي في البلاد. هذا ما لم يمنع تركيا أن تتحول إلى قوة جيو سياسية، لها مداخلها وصعوباتها مع التوجهات الأوروبية، إلا أنها تمارس سياسة أو دبلوماسية إسلامية شاملة، تتخذ أشكالاً متعددة، تؤيد الإخوان المسلمين تارة لا سيما بعد الربيع العربي وتؤيد الأقليات المسلمة، ومنهم الفلسطينيون، وإن لم تنجح في ذلك كلياً.
أما الفصل الرابع من الكتاب هذا فيتناول إيران. بعد لمحة تاريخية مبسطة لما كان قبل الثورة. والتشيع المقصود هنا هو تشيع سياسي عززته الأمور الدينية المفروضة على الشيعة. مثل دفع الخمس، أو فكرة ولاية الفقيه. فالحالة الأولى عززت نفوذ رجال الدين الشيعة، وهذا ما لا نجده لدى السنة، والحالة الثانية نظمت الأمر السياسي وجعلته امتداداً للإمامة بعد غياب الإمام الثاني عشر. أو لنقل: إنها أحيت الإمامة من جديد. بكل الأحوال لا تستند الحياة السياسية في إيران إلى أسرة حاكمة. بل إن نجاح ثورة الخميني عام 1979 قد أرسى أصولاً أخرى. صحيح أن إيران جمهورية إسلامية، إلا أنها تمارس الانتخاب البرلماني، دون أن يكون ذلك شكلياً فقط، وإن خضع المرشح لقرار مرجعيات أعلى. أما البنية السياسية فهي مزدوجة تتراوح بين المؤسسات الحكومية والمؤسسات الثورية. يسري ذلك حتى على المحاكم. هذا مع العلم أن هذه تتولى الأمور الأخلاقية أيضاً. فالقانون الجزائي غير معمول به عملياً، ومجلس حراس الثورة يقرر مدى تماشي التصرفات مع الإسلام ويحكم فيها. إلى ذلك يؤشر الكتاب إلى تنامي النفوذ الإيراني وتأثيره على الشيعة عامة، وعلى بعض المنظمات التابعة لها مثل حزب الله، وتأثير ذلك على الوضع الإقليمي ككل، ما أنتج القول بوجود «هلال شيعي». كما يشرح الإمكانات المالية والإنمائية والعلمية التي تتمتع بها إيران وحلفاؤها في المنطقة (سلسلة مدارس، مستشفيات، وجامعات، غير بعيدة عن الأجواء الإيرانية).
انتشار الإسلاموية
تمت الإشارة إلى العديد من المنظمات الفاعلة في فرنسا أو في غيرها من البلدان، هذا إلى جانب منظمات فاعلة أخرى مثل الإخوان المسلمين، أو إلى مدارس وجامعات جرت الإشارة إليها في القسم الأول من الكتاب. هذا إلى جانب المنظمات ذات الطابع الخيري سواء كان ذلك بإيعاز من دول معينة، أو من منظمات (كالإخوان المسلمين). إلى ذلك يضاف تأثير اللاجئين والطلاب الوافدين، كما الجماعات المهاجرة، وإليهم يضاف دور الوعاظ في الهيئات الدينية. وهم لهم حضورهم على شبكات الاتصال.
تستفيد هذه المنظمات وهذه الجهات من دعم تقدمه جهات خليجية إن مالياً أو من خلال وثائق، تدعم جهات شبه رسمية تنادي بوحدة الأمة. إلا أن وحدة الأمة لا يعني عدم امتدادها، وهذا ما يجب أن يتأمن بالدعوة، وهذا ما تؤمنه النشرات والمجلات، التي جعلت من أهدافها محاربة الناصرية ومن ثم الخمينية. إلا أن الشعور قد بدأ الآن بالتغير، حيث إن سياسة الانفتاح الجديدة قد دفعت نحو التخفيف من حدة هذه الأفكار.
نجد منظمات أخرى مثل التجمع العالمي للشبيبة المسلمة (تأسست عام 1972) وهي تحمل بصمة الإخوان المسلمين. ولها فروع في بلدان عدة مثل بريطانيا. تشكل هذه مجتمعة شبكة لا تخلو من تأثير الدول عليها والإخوان، وإن كان تأثيرهم قد خف أخيراً.
يتحدث الكتاب عن مدى انتشار الإخوان المسلمين وتأثيرهم في أوروبا التي تعتبر الإقليم الثاني بالنسبة إليهم بعد البلدان العربية. والكتاب يؤرخ لبداية هذا التأثير بوصول سعيد رمضان إلى سويسرا وإقامته منذ عام 1958 في جنيف في فيلا يملكها أمير قطر وقد حولها إلى مركز إسلامي. وسعيد هو زوج ابنة حسن البنا. ومن أولاده طارق رمضان، الذي سيكون له تأثيره لاحقاً. ومن جنيف إلى ألمانيا حيث أسس مركزاً إسلامياً في ميونيخ عام 1960، وبتمويل مشترك. وإلى جانب المركز أقام مدرسة دينية وبذلك تحولت ميونيخ بين 1970 و1980 إلى مركز من مراكز قوى الإخوان المسلمين. وإلى جانب رمضان يشار إلى عصام العطار السوري الأصل، الذي ظل صاحب نفوذ حتى عام 1997 في جامع بلال (في مدينة Aix – فرنسا). وعلى رأس منظمة أطلق عليها اسم الطلائع (اللافت للنظر أن عصام العطار هو شقيق نجاح العطار نائبة الرئيس السوري حالياً).
يشير الكتاب إلى براعة الإخوان في التلاعب، الذي يسميه التخاطب، أو في مخاطبة الرأي العام الغربي. وإن كانت ظروف الهجرة المغاربية – والجزائرية قد ساعدت على وجود إسلامي كبير في أوروبا (لا سيما في فرنسا). فإن التأطير قد حدث لاحقاً وبفضل الإخوان. ولعل طارق رمضان (كان هذا قبل اتهامه بقضايا أخلاقية) من الشخصيات المميزة في توصيل الخطاب الإسلامي لأوروبا، إذ قدم خطاباً جامعاً للأديان مع التركيز على إيجاد فقه خاص بالأقليات في الغرب. أما في بريطانيا، واستناداً إلى القانون الذي يعترف بوجود الجماعات، فإن الإخوان يستفيدون من ذلك بمدارس خاصة. وهذا ما يجعلهم يركزون على حفظ الهوية، أو الحفاظ على الإرث الإسلامي. وذلك بالاستناد إلى القرآن والسنة. وهذا ما يسهل القول بأخلاق محافظة، قولاً وعملاً ووصولاً للاعتراف بهم جماعة لها كيانها في أوروبا.
وقد استطاعوا بواسطة جمعياتهم الخيرية التواصل مع جماعات أخرى، في البوسنة، أو في سوريا، أو حتى مع المسلمين الروهينغا أخيراً. لكن ذلك لا يقلل من اهتمامهم بالداخل، إذ وبعد الثمانينيات أصبح الإخوان أكثر قبولاً للاندماج، بدل التطلع المستمر إلى بلدان الأصل. ولعل طارق رمضان من الممثلين لهذا التوجه الجديد «فهو ناشط ثقافي حر، جدلي يربط الاعتبارات السوسيولوجية والسياسية والفلسفية الفقهية بالواقع المعاصر» -تذكير ثانٍ: صدر التقرير قبل الفضائح الأخلاقية لطارق رمضان-. وهذا ما يجعل خطابه أقرب إلى المحافظة وإلى اليسار السياسي. إذ يعمد لإقامة فقه شامل ينظم كافة مجالات الحياة والمجتمع. معتمداً التأويل لمطابقة النص مع السياق كما يقول في كتبه. والهدف الأبعد هو الاعتراف بالمسلمين كجماعة تتعالى على اختلافات الأصول. وإذا كان من الصعب على الإخوان الوصول إلى السلطة، فعلى الأقل بإمكانهم الحفاظ على أولية الفئات الدينية وسط الفضاء العام. وهذا ما يندرج في إطار البحث عن الهوية. أو الحفاظ عليها. أو على الأقل أنهم يخوضون معركتهم من أجل الاعتراف بهم. وإن كان النجاح ليس حليفهم باستمرار وفي كل البلدان الأوروبية. وإن كان الإخوان في بريطانيا يميلون إلى أفكار أبي الأعلى المودودي، فإن ترابطاتهم لا تقل عما هي عليه في ألمانيا، والكتاب يتبع منهجية مشابهة، ويقدم سرداً للشخصيات ولأعمالهم ولجمعياتهم، وهو سرد متشابه -إلى حد ما- بين معظم هذه البلدان. ويختم الفصل الثاني هذا بتقديم بعض الفتاوى التي تحاول أن تؤكد وسطية فقه الأقليات كما يجب أن يمارس في البلدان الأوروبية، أي خارج بلدان الإسلام!
أما الفصل الثالث من هذا القسم، فمخصص لتأطير الشتات التركي بواسطة الدين. ففي بداية الهجرة التركية لم يكن ثمة سعي لتأطير الأتراك المسلمين في بلدان الشتات. حتى إن أولى المنظمات الناشئة في هولندا، والتابعة للعمال الأتراك كانت اشتراكية التوجه. وبعد الثمانينيات باتت أنقرة وبواسطة إدارتها الدينية هي التي تتمنى تأطير كافة مظاهر الحياة الدينية في الشتات. فأرسلت الأئمة إلى أوروبا، وأقامت اتفاقات ثنائية مع البلدان المضيفة. وكان يصار إلى تربية هؤلاء الموظفين الدينيين في تركيا، حتى لو كانت أصولهم من بلدان الشتات. هذا مع الإشارة إلى محاولات إعطاء دروس إسلامية في الجامعات الألمانية، وإنشاء مركز دراسات في فرنسا لتخريج الوعاظ، إلا أنه لم ينجح كلياً، لعدم قبول معادلة شهادته.
إلا أن للأتراك جمعياتهم التي تتمتع بعدد كبير من المؤيدين، وإن كانت تتلاقى في بعض تعاليمها مع تعاليم الإخوان المسلمين بالاستناد إلى أبي الأعلى المودودي أو حتى أخيراً إلى طارق رمضان. إلا أن التحول في تركيا إلى حزب العدالة والتنمية وزعامة أردوغان، قد أثر أيضاً على الجمعيات التركية ودفعها إلى التحول نحو تبني سياسته. هذا دون أن ننسى تأثير ساسة آخرين مثل غولين الذي كانت له، كما في تركيا، مدارس يديرها في أوروبا، وفي أنحاء أخرى، لكن أردوغان قد طلب بعد الانقلاب الفاشل عام 2016 بإقفالها. وقد تم إقفال بعضها بالفعل. وقد تضاءل عدد الطلاب في بعضها الآخر، (ألمانيا على سبيل المثال).
أما عن الراديكالية في أوروبا، فيشير الكتاب إلى أكثر من نوع، فبعضها مسلح ثوري، وآخر لا سياسي. يريد فقط العمل بموجب النصوص الأساسية (القرآن والسنة). وبوجود الحركة السلفية في المغرب حيث حركة الذهاب والإياب بين فرنسا والمغرب متواترة وقائمة على الدوام. إلا أن انتشار حركة التبليغ (غير المعروفة جداً في فرنسا) وارتباطها بأصول هندية منذ عشرينيات القرن الماضي قد أثرت جداً على المسلمين الهنود والباكستانيين في بريطانيا. ولها مساجدها في بريطانيا وفرنسا وبلجيكا. ولهذه الحركة -كما يوضح جيل كيبل- طقوسها، وقد جذبت حتى بعض الأوروبيين إلى صفوفها. وهي تتوجه عادة إلى طبقات فقيرة أو في أوضاع اجتماعية صعبة، وللحركة طرقها الخاصة في تجنيد الأتباع وطريقتهم تعرف بالخروج، إذ يخصصون بضعة أيام للاهتمام بأحياء معينة، يقيمون الصلاة في المساجد ويتحدثون إلى الناس ولكن هذه الحركة باتت ضعيفة جداً هذه الأيام.
ومن رحم هذه الجمعية خرجت جمعية إحياء منهاج السنة، وإن من أصول بنغلاديشية. وفي لندن تركز العديد من أصحاب الفكر السلفي، أمثال أبي قتادة، وأبي حمزة المصري، وقد دعا هؤلاء للجهاد في أفغانستان وفي البوسنة. وكان لهم أتباعهم من أصول آسيوية، وحتى من بعض المنتسبين إلى الإسلام. وبعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) والأحداث في لندن عام 2005 تم -إلى حد ما- القضاء على هذه الحركات. فبعض الأعضاء بات في السجون، وبعضهم الآخر عاد إلى بلدان المنشأ.
هذا لا ينفي صعود نجم بعض السلفيين، ومنهم من انتسب إلى الإسلام ودرس في الجامعة الإسلامية في المدينة، مثل الكندي بلال فيليبس، أو بيير فوغل وهذا من أصل جامايكي، وهما يقولان بآراء متطرفة ضد النساء وضد مثليي الجنس، بل إن بلالاً يشكل مرجعية للسلفيين الغربيين. الأمر الذي أوصل أخيراً ألمانيا إلى منع بلال فيليبس من الإقامة في ألمانيا. وللسلفية الجديدة هذه أوجه أخرى. إذ يعترض فوغل على الديمقراطية الغربية ولا يمانع بتعدد الزوجات، بل وبالزواج من القاصرات، كما لا يمانع في إنزال الحدود الجسدية. وهو يجول في أنحاء من ألمانيا حيث يتكاثر عدد المسلمين في بعض ولاياتها. وقد تعززت هذه الحركة أيضاً ببعض المدارس الموازية ذات الطابع الديني الصرف، التي لا يتردد عليها الأطفال وحسب بل والبالغون أيضاً، وبعضها في باريس ومرسيليا. واللافت أيضاً هو تنظيم هذه الحركة السلفية، حيث تنقسم التراتبية فيها إلى سلفيين خلَّص وإلى معجبين أو مريدين، وإلى مؤيدين وأخيراً عامة المسلمين الذين يؤيدون هذه المنهجية في الحياة. وفي أوساطها تمارس الحسبة التي تعتبر من الفرائض بحسب بعض أعلام السلفية، أمثال هيثم الحداد في بريطانيا. ويتولى رجال الحسبة ملاحظة السلوك الأخلاقي، مثل منع شرب الكحول، ووجوب الالتزام بلباس الحجاب. ناهيك عن التبشير أو الدفع إلى اعتناق الإسلام، الأمر الذي يعتبر جزاؤه الأكثر ثواباً. ولا يتردد هؤلاء عن الدعوة «للدين الحق» كما هو الحال في ألمانيا بمؤازرة من وجوه سلفية بارزة. بل إن هؤلاء يقومون بتوزيع (25) مليون نسخة من القرآن في البلدان الناطقة بالألمانية.
أما السبل المتبعة في تعميم هذا الخط ونشره، أي نشر الحركة الإسلاموية، فهي اعتمدت طرقاً متعددة. منها الكتب الإسلامية التي أخذت مكانها في المدارس القرآنية، ومنها أيضاً التسجيلات، أو الكاسيتات والسيديهات التي راجت بقوة وكانت بمثابة أداة نشر متنقلة لهذه الأيديولوجية. وإلى جانب ذلك المكتبات العامة التي انتشرت في أماكن أو حول أماكن سكن المسلمين في فرنسا مثلاً. وهذه لا تقدم الكتب وحسب، بل تقدم أيضاً «حزمة كاملة» مما يعتبر إسلامياً محضاً. أكل حلال، بل تبيع مياه زمزم والبلح والتمر والعسل. مركزة على ندرة هذه المواد وعلى تطابقها المفترض مع الشرع الإسلامي. بل إن هذه المكتبات تبيع أيضاً الألعاب، والعطور والعباءات والجلابيب والقبعات وأدوات التجميل… إلخ، مما تعتبره واجباً على المسلم. فليس نادراً أن تجد فيها كتب وفتاوى القرضاوي، وغيره. وهذا إلى جانب كتب المستشرقين والشعر والدراسات الأدبية والسياسية. ومن أبرز الكتب التي يشار إليها في هذا الكتاب، كتاب «منهاج المسلم» وقد ترجم إلى الفرنسية. وفي الدراسة عرض لمضمونه الذي يتآلف بقوة مع النزعات الراديكالية. بل إن لبعض الأحزاب الإسلامية، مثل حزب النهضة التونسي مكتبته أيضاً، الأمر الذي يتيح نشر أدبيات هذه الأحزاب، كما يشكل ذلك جزءاً من تمويلها. ناهيك عن المطبوعات المحلية (مجلات إسلامية بعضها يصدر في فرنسا) والكتب المستوردة من الشرق التي عرفت بعد عام 1979 فورة هائلة، لا سيما بعد الثورة الإيرانية، وبعد قبول العديد من المسلمين العيش في أوروبا، من خلال الهجرة، أو لمّ الشمل الذي ظل معمولاً به. تتعزز هذه الحركة بترجمات القرآن التي توزعها السعودية عادة. بل إن أكثر الكتب رواجاً في السجون كانت الكتب الإسلامية، مثل كتاب التوحيد لمحمد بن عبدالوهاب إلى جانب كتب ابن القيم، تلميذ ابن حنبل.
إلى هذه المجموعات الإعلامية يضاف سلسلة من المحطات التلفزيونية والإذاعية التي يملكها خليجيون (والجزيرة مثال على ذلك). وهنا لعب القرضاوي دوراً لا يستهان به. لكن الجزيرة عرفت شهرة واسعة بعد ذلك بتغطيتها لأحداث المنطقة (حرب العراق). المروجة للربيع العربي، لا سيما في مصر. أما في فرنسا فكانت الجزيرة أداة نشر للأسلمة، وقد غطت كل الأحداث ذات الصلة بذلك مثل الحجاب في المدارس، وحوادث القتل والتركيز على رهاب الإسلام وكراهية المسلمين. وقد تطرقت إلى ذلك في برامجها مثل «لقاء اليوم» و«الشريعة والحياة» التي كان القرضاوي المحاور الأساسي فيها.
وبموازاة هذه المحطات عمد بعض الإسلامويين -وبتمويل خليجي- إلى إنشاء محطات في فرنسا أو في بريطانيا. بل إن الإحصاءات تثبت أن (59%) من أصل (2.7) مليون مسلم في بريطانيا يتابعون محطة (Islam Channel).
يتناول القسم الرابع من هذا الكتاب جانباً مهماً، وهو الحركة الإسلاموية في الغرب. بدءاً من فرنسا. مع تأكيد أقلوية الإسلامويين بين مسلمي فرنسا. ومع تقديم لمحة عن الهجرة إلى فرنسا، إن بسبب حرب الجزائر أو بغيرها، فإن الدراسة التي بين أيدينا تقدم رسماً لهذه المجموعات يقوم على تصنيفهم لفئات بعضها شديد التدين وبعضها الآخر أكثر تقرباً من الحياة العلمانية في فرنسا. ومع ذلك لا تستبعد وجود فئات أو مجموعات تتبنى نظام القيم الإسلامية المعارضة لقيم الجمهورية. واللافت للنظر أن الشبيبة في هذه المجموعات هي الأكثر تطرفاً، على ما تظهر الدراسات والإحصاءات. بل إن بعض من أجريت معهم مقابلات لا يتورعون عن القول بأنهم مستعدون للقتال من أجل الإسلام. والملاحظ هنا أن الدراسة تركز على دور المدرسة ولكن الدور الأبرز لتغلغل أفكار الحركة الإسلاموية، يعود إلى حركة التبليغ التي مهدت الأرض لذلك وإلى دور الإخوان المسلمين الذي تعاظم بعد حدثين هامين، حدث منع الحجاب عام 1989 في مدينة (Creil)، ومنع كتاب سلمان رشدي في بريطانيا. هنا بدأ صعود نجم حركة الإخوان المسلمين في قيادة المسلمين في أوروبا (لا سيما في فرنسا). بل «إنه طلب إلى الإخوة الكبار مراقبة الأخوات ورفض تدين الآباء» الذي كان أكثر تساهلاً. (حادثة Creil = هي رفض المدرسة استقبال ثلاث طالبات محجبات، ومع أن المدرسة عادت عن قرارها، إلا أن الحادثة استغلت بقوة). هذا وفي 2003 أوصت لجنة ستاسي التي أعلنها جاك شيراك لتطبيق العلمنة كلياً بمنع الإشارات الدينية. إلا أن ردة الفعل من جانب الإسلامويين كانت كبيرة، وقد تمظهرت بمظاهرات في العديد من مدن فرنسا، ودول الشرق الأوسط (أنقرة – عمان – بيروت). وكان للحركات الإسلاموية فيها اليد الطولى توجيهاً وإدارة. مع أن المجلس الفرنسي لرعاية المسلمين بريادة دليل أبو بكر لم ينصح بهذه المظاهرات.
أدى ذلك إلى بروز حركات سلفية لا سيما في الأوساط الشبابية، وقد حلت هذه مكان الحلقات أو التيارات الإخوانية. حيث صار التركيز أكبر على إبراز أو الحفاظ على الهوية. وقد تركز ذلك في أوساط المدن العمالية مثل مرسيليا أو حتى في ستراسبورغ حيث مستوى البطالة والفقر أكبر من سواه. واللافت للنظر أن هذه الحركات ترفض الاندماج بدافع الانطواء الجماعاتي. وإذا كانت الهوية الإسلاموية في صلب تفكيرها، فذلك ليس بدافع سياسي أو اجتماعي بل بدافع ديني. وإذا كانت الجماعوية علامة دمج عند الجيل الأول فهي عند الشباب أداة قطيعة، قطيعة تعتبر حلاً وغاية بحد ذاتها. لنذكر أن «الإسلام» بمعناه الحرفي يعني الخضوع لله، وهذا ما يفعلونه بالعودة إلى السلف الصالح. بل إنهم يرون في انحطاط العالم الغربي، كما يرونه علامة على نهاية الزمان. بل هم يفسرون تصرفاتهم نسبة إلى الأحاديث المروية «فيلعنون الرجال الذين يتشبهون بالنساء والنساء اللواتي يتشبهن بالرجال». بل يذهبون في الفتاوى إلى الابتعاد حتى عن جيرانهم المسيحيين، استناداً إلى فهمهم لحديث «المسلم أخو المسلم» وما يلزم عن ذلك من عدم تعايش. مما يوصل إلى حد القول بأن الخلاص يعني الابتعاد والعزلة. الأمر الذي أوصلهم إلى القول بعالم الكفار المنفصل كلياً عن عالم الإيمان الأمر الذي يستوجب الهجرة. والهجرة هنا تعني الانفصال عن العيش وسط الجماعات الموجودة بل العيش جماعاتوياً، في جماعتهم المنعزلة.
بما أن هذا الزمان قد صار أدنى مما كان عند بداية الإسلام فلا بد من العودة إلى التعاليم الأولى لتأمين الخلاص والعودة إلى الحلال: ملبساً، ومأكلاً وطريقة حياة. الأمر الذي هيأ المجال لظهور مؤسسات تجارية ودينية تعنى بذلك، الأمر الذي خلق مصالح تتقاطع فيها النيوليبرالية مع الإسلامويين. هكذا صار يروج للرحلات الحلال، والفنادق الحلال وللطعام الجاهز الحلال، بل أدى الأمر لاستحداث أسواق إسلامية أوروبية. ففي 2018، استقبل سوق بورجيه (170000) زائر. إن تعبير الحلال الذي يعزى أولاً إلى المأكل قد صار تعبيراً عاماً، ينطبق على اللبس: عباءة المرأة التي تستوجب توافر شروط، منها: تغطية الجسد، وعدم لفت النظر، وعدم تشابهها مع لباس الرجال… إلخ. وقد امتد الأمر أخيراً إلى لباس البحر، فكانت تجربة «البوركيني». لن نتتبع المزيد، بل نؤشر لهذه النقلة التي أوجدت الحركة الإسلاموية في أوروبا، بناء على كل ما تقدم من مقدمات فقهية، وسياسية وحياتية.
تركز الدراسة بعد ذلك على الأبعاد التي يحتلها الإسلامويون على وسائل التواصل الاجتماعي. مثل تويتر، وفيسبوك، وما لدى بعض إعلام هذه الحركة من متابعين. وما للصفحات الإسلامية من جمهور. وإن كنت لن أعرض لذلك بالتفاصيل كما هو في الدراسة. يكفي أن أشير إلى أن لموقع الأخبار الإسلامية من المتابعين ما يفوق متابعي الاتحاد الفرنسي لكرة القدم، وأن لطارق رمضان -آنذاك- أكثر من مليوني متابع. بل إن بعضهم قد استطاع عبر فيديوهات أن يؤمن له جمهوراً يفوق ما يؤمنه كاتب أو مثقف. وللتمثيل على ذلك تقدم الدراسة اسم محمد بجرافيل، الذي كان بطلاً في الكينغ بوكسينغ، وهو من أصل مغربي تحول إلى الدراسات التاريخية والإسلامية، والذي بسبب اعتداله فإن المتابعين الراديكاليين، مع أن عدد المشاهدين لفيديوهاته يرتفع إلى (8) ملايين مشاهدة، يتساوى بذلك مع أبي مسلم – وهو إخواني. (المقارنات نجدها على الصفحة «498» من الكتاب) والصفحات اللاحقة تقدم مزيداً من الأسماء ومن الإحصاءات.
تتميز الحركات الإخوانية بمواقعها على الشبكة العنكبوتية وهي مواقع منظمة وعلى اتصال ببعضها بعضاً كما بالمؤيدين لها، سواء كانوا من السلفيين المعتدلين أو حتى المتطرفين. فللوعاظ حساباتهم لا سيما على تويتر، بل للعلماء أيضاً متابعوهم، وقد يصل عدد المتابعين عند بعضهم إلى أكثر من (2.5) مليون متابع. لعل سليمان الهاييتي، وذلك نسبة إلى مكان ولادته (هاييتي)، وكان كاثوليكياً اعتنق الإسلام وهو في السادسة عشرة من عمره، من أبرز الأمثلة. وقد تتلمذ في جامعة المدينة على مشايخها. والدراسة تقدم أسماء أخرى من أصل فرنسي ولهم موقعهم على الشبكة مثل عبدالمالك أبو آدم. ومن الناشطين أيضاً مهدي أبو عبدالرحمن الذي عرف بترجماته للتعاليم إلى الفرنسية. هذا ناهيك عن العديد من الناشطين الذين لا يعلنون أسماءهم إن في الفضاء الفرنسي أو الأنغلوساكسوني. (تقدم الدراسة تفصيلات لهذه الشبكات ولبعض الأسماء الهامة عليها، كما تقدم سلسلة لبعض المفردات المفاتيح التي ترد عليها. مثل: كافر – مرتد – منهاج سلفي – دار الكفر – بدعة – حقيقة – خروج – منافق… وإلخ). ومن متابعة هذا التسلسل نصل إلى مواقف متشابهة في بلجيكا مع تغليب هنا لعنصر الهجرة المغاربية، إلا أن ما يرد لا يتباعد كثيراً عما أوردنا. لذلك ننتقل إلى النتائج. وإلى التعليق.
الحركة الإسلاموية أيديولوجيا قائمة بذاتها، لها تفسيرها للعالم، ولمعنى الحياة، ولقدر المسلمين المشترك. وهي أيديولوجيا فرضت نفسها، بالاستناد إلى ما تقدم من بنية تحتية أتاحت لها الوجود (المال، التأييد السياسي، حركات دينية منظمة، إخوان مسلمون، وريادة بعض الإعلام المشهود لهم أولاً ثم لأتباعهم لاحقاً). وإن كانت هذه الحركة قد جنحت باتجاه عنصري، أو حتى معادٍ للسامية وهذا ما نجده في التغريدات، بل في تصرفات بعض قادتها. فإن الدراسة ومن موقع أوروبي تدعو إلى مقاومة ذلك بالعقل. وإلى دعوة الدولة (أو الدول الأوروبية) إلى رقابة هذه الحركة، وإلى العمل من داخلها إن صح التعبير، وذلك من خلال اقتراحات منها رعاية تربية الأئمة والوعاظ من خلال معاهد متخصصة، ومن خلال تولي وزارة التربية الوطنية بث ما يتعلق بالعلمانية الصحيحة، ومن خلال تشجيع المسلمين المعتدلين الذين التزموا الصمت حتى الآن ليكون لهم صوتهم المعارض للإسلاموية الدينية والسياسية. هذا إلى جانب طرح التعاون المشترك مع بلدان المنشأ، سواء في المغرب أو في بلدان الخليج. وطرح الأمور بهدف إيجاد خطاب مضاد للإسلاموية. والدراسة تشير إلى بدء لقاءات من هذا النوع، وهي ربما تأمل خيراً في المستقبل.
وإذا كان لا بد من بعض الملاحظات فلنا أن نضيف ما يلي:
1- الدراسة المطولة هذه، جديرة بالنقل إلى اللغة العربية، وهي دراسة أكاديمية بكل معنى الكلمة. صحيح أن طابعها نقدي، أو انتقادي، وهذا من حق الواضعين لها. فالإسلاموية المقصودة هي التي وصلت إلى بلد الواضعين للدراسة وهم بالطبع ليسوا معها. ولكن من حق القارئ العربي أن يعرف كيف تبنى الدراسات العينية والنقدية.
2- الدراسة منهجية، والفصول فيها تتشابه من حيث التركيب والتوليف. لمحات تاريخية، تسلسل زمني يترصد الأفكار والشخصيات وارتحال هذه الأفكار مع الشخصيات من موطنها الأول، أياً كان موضعه باتجاه الغرب. وأياً كانت الأسباب، تبشيرية، سياسية، أو مجرد الهروب من عسف الحاكمين هنا أو هناك.
3- الدراسة موثقة بتفاصيل شاملة. أعرضنا عن بعضها في ثنايا هذا الملخص، وأشرنا إلى بعضها. بالعودة إلى الدراسة سيجد القارئ أكثر من شكل للعرض. فعدا السرد الواضح ثمة صفحات، ملونة، أو رمادية، وهي بمثابة استطرادات تعطي مزيداً من التفصيل حول بعض الأشخاص. حول بعض الكلمات المفتاحية. إن بشرحها أو بتواترها، أو حتى بسوء تفسيرها أحياناً.
4- تقدم الدراسة العديد من الجداول الإحصائية أو البيانية حول العديد من النقاط: عدد المسلمين في أوروبا، توزعهم، أماكن وجودهم، حتى مع ذكر الأحياء التي يسكنون فيها. كما تقدم تفصيلات بيانية لانتشار أفكار الحركة الإسلاموية عبر أجهزة التواصل. وتقدم بيانات بأعداد المتابعين لبعض أعلام هذه الحركة.
5- الدراسة بتفاصيلها المتشابهة تقرأ جملة وتفصيلاً. للمهتم أن يختار الإقليم الجغرافي الذي يريد ويتابعه. هذا لا ينفي الترابط، بل يعزز فكرة تواصلية الحركة الإسلاموية.
6- إذا كانت الدراسة قد انتهت بنوع من التفاؤلية، من حيث تقديم العقل على الخوف، العقل لفهم آلية انتشار الحركة ونوعية أفكارها ولعدم بث الخوف والاضطراب. فالمجتمعات الأوروبية متماسكة، وفيها أكثر من وسيلة لتأمين الاندماج. هذا الاندماج الذي لا يبدو موجوداً في طيات الدراسة بوجه عام.
7- إن اكتشاف الإسلاموية ليس جديداً، لكن هذا البحث يعزز هذا الاكتشاف كماً ونوعاً، إنها دراسة وافية، جامعة جديرة بالقراءة.