تقديم
يأتي كتاب المسبار «العبودية المعاصرة لدى التنظيمات الإرهابية في العراق وسوريا» (الكتاب الحادي والعشرون بعد المئة، يناير/ كانون الثاني 2017)؛ ليعالج قضية هامة، قلّما يتم التطرّق إليها من الباحثين أو الإعلاميين في العالم العربي، ألا وهي قضيّة العبودية المعاصرة. والملاحظ أنَّ أغلب ما كُتب فيها بالعربية كان لتبرير موقف الإسلام من العبودية قبل أربعة عشر قرناً، ولا نجد ما يكفي من الكتابات التي تسلّط الضوء على العبودية، التي تنتشر في عالمنا اليوم ويعاني منها الملايين من البشر.
تمس العبودية المعاصرة البشر من مختلف الأعمار والجنسيّات، إناثاً وذكوراً، أطفالاً وبالغين. ومع أنها دخلت حيّز التفكير العربي بسبب ممارسات داعش من سبي وبيع للنساء والأطفال، فإنها مأساة إنسانيّة ذات نطاق أوسع من وجود داعش المحدود الذي قرب من النهاية.
يدرس الكتاب من خلال فصوله المتنوّعة الأصول التاريخية للعبودية، وانتشارها في الحضارات كافة. وبقدر ما تشير الأبحاث –هنا- إلى الأبعاد الاقتصادية التي تديم العبودية، فإنَّها تتناول أيضاً الأبعاد الاجتماعية والتبريرات الدينية التي تدفع البعض لاستعباد الآخرين. يشير الكتاب إلى الالتباس المفاهيمي الحاصل، الذي يدفع إلى ممارسة العبودية ولكن تحت أسماء أخرى. ويبيّن الارتباط الخفي بين الثقافة وقبول الاستعباد، حيث كانت بعض الثقافات تؤمن باختلاف نوعي في الطبائع البشرية، على قاعدة الاصطفاء العرقي، بل إنَّ العديد من الجماعات الإثنية –وفق بعض الثقافات– لا يستحق صفة الإنسانيّة، وبالتالي يحق استعباده ومعاملته معاملة سيئة. هذه الثقافات –للأسف- ما زالت منتشرة وإن على استحياء في هذا العصر، وبعضها يتخفى خلف عناوين دينية.
تنشط العبودية بشكل ملحوظ في مناطق النزاعات المسلّحة، لذلك كان لا بد للكتاب من رصد العلاقة بين الحرب والعبودية، وهي علاقة قديمة قدم التاريخ؛ إذ كانت الحروب المصدر الأساسي للحصول على عبيد منذ القِدم، وعندما أراد الإسلام إلغاء العبوديّة، وجد أنَّ رسوخ العادة عميق بحيث لم يُقفل باب الاسترقاق في الحروب. إن العبودية في مناطق النزاعات المسلحة أوسع من عبوديّة البيع والشراء للبشر. فهي تأتي على شكل أسر النساء وإجبارهن على البغاء، أو على شكل أسر الأطفال والرجال وإجبارهم على الخدمة أو المشاركة في الحروب، تماماً كما لو كانوا عبيداً، ولكن من دون عقود بيع وشراء.
في هذا السياق يوضِّح الكتاب الجذور التاريخية للاستعباد الجنسي، وشيوعه المؤلم في النزاعات المعاصرة كافة. والأهم من ذلك أنَّه يتناول الدوافع النفسيّة وراء الاستعباد الجنسي لنساء «الخصوم»، كونه أضحى وسيلة لقهر وإهانة الجماعة التي تنتمي إليها الضحية، مستعرضاً قصص حية لبعض ضحايا داعش من الأيزيديات.
من القضايا التي كان لا بد من معالجتها موقف الأديان من العبودية، وقد ناقش الكتاب آراء بعض الشخصيات الإسلامية والمسيحية الحكيمة، التي عرضت لموقف الديانتين الإبراهيميتين من العبودية. وسنلاحظ أنَّ الكتابات –هنا- تتبرأ تماماً من العبودية، وتنسبها لسوء في تفسير النصوص، أو لعدم إعمال التعاليم الدينية الكليّة. تطرقت إحدى الدراسات بشكل نقدي إلى الموقف القانوني المعاصر من تجريم العبودية والممارسات الشبيهة بها، وهو موقف القانون العراقي، مُبرزةً خلوه من نص صريح يجرم العبودية والممارسات الشبيهة بها، على الرغم من نصوصه العديدة التي تمنع الممارسة. وهو ما يدعو لقراءة واسعة ومقارنة لقوانين الدول الإسلامية في هذا الأمر ومجالات الإصلاح فيها.
هناك جوانب مشرقة تناولها الكتاب، وهي الجهود العالمية التي بدأت في الغرب، وبشكل خاص في بريطانيا، لإنهاء قانونية الاستعباد. وقد تناولها الكتاب إضافة إلى جهود بعض المشرقيين في هذا الاتجاه. وهي جوانب نحتاج النظر إليها لكي نتفاءل، ونُبقي الأمل حياً بأنَّ ما نراه اليوم ما هو إلا نهاية مسار العبوديّة وبداية النهاية التامة لها.
قد لا نفهم أبداً الجذور النفسية والاجتماعية والاقتصادية التي تدفع أحداً وتُسوِّغ له امتلاك وبيع إنسان آخر، ولكن من غير المقبول البتة استمرار عبودية ولو إنسان واحد. رسالة الكتاب الأساسيّة هي أنَّ استمرار العبودية يشكّل عاراً على الإنسانية كافة، ويمثِّل أزمة أخلاقيّة حادة لكل ذي ضمير منَّا. ويدعونا جميعاً إلى العمل على كشف أشكالها وأنواعها وفضح شبكاتها، وصولاً إلى ما نصبو إليه جميعاً من حماية الكرامة الإنسانيّة.
في الختام، يتوجه مركز المسبار للدراسات والبحوث بالشكر لكل الباحثين المشاركين في الكتاب، ويخص بالذكر الزميلة منى عبداللطيف، والزميل إبراهيم أمين نمر، اللذين نسقا العدد، ونأمل أن ترضيكم ثمرة جهودهما وفريق العمل.
رئيس التحرير
يناير (كانون الثاني) 2017