تقديم
يتناول كتاب «المؤسسات العلمائية: الإخوان، التحديات، الاستعادة» (الكتاب الأول بعد المئتين، سبتمبر (أيلول) 2023) استراتيجية تيارات الإسلام السياسي تجاه المؤسسات العلمائية الدينية، وسعيها لبناء مجتمعات علمائية موازية؛ تنازع مؤسسات الإسلام التقليدي المشروعية والموثوقية، وتروم اختطاف التمثيل الديني؛ بالتشكيك في المؤسسات الرسمية وزرع بذور الفتنة والانقسام داخلها، لإضعافها وهز ثقة المجتمعات فيها. وبقدر ما يرصد الكتاب، المؤسسات المحسوبة على التيارات الإسلاموية؛ فإنه يلاحظ تشكل اتجاه استعادة الخطاب الديني المؤسسي منها؛ سواء بنشاط المجامع الفقهية الرسمية؛ أو سعي مجالس تعزيز السِلم والسكينة، أو بُنية المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة؛ أو مؤسسات دور الإفتاء العالمية المنبثقة عن مؤسسة الإفتاء في مصر، محددًا التحديات التي تواجهها، ومطالب التحديث التي تقابلها.
بدأ الكتاب بدراسة الباحث المصري إيهاب نافع عن دور «الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين»؛ الذي تبنى منذ تأسيسه سنة 2004، أجندة معادية للدول وموالية للاتجاهات الإسلاموية. عرض الباحث لمواقف وفتاوى منسوبي الاتحاد التحريضية ضد المؤسسات؛ وفكرة الدولة ذاتها؛ ملاحظًا محاولات تثوير المجتمعات، واستهداف أعمدة المؤسسات الدينية الرسمية والعلماء التقليديين، خصوصًا بعد أحداث 2010. ولبرهنة الانحياز، رصد الباحث، مواقف الاتحاد من ثورتي «25 يناير» و«30 يونيو» في مصر، والضغوط التي مارسها التنظيم واتحاده في الميدان والإعلام، في الحدثين؛ وفي تونس تطابق موقف الاتحاد؛ منذ إنشاء فرعه هناك سنة 2012 -خلال فترة قيادة حركة النهضة لحكم الترويكا- مع مواقف الحركة، واستمرّ في تبني اتجاهاتها السياسية ضد الرئيس التونسي، قيس سعيد.
تطرق الباحث المصري أحمد سلطان إلى محاولات الإخوان في مصر، خلال فترة حكمهم (2012-2013)؛ اختراق وزارة الشؤون الدينية، بما في ذلك المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، فأبرز تداعيات ومخاطر هذا الاختراق على إدارة الشأن الديني، وسلط الضوء على سعي الجماعة للسيطرة على دار الإفتاء المصرية، إلى أن حسمت المعركة لصالح مؤسسة الأزهر. ترصد الدراسة حقبة ما بعد «ثورة يونيو» 2013، وتلفت إلى أنه على الرغم من أن مشروع أخونة المؤسسات العلمائية الدولية جرى تقويضه، مع سقوط نظام الإخوان، فإنه بقي حاضرًا في العقل الاستراتيجي للجماعة، الذي يرى أن مشروع التمكين لن يتم إلا بالسيطرة على المؤسسات العلمائية الوطنية والدولية.
وفي قراءةٍ للتقاطعات الأيديولوجية والحركية بين ضفتي الإسلام السياسي السني والشيعي عبر المؤسسات العلمائية، قدم الباحث فراس رضوان أوغلو دراسة عن «المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية» المؤسس في إيران سنة 1990، والذي دأب في مؤتمراته السنوية على الترويج لأفكار سيد قطب، أكثر المنظرين تأثيرًا في العنف الحركي الإسلاموي. عرض الباحث للمؤتمرات والأنشطة التي قام بها المجمع لأكثر من ثلاثة عقود، محددًا كيفية توظيف الجماعات الإسلاموية للمجمع بهدف الترويج للأفكار القطبية عبر الترجمات والتأليف وتبني المفاهيم الإسلاموية.
قدّم الباحث كرم سعيد دراسة رصدية عن الجمعيات التابعة لجماعة الإخوان المسلمين في تركيا، فحددها بالأسماء وضمن قطاعات مختلفة: إعلامية واقتصادية وتعليمية وسياسية، للتعويض عن خسائرها بعد «ثورة يونيو» 2013، وهروب عدد كبير من قياداتها إلى تركيا. لقد سعت هذه الجمعيات الإخوانية إلى تقوية صلتها مع المنظمات الدينية الرسمية التركية، باعتبار ذلك مفتاحًا ليس فقط لتوفير جانب من التمويل، وإنما لتثبيت وجودها، وتعزيز أدوات حمايتها في تركيا.
عرض الأكاديمي والباحث السوداني محمد خليفة صديق لمراحل تأسيس «المؤتمر الشعبي العربي الإسلامي» في السودان وأنشطته، منذ تأسيسه سنة 1991 حتى اتخاذ حكومة عمر البشير القرار بإغلاقه سنة 2000؛ بعد مفاصلة الإسلامويين في السودان. تناولت الدراسة برامج المؤتمر التأسيسي في الخرطوم، وأبرز المشاركين فيها، من رموز الإسلام السياسي واليسار العربي والعالمي؛ وعرضت محتوى الأوراق والمناقشات التي تمت في دوراته. يشير الباحث إلى أن المؤتمر ضمّ كل التنظيمات والحركات الإسلاموية المتطرفة، وعقد ثلاثة اجتماعات في الخرطوم، تعد الأخطر في التاريخ المعاصر؛ فالاجتماع التأسيسي الأول في 25 – 28 أبريل (نيسان) 1991، حضره أكثر من (500) شخصية من التكفيريين والمتمردين العرب الناقمين على حكوماتهم.
تناولت دراسة؛ كيفية إعادة الاعتبار لمؤسسات الإسلام التقليدي ورجال الدين والعلماء فيها، قارئةً المخاطر الناجمة عن سعي الحركات الإسلاموية، إلى إحداث تغيير اجتماعي وسياسي وديني في المجتمعات المسلمة، عبر استهداف مؤسسات التقليد مثل مؤسسة الأزهر، وتشويه رسالته، وتحميله مسؤولية تأخر المسلمين، والادعاء بأنها افتتحت مشروع الاجتهاد أو الإصلاح في بدايات القرن العشرين. يرى الباحث أن مسار استعادة مؤسسات التقليد في المجتمعات العربية والإسلامية وحمايتها من الإسلاموية وتياراتها، تحتاج إلى إعادة الثقة في التعليم الديني، وترك الفقهاء التقليديين، يعيدون اختراع أدوات الفهم العتيقة، والنأي بالمؤسسات التقليدية عن الاحتكاك بالسياسة أو التصادم مع الدولة.
ولترسيخ نماذج الاستعادة والتحديث، سلطت دراسة الباحث والمستشار المصري إبراهيم نجم، الضوء، على دور المؤسسات الدينية المصرية في الاجتهاد الجماعي والتصدي لفوضى الفتاوى والتطرف، فحددت الملامح العامة لظاهرة فوضى الفتاوى ومخاطرها، وأبرزت محددات التأهيل الشرعي للمؤهَّل بالقيام بالفتوى، وكيفية مأسسة الفتوى في مصر والمؤسسات القائمة عليها، هذا إلى جانب عرضه دور دار الإفتاء المصرية والأزهر في ترشيد الخطاب الديني، وتفكيك الخطاب المتطرف عبر تأسيس مراكز بحثية من بينها: «المؤشر العالمي للفتوى»، «مرصد الإسلاموفوبيا» التابع لدار الإفتاء المصرية، «مرصد الأزهر لمكافحة التطرف»، و«مرصد الجاليات المسلمة».
وفي السياق نفسه، قدم الأمين العام للمجلس العالمي للمجتمعات المسلمة؛ الباحث الإماراتي محمد البشاري قراءة للدور الحقيقي للمؤسسات الدينية الرسمية في تحقيق الأمن الروحي، وتأهيل القيم التقليدية وآليات توظيفها بغية تجاوز التحديات و النزاع والصراع النابع من اختلاف التعبئة الدينية. اهتمت الدراسة بتتبع المتغيرات المشار إليها في دولة الإمارات العربية المتحدة، لأهمية رسالتها الدبلوماسية الدينية في التعامل مع منافذ الأمن الروحي، باعتبارها بقعة جغرافية خصبة بالتنوع الديني والعرقي، إلى جانب أنموذج مؤسساتي دافع بإدارة الأمن الروحي، وعاملًا في تأهيل القيم التقليدية التي من شأنها مجتمعةً حل شتى أشكال الصراع الإنساني.
في الختام، يتوجه مركز المسبار بالشكر للباحثين المشاركين في الكتاب والعاملين على خروجه للنور، ويخصّ بالذكر الزميل إيهاب نافع منسق هذا الكتاب، الذي نأمل أنْ يسد ثغرة في المكتبة العربية.
رئيس التحرير
عمر البشير الترابي
سبتمبر (أيلول) 2023