كانت بيروت نقطة البدء المثالية لكي يقدم المجرم الشاحب خدماته، وأوراق اعتماده، لأكثر من سبب.
أولها: يتعلق بكونها عاصمة لا تكف عن لعبة الكراسي الموسيقية بين قيادات طوائفها. وبالتالي منفتحة دائما للتدخلات الخارجية، مغرية لها، تتنافس طوائفها على التكسب منها سياسيا واجتماعيا. تلك بيئة مثالية للمجرم الشاحب، لديه المال ليبني “مشاريع تعمير”، كما أن آلته الإعلامية ستلبي حاجة لبنانية لا تنضب.
ثانيها: يتعلق بالوضع الإقليمي.
أتمت سوريا ارتماءها في الحضن الإيراني بعد وفاة حافظ الأسد سنة ٢٠٠٠. في العام نفسه كان حزب الله الإيراني/ اللبناني في أفضل أوضاعه إقليميا، لدرجة أن صحيفة الأهرام القاهرية تخلت في نهاية العام عن عادة اختيار رئيس البلد شخصية العام، ومنحتها لحسن نصر الله، بعد تحرير الجنوب اللبناني من الاحتلال الإسرائيلي. عام ٢٠٠٣ سقطت بغداد، وبدا واضحا أن قوى سياسية مقربة من إيران ستتحكم في قرار العراق. صار القادة في هذه العمامة الجغرافية السوداء (ما سمي بالهلال الشيعي) جميعا مرتهنين بالقرار الإيراني، إلا واحدا. أين؟ في بيروت.
في الرابع عشر من فبراير (شباط) ٢٠٠٥ اغتيل رفيق الحريري. وتسارعت الأحداث. وتصاعد الضغط الدولي. بعد شهرين خرج الجيش السوري من لبنان بعد (٢٦) سنة كاملة من السيطرة الميدانية والسياسية. وفجأة وجد حلفاء إيران أنفسهم على الضفة المقابلة من شعارات الحرية، بعد أن نعموا طوال السنوات السابقة بتعليق ميدالية “التحرر”.
ثبت لحلف العمامة السوداء (البعث الشيعي الاشتراكي) أن التخلص من رئيس الوزراء السني، في وقت السلم، ليس عملا محسوم المكسب للقاتل والخسارة للمقتول. ولم يكن أمامه ميدانيا سوى أن يستمر في الخطة إلى النهاية لكي تكون “مستحقة التكلفة”، فقتل ما يقرب من عشرين سياسيا وبرلمانيا وصحافيا وإعلاميا محسوبا على تيار الاستقلال. وعرض على ميشيل عون سعراً لا يقاوم. جعله يترك سيارة استقلال لبنان ويركب سيارة الممانعة. وعلى الرغم من كل ذلك، بقي شيء مهم جدا: الرأي العام في الجوار العربي، والطائفة السنية في الداخل اللبناني. تحوُّلُ الموضوع علنا إلى صراع شيعي- سني لم يكن في مصلحة الحزب الإيراني.
احتاج الحزب الإيراني إلى مساعدة في الرأي العام العربي. احتاج الحزب الشيعي إلى أعوان في الطائفة السنية داخل لبنان. وكلاهما خدمة يستطيع المجرم الشاحب تقديمها.
التشويش الإعلامي على دور حزب الله في الاغتيالات السياسية بدأ من لحظة إذاعة بيان وهمي لجماعة غير معروفة تدعي مسؤوليتها عن اغتيال الحريري. واستمر عبر الحرب الحمقاء التي جر حزب الله إليها لبنان فتدمر جسرا جسرا. وتعرض لحصار بحري وجوي، انتهى بإعادة المنطقة جنوب نهر الليطاني تحت الرقابة الدولية. وقدمت فيه قطر نفسها –كذبا– بوصفها كاسرة هذا الحصار. التشويش الإعلامي استمر عبر اغتيال قيادات تيارات الاستقلال صوتا صوتا.
أما الأعوان داخل الطائفة السنية فجاءا من طرفي تحالف “البعث السني الاشتراكي”. أحدهما زعيم التنظيم الشعبي الناصري في صيدا: أسامة سعد، جنوبا، لكن أخطرهما ابن طرابلس الشمال: فتحي يكن، زعيم فرع الإخوان في لبنان، الذي أم صلاة في مظاهرة مليونية دعا إليها حزب الله بالتكليف المباشر الذي يجعل حضورها فرضا دينيا. هذه المظاهرة توجهت عقب الصلاة نحو سراي الحكومة اللبنانية وحاصرتها لمدة (١٨) شهرا. وسراي الحكومة اللبنانية هي رمز النفوذ السني، كما قصر بعبدا رمز النفوذ الماروني. وقد وصفت يكن بأنه أخطرهما لأنه -على عادة الإخوان- سيقدم لاحقا خدمات توفير مسلحين. يكن هو السياسي الذي سهل دخول الانتحاري الذي أطلق شرارة المواجهات مع الجيش اللبناني في طرابلس شمال لبنان. (أتى به من سوريا إلى لبنان في سيارته الخاصة).
ولكن لماذا؟ لماذا يضع المجرم الشاحب نفسه في صف الحلف الإيراني في لبنان؟ لماذا يعاون حزب العمامة السوداء على إحكام قبضته على عاصمة عربية ثالثة بعد بغداد ودمشق؟ لماذا يخاطر بعداء صريح لجارته الأكبر: السعودية، بخطوات قد تمثل خطرا على الخليج كله مستقبلا؟ ولماذا يفعل الحلف العثماني (السني) ذلك؟
لقد كان له من ذلك غرضان أساسيان:
أولهما: ظن أنه يستطيع أن يقدم زعيم الحلف العثماني: رجب طيب أردوغان، راعيا بديلا للطائفة السنية، وبالتالي يخرج النفوذ السعودي من لبنان. ولم يكن ذلك ليتم إلا بمباركة الحاكم الفعلي للبنان: حسن نصر الله، وحلفه. وبالفعل رتب المجرم الشاحب زيارة الزعيم إلى لبنان، وقدمها في وسائل إعلامه على أنها زيارة شعبية. وكلنا نعلم أنها لم تكن. ببساطة، لأنها لم تراع أبسط قواعد النفسية الاجتماعية. لا يمكن تقديم زعيم عبر الإذعان. في ذلك الوقت كانت الطائفة السنية اللبنانية تشعر بأنها في موقف دفاعي، وأنها تتعرض للهجوم، وأن أبسط ما يحفظ كرامتها هو الصمود خلف الحريري الابن. ليس هذا نقاشا سياسيا. هذا رد فعل نفسي طبيعي. في ذلك الوقت كان المجرم الشاحب محسوبا على الخصوم، ملتصقا بهم، مباركا خطواتهم (شاركت بنفسي في منع الجماهير الغاضبة من الاعتداء على مراسلة الجزيرة أثناء جنازة النائب البيروتي المغدور وليد عيدو، وابنه). وهو شعور لم يعد فيه ذرة من شك بعد هجوم حزب الله على بيروت في السابع من مايو (أيار) ٢٠٠٨. المحسوب على الخصوم لا يتبوأ موقع الزعامة أبدا.
ثاني الأغراض تحقق قبل سنة من هجوم حزب الله على بيروت، وكان هجوم حركة حماس (ممثلة الإخوان العثمانيين في غزة) على فلسطينيي حركة فتح وإخراجهم من القطاع، بعد سحلهم في الشوارع، وقتلهم كالأعداء. لقد قيل يومها: إن ما حدث كان بروفة لما سيحدث في بيروت. ومقدمة لخطة مشتركة تسيطر فيها “الممانعة” الشيعية والسنية على النقاط الساخنة. لعلنا نتذكر مظاهرة احتجاج على حركة حماس في قطاع غزة كانت تهتف “شيعة، شيعة”. مجرد انعكاس لشعور شعبي وضع الحركة السنية في صف قرينتها الشيعية.
بتحقيق هذين الغرضين حقق الحلف العثماني هدفيه المرحليين المهمين بلا شك: قدم نفسه بديلا للقوى التقليدية، وطرح نفسه القوة الفاعلة في العواصم الساخنة. حمل أوراق الاعتماد تلك إلى العالم لكي يقنعه بأنه هو الممثل الحقيقي لشعوب المنطقة، القادر على التسخين والتهدئة. ممهدا لما عرف باسم “الربيع العربي”.
لم يكن المجرم الشاحب يعرف أنه بذلك ورط نفسه بما هو أكبر من قدراته، وقدم على أوراق الامتحان مبكرا، واستحث في خصومه قوى كانت خاملة أو نائمة.
في المساحة بين قدراتك والمكان الذي تموضعت فيه، تعيش السياسة. تكتب رواية التاريخ بوجه جامد لا تتغير ملامحه، على الرغم من مأساة هنا وملهاة هناك. تعطي من يشاء فرصة لكي يلعب الدور الذي يختاره، لكنها لا تنحاز لأحد، ولا تتعاطف مع شعار. أنت وشطارتك.
بعد تجربته في لبنان، وفي قطاع غزة، سيتعلم المجرم الشاحب درسا آخر: أن المباراة السياسية تزداد صعوبة كلما أنجزت هدفا. لكن على عكس الفيديو جيم، لا إعادة هنا. فلست وحدك مع جهاز في صالة بيتك. مرحبا بك في العالم الحقيقي.
مرحبا بك في اللعب مع الكبار.
الخطوة التالية الضرورية، سوريا. إلى المقال القادم.
*******
“كنت أريد أن يسيطر عليهم الجنون الذي يقضي عليهم كما قضى على هذا المجرم الشاحب”. هكذا تحدث زرادشت.