المجرم الشاحب: ٥- هل اقتربت النهاية في فيلم قطر؟
مقال لفاينانشال تايمز كان مخصصا للحديث عن تغير موازين القوى في الشرق الأوسط بعد صفقة الغاز لخص في فقرة منه بعضا من أزمات تركيا الحالية:
“الخاسر في كل هذا كان تركيا.
- زيارة الرئيس رجب طيب أردوغان إلى باريس، حيث أثار الرئيس إيمانويل ماكرون ملف حقوق الإنسان واستحالة إحراز تقدم في المباحثات حول التحاق تركيا بالاتحاد الأوروبي، تظهر الموقف الدولي من سلوك وتصريحات الرئيس التركي، بما فيها حملة القمع التي تلت محاولة الانقلاب قبل سنتين.
- تركيا دمرت فرصتها في توفير ممر تصدير للغاز من قبرص بمحاولتها الربط بين المشروع التجاري وبين تسوية موضوع أراضي الجزيرة المقسمة.
- العلاقات بين إسرائيل وتركيا تدهورت في الأعوام السابقة. ويبدو الآن من المستحيل لإسرائيل أن تثق في تسليم ملف الغاز لحكومة وصف زعيمها إسرائيل بأنها دولة إرهاب”.
انتهى الاقتباس من الفاينانشال تايمز، لكنه، وتماشيا مع غرضه الأساسي، لم يتناول إلا جانبا واحدا من المشاكل التركية. تلك التي أثرت في موضوع الغاز. أما الملفات الأكبر فقائمة طويلة وثقيلة:
4- الصراع في سوريا وتبعاته العسكرية والسياسية. صارت تركيا في خصومة مع جارتها الجنوبية، وتسعى إلى تسوية قلقة مع حلفاء دمشق في إيران، وروسيا. بخسارة سوريا لم يخسر الحلف العثماني بلدا، بل ميدان مناورة. فقد استخدم سابقا علاقاته بالحلف الفارسي لتشكيل “جبهة ممانعة” يضغط بها على القوى الإقليمية الأخرى. ويتحصل الحلفان العثماني والفارسي منها على غنائم مشتركة يتقاسمانها فيما بينهما. كما حدث في بيروت وغزة.
5- بسبب علاقتها بالإخوان المسلمين توترت علاقة تركيا بمصر والسعودية والإمارات، قبل أن تزداد توترا بسبب موقف تركيا في الأزمة مع قطر، شريكتها في الحلف العثماني، حيث أرسلت تركيا قواتها لتتمركز في الدولة الخليجية.
أما أصعب ما في صراع تركيا الحالي أن تسويته، لو حدثت، لن تعود بالأمور إلى حالها قبل الصراع. بل إنه من ذلك النوع من الصراعات التي تلد وتبيض. تخرج لك صراعا جديدا مكتملا ومؤهلا للنمو أحيانا، وتحتضن تحت جسدها صراعات تخرج فراخها بعد حين. الفراخ أيضا تكبر.
6- تركيا فتحت في سوريا جبهة في صراعها مع الأكراد، لم يكن عليها في السابق أن تنشغل بها. الصراع في حد ذاته أزمة، لكنه مرتبط بتوتر سياسي مع الولايات المتحدة، حليفة الأكراد في سوريا. في كلمة له أمام حزبه، تعهد أردوغان بأن تدخل قواته إلى مُنبج، حيث يتمركز مئات الجنود الأمريكيين الذين يعملون مع الأكراد.
7-أما المشاكل التي ستخرج من حضانتها في وقت قريب فليس أقلها مصير إرهابيي داعش. مقال لواشنطن بوست خص تركيا في هذا الملف بأنها “أكثر من أي دولة أخرى، يعود إلى تركيا (٩٠٠) مقاتل من داعش. بين عامي ٢٠١٤ و ٢٠١٧ توجه منها إلى سوريا والعراق حوالي (١٥٠٠) مقاتل”.
من الخبرات السابقة في التعامل مع الجماعات الإرهابية، لا يتسامح الإرهابيون مع حلفائهم القدامى إلا لو تحقق لهم ما أرادوا، وهو ما لن يحدث في سوريا. على العكس، لقد صارت مواجهة تركيا للمقاتلين المتشددين السنة شرطا أول للتحرك في أي اتجاه. لدى الأمريكان، لدى الروس، أو لدى الحلف الفارسي. المقاتلون الأتراك الذين ذهبوا إلى سوريا لن يعودوا إلى بلدهم سياحا قضوا إجازة، بل يعودون بأفكار أكثر تشددا من التي حملوها في رحلة الذهاب، مضافا إليها مهارات السلاح التي تعلموها.
هذه سلسلة عن قطر، المجرم الشاحب، لماذا أخص تركيا بالنصيب الأكبر منها؟
لأن قطر بلا وزن إلا كونها ضمن الحلف العثماني. لو ترك المجرم الشاحب لحاله فإن خوفه من ساعة الحساب سيحجزه عن اقتراف ما يتوق إليه. ولا معنى للنظر إلى قطر خارج إطار الحلف. ملاحقة موزع مخدرات ليست إلا جزءا ضئيلا من مواجهة التنظيم العصابي.
وكل هذه الملفات، داخليا وإقليميا وأوروبيا، وفي العلاقة مع الولايات المتحدة، تزيد “زعيم” الحلف العثماني توترا، وتضيق خياراته. سلوكه الأخير في تهديد جهود قبرص في التنقيب عن الغاز تهديدا عسكريا مجرد مثال لحالة التوتر تلك، ومثال على الثمن الذي يدفعه الحلف في عزلته الاقتصادية والسياسية.
لعل الورقة السياسية الأخيرة التي يمكن أن يلعب بها الحلف هي تسوية الأمور مع الحلف الفارسي، وهو ما يحاول حاليا فعله على طاولة المفاوضات. لكن هذه التسوية، لو تمت، ستحول صفة الحزب من “الممانعين” كما اختار لنفسه إعلاميا، إلى “المعزولين”، بالنظر إلى أن إيران نفسها صارت تحت المجهر. وأي تقارب نشط معها سيضع مصالح تركيا مع الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين في وضع أسوأ، وهي مصالح حيوية بالنسبة للمؤسسة العسكرية التركية. هذا بالإضافة إلى العزلة الإقليمية. ما حدث مع قطر من عزلة خليجية وإقليمية مجرد مثال طُبِّق على المربوط، لكي يفهم السائب.
الإجراءات إزاء قطر كشفت عمق ارتهانها للقرار التركي، ومبالغتها طوال الفترة السابقة في التعويل عليه. وأخيرا وقعت قطر اتفاقا مع حلف شمال الأطلسي (الناتو) يسمح لقواته وأفراده باستخدام قاعدة العديد العسكرية. والتي صارت تضم قوات أمريكية وبريطانية وتركية، بالإضافة إلى قوات الحلف العسكري الغربي.
هذا الاتفاق يأتي وسط حرب كلامية بين روسيا والناتو، وصفها المراقبون بـ”حرب باردة” جديدة. توقيت الاتفاق يعكس هذا الإحساس القطري بانحسار الخيارات في إقليم مرتبك، ورغبة المجرم الشاحب الملحة في البحث عن طبقة أخرى من الحماية وهو يرى عقرب ساعة الحساب الثقيل يلاحقه. ويبدو أن قطر تخشى أن تجد نفسها الحلقة الأضعف بعد أن تحقق تركيا تسوياتها، بالنظر إلى مشاكل تركيا التي عددتها أعلاه وخياراتها الضيقة.
خيارها بالعودة إلى جوارها الإقليمي مشروط بدفع ثمن أفعالها. هذا كابوس بالنسبة للمجرم الشاحب. إذ العنترية، طالما يضمن من يحميه من العقاب، غرض وجودي، وجزء أساسي من إحساسه النفسي بالتحقق.
المفارقة هنا أن الدولة التي كان عمودها الأول قناة إعلامية مشبوهة العلاقة بتنظيم “قاعدة الجهاد ضد الصليبيين واليهود”، صار عمودها الثاني “قاعدة العمليات العسكرية للقوات الأمريكية وحلف الناتو”. القاعدة التي مهمتها الأساسية –حسب تصريح رئيس الحلف– هي العمليات في أفغانستان.
الفقرة السابقة تلخص المآل الواقعي للشعارات السياسية لدولة لا نكاد نراها خلف الميكروفون الذي تملكه. صغر الحجم ليس مسبة، إنما ما أشير إليه هنا النسبة بين القدرات الحقيقية والقدرات المدعاة.
تصريح ولي العهد السعودي: الأمير محمد بن سلمان، بأن موضوع قطر صغير للغاية، يكشف عن رؤية “رباعية مكافحة الإرهاب” لموازين القوى، وإدراكها لضآلة مساحة التحرك القطري، وأن المسألة مسألة وقت، وغير مستحقة لبذل جهد إضافي في ورقة من فرع من ساق من جذر. ستجف الورقة وتسقط في خريف سياسي قادم لا محالة. الحساب واجب في كل الأحوال. غيابه سيغري آخرين بتكرار السلوك نفسه. من منا لم يحلم صغيرا بأن يمتلك طاقية الإخفاء، فيقترف ما يشاء، ويحميه الاختفاء؟