تمهيد
لم أجد من بين الكتب الاستخبارية التي اطلعتُ عليها كتابًا يلبي حاجة ورغبة المهتمين في العمل الاستخباري، من فئة الشباب على وجه الخصوص والتوَّاقين لمعرفة الحياة السرّية في أروقة أجهزة المخابرات وآلية عملها ونشاطها، ابتداءً من الحس الأمني والأمن الشخصي وآليات تطوير قدرات ضباط المخابرات وصولًا إلى عمليات التجنيد والحصول على المعلومات وآليات التعامل مع المعلومة وكيفية توظيفها.
لم يشهد التاريخ كارثة مرّت على أجهزة المخابرات في العالم كما حصل مع جهاز المخابرات العراقي السابق إثر الغزو الأمريكي الهمجي للعراق. وفي الغالب عندما تسقط الأنظمة يستولي النظام البديل على أرشيف المخابرات مثلما حصل مع جهاز السافاك الإيراني وأجهزة الاستخبارات في رومانيا وألمانيا الشرقية والاتحاد السوفييتي إلا في العراق حيث تمَّ إتلاف الجزء اليسير منه واستولى اللصوص والعامة من الناس والجيش الأمريكي ومخابرات الدول الأخرى على أرشيف الجهاز والجزء الأكبر تمَّ نقله إلى الولايات المتحدة الأمريكية وإيران وإسرائيل. لذلك سيكون الكتاب مُتحررًا من قيود كشف الأسرار والخفايا إلا بالحدود التي لا تسمح لنا قيمنا الوظيفية والأخلاقية من نشرها.
إن الجهاز لم يعد قائمًا بل ليس له أثر بينما أسراره أصبحت في متناول الأعداء ولا بدَّ للشعب العراقي والعربي أن يطّلع على جزء من أسرار وخفايا تلك المؤسسة العملاقة التي شغلت بال العامة من الدول خاصة في منطقتنا العربية.
في هذا الكتاب أقتفي أثر جهاز المخابرات العراقي ابتداءً من نشأته ومراحل تطوره وآليات عمله وهيكله الإداري والتنظيمي وقدراته الاستخبارية التي جعلت منه واحدًا من أكفأ أجهزة المخابرات العالمية بشهادة الأعداء أنفسهم لقدرته على الصمود في مواجهة أجهزة المخابرات المعادية القريبة والبعيدة وفي مقدمتها جهاز المخابرات المركزية الأمريكية وجهاز الموساد الإسرائيلي وأجهزة إيران الاستخبارية والبعض من مخابرات الدول العربية، ومهما كتبتُ عنه فإني لن أعطية حقّه في كتاب واحد حيث يحتاج ذلك إلى مجلدات. كما سأعرض أهم التحدّيات التي واجهت عمل جهاز المخابرات وسبل التصدي لها والتغلب عليها، وسيكون الكتاب وثيقة تاريخية لطبيعة وآليات عمل الجهاز خلال فترة حكم الرئيس الراحل صدام حسين في مراحل متعددة من صفحات المواجهة الشاملة للتحديات الأمنية التي واجهت النظام على مدى 35 عامًا.
إن أي مفصل في أجهزة المخابرات لا يمكن أن يكون مُلمًّا أو مُطّلعًا على مجمل الأحداث والمنجزات، خاصة عندما تكون الأحداث خارج نطاق مسؤولياته في التشكيلات الاستخبارية التي عمل بها، وذلك لخصوصية العمل وتغيير المناصب باستمرار والسرّية التامة في تداول الملفات على قاعدة (اليد اليسرى ينبغي ألا تعرف ما تفعله اليد اليمنى)، لذلك لا أدّعي المعرفة الشاملة بعمل الجهاز وإنجازاته سوى الجزء اليسير منها.
كل ما أذكره في الكتاب ناتج عن عمل ميداني من موقع المسؤولية وما علمت به في أروقة الجهاز الداخلية وتجربتي التي استمرت 25 عامًا سبقتها الدراسة الأكاديمية والتدريب الاستخباري والعسكري في كلية الأمن القومي لثلاث سنوات تقويمية، وسأسعى أن يكون هذا الكتاب جامعًا بين النظرية والتطبيق وبين العلم والمعرفة.
إن العمل الاستخباري الناجح غالبًا ما يلفّه الغموض والكتمان، وما يتصدَّر المشهد هو الفشل لأن الفشل مكشوف والنجاح سري، تلك هي طبيعة عمل أجهزة المخابرات. وغالبًا ما يتم تقييم أجهزة المخابرات على أساس الفشل الظاهر وليس النجاح الخفي. كما ليس بوسعي أن أكتب كل ما أعرفه لأن الكثيرين ما زالوا أحياء والأحداث ما زالت ساخنة وكثير من العمليات الاستخبارية ستبقى طي الكتمان إلى الأبد لما لها من مساس بسمعة شخوص فاعلة أو قضايا لا ينبغي كشفها. وأود التأكيد أن ما سيتم عرضه في هذا الكتاب من عمليات استخبارية خاصة لا يعني أنني مشارك فيها بأية صفة كانت، إنما من خلال بعض الوثائق وما علمتُ به من رفاقي الذين كانوا على اطلاع مباشر أو غير مباشر أو شهود على تلك الأحداث، بالنظر لعدم وجود مصادر مكتوبة وموثّقة عن جهاز المخابرات بسبب تلف جزء كبير من الأرشيف والاستحواذ على الجزء الأكبر من قبل قوات التحالف وأطراف إقليمية، وأود الإشارة مسبقًا إلى احتمال وجود بعض الاختلافات البسيطة في تواريخ بعض الأحداث أو تداخلات بين المواضيع أو نقص في تفاصيل الحدث بسبب الاعتماد على الذاكرة، لذلك فإني التمس منكم العذر مسبقًا.
تجدر الإشارة أيضًا إلى أن أساليب العمل الاستخباري قد تغيّرت خلال الفترة الممتدة من عام 2003 وحتى تاريخ إصدار هذا الكتاب، خاصة بعد التطور الهائل في مجال تقنيات الاتصال والمتابعة والرصد والتنصت والتجسس السيبراني، كما ظهرت الكثير من المفاهيم الاستخبارية والوسائل التجسّسية الحديثة، ولكن تبقى أساسيات العمل المخابراتي ذاتها وهي الحصول على المعلومة المصنّفة وكيفية توظيفها، ويبقى العامل البشري هو الركن الأساس في عمليات التجسس الاستخباري ومكافحة التجسس مهما بلغت التكنولوجيا الاستخبارية من تطور.
من الصعب التقيّد حرفيًّا بهيكلية الجهاز لأنها واسعة وبعضها لم نكن نعرفه، كما أن متغيرات كثيرة حصلت في هيكلية الجهاز منذ تأسيسه حتى قرار حلّه في عام 2003، من قبل الحاكم المدني الأمريكي بول بريمر.
بالنظر لفقدان دفتر مذكراتي أثناء اعتقالي والذي يحتوي على أحداث هامّة منها ما يرتبط بالمرحلة التي سبقت الحرب حيث كنت أُسجل الملاحظات ومحاضر الاجتماعات لقيادة الجهاز، خاصة ما يتعلق بالجهود الخاصة لدرء الحرب فإن كل ما يرد في هذا الكتاب سيكون مُعتمدًا على ما علِق في ذاكرتي أو من وثائق صحيحة تعود لجهاز المخابرات حصلت عليها من بعض الأصدقاء، أو من شهادة بعض الضباط الذين لم يتوانوا في تقديم ما لديهم من معلومات، وليس من مصادر أكاديمية أو من الإنترنت إلا بقدر ما يتعلق في العودة إلى تواريخ وطبيعة بعض الأحداث والأسماء.
ومما يؤسف له أن العديد من زملائي من ضباط المخابرات امتنعوا عن تقديم أي مساعدة لي في جهودي لتأليف الكتاب بدوافع أنانية تحت ذرائع واهية لا تمت للواقع بصلة، وأنا على يقين ما إن يصدر الكتاب فسوف أتعرض إلى موجة من الانتقادات الحادّة غير المبرّرة.
إن غزارة المعلومات تستدعي إصدار الكتاب بجزأين إن أسعفني الزمن، الجزء الأول يغطي نشأة المخابرات وهيكله ومهامه وعمليات تطوير قدراته وبعض الخفايا والأسرار المرتبطة بالعمليات الاستخبارية الخاصة وعمليات التجنيد ونشاطات سرّية أخرى وجزء من أسرار مرحلة ما قبل الحرب.
وأخيرًا أود التأكيد أن هذا الكتاب من صنف الكتب التاريخية لحقبة من الزمن، وسيجد القارئ أًن صفحات الكتاب احتوت العشرات من الأسماء والشخصيات كانت وبعضها مازال يحمل عناوين وألقاب سامية لذلك سميتها بأسمائها الرسمية بعيدا عن عبارات المجاملة والتلطيف (المرحوم والراحل والأستاذ والسيد …). الرحمة للأموات والاحترام والتقدير للأحياء.
سالم