هل العودة إلى الماضي، حنین إلى ثقافة الآباء، وتلهف وراء استكشاف الماضي وحكـمه، أم ردة فعل على الواقع السقیم الذي شطر الكـرد إلى فرق وشیع وأحزاب، حیث یفتقدون إلى هویة تجمعهم وسط تلاطم الهویات التي تفرق ولا توحد؟ أیاً كـان السبب، بات الواقع الكـردي یتآكـل وسط بحر من ظلم الدول التي تتقاسم كـردستان، وهي لا تتفق علی شيء باستثناء إبقاء الكـرد علی وضعهم المشتت بین غربة الثقافة المفروضة علیهم، وفقدان ثقافة وطنیة، تجمعهم علی استراتیجیة، تساعدهم علی التخلص من الواقع المهیمن الذي مسخ هویتهم وجعلهم تابعین منذ زمن طویل، وترفض أیة استقلالیة سواء كـانت نسبیة أو مطلقة.
من هنا، بعد أن جاءت ضربات مؤلمة من أنظمة تابعة للدول التي تحتل وتقسم كـردستان، ضربات لم تنحصر في أسلوب واحد من الهیمنة، بل امتدت إلی التهجیر والتعریب والإبادة الجماعیة، واستغلال الإسلام في صراعهم لإعطاء وإضفاء الشرعیة علی الزحف العسكـري باتجاه قری وقصبات كـردستان، تحت شعار عملیات الأنفال الأولى ومرورا بالثانیة إلى أن ختمت بالتاسعة، وكـذلك إعطاء أسماء الصحابة للفرق والمجموعات والقواعد العسكـریة التي كـانت تهاجم وتهین وتقتل المواطنین الكـرد بدم بارد[2]، باسم الإسلام، تحت سمع وبصائر الدول والمنظمات الإسلامیة، دون أن یحركـوا ساكـنا ويأخذوا على ید الظالم، ودون أن نراهم یدینون تلك الأخلاقیات التي لم تختلف قید أنملة عن تلك التي كـان يمارسها المحتل الأجنبي لدول المنطقة إبان الاستعمار في بدایات القرن العشرین حتی أواسطه. فمرارة تلك الأحداث، أحس بها الشاعر العربي، ولم أستطع إثبات ذلك في مصدر معتبر، حیث قال: «يا رب سامح الأكراد! لا يستطيعون ختم القرآن، لأنهم عندما يصلون لسورة الأنفال يموتون كلهم».
وكـذلك، بعد سنة ٢٠٠٣ وتحدیداً بعد انتشار القاعدة في المنطقة، ومن ثم ظهور جنود منظمة الدولة الإسلامیة قرب ثغور كـردستان، لضرب التجربة الكـردیة وفرض حرب الوكـالة علی الكـرد وتنفیذ أجندة دول المنطقة، لإنهاء التجربة الكـردیة التي تشكـلت في إقلیم كـردستان، وكـبّرت الشرخ الثقافي والتباین وسط الشباب الكـردي الذي صدم بإسلام یهاجمهم وجرح الأنفال لم یندمل بعد، فأدی بهم ذلك الوضع إلى البحث عن هویة أخری، غیر الهویة التي أصبحت وقوداً للعدوان علیهم[3].
إذن نحن أمام مقاربة جدیدة للتفكـیر، تبحث ولا تمل لكـي لا تضیع وسط متاهات فرض الهویات المحلیة المنبوذة في نظرهم، أو المعولمة التي لا تتوافق مع الطموحات القومیة للشباب الناشئ. فالمعادلة تكون بالشكـل الآتي: إذا كـان المهاجم یحمل دیناً لیحفز به مقاتلیه، فالأفضل لهم أیضاً أن یبحثوا عن دین أجدادهم القدماء، بشعاره الإنساني في نظرهم، والذي يأمرهم «بالتفكـیر الجید، والقول الجید والعمل الجید». إذن هناك تبریر للعودة إلى الماضي السحیق لانتشال فكـر دیني لم یعد یحمله كـردي في ربوع كـردستان، دین أقرب إلى فكـر وضعي لا يؤمن بالكـثیر من الماوراء الطبیعیات والوقائع التي جاءت بها الأدیان التوحیدیة الثلاثة. وهي دین الزرادشتیة الذي -وفق المؤرخین- كـان منتشراً في كـردستان قبل مجيء الإسلام، إلى جانب المسیحیة والیهودیة[4].
إذن نحن أمام إشكـالیة الهویة، التي یعانیها الشباب الكـردي الیوم في إقلیم كـردستان، وخصوصاً بعد انتفاضة مارس (آذار) ١٩٩١، عندما استطاع الكـرد تنظیم أنفسهم في برلمان وحكـومة في إقلیم كـردستان العراق. والسبب في ذلك یعود إلى أسباب عدة ذاتیة وموضوعیة، خارجیة وداخلیة، سأشیر إلى بعضها بشكـل مختصر.
الضغط الهائل الذي كـان النظام العراقي السابق يمارسها ضد كـردستان العراق، من سیاسات تعسفیة، والتي استُغل فیها الدین بشكـل سافر من أجل إضفاء الشرعیة لضرب الكـرد وخلق اضطراب هویاتي، وخلق شرخ بالثقة بالنفس لدی الكـردي، واتباع سیاسة استعماریة بناء علی قاعدة فرق تسد. وفعلاً استطاع النظام خلال فترة حكـمه أن ینتصر في تشتیت لیس فقط النخبة السیاسیة، بل في تشتیت الواقع الاجتماعي أیضاً، وذلك باتباع طرق مختلفة، منها:
الحرب الأهلیة التي اندلعت بین الحزبین الرئیسین: الحزب الدیمقراطي الكـردستاني، والاتحاد الوطني الكـردستاني، حینما كـانا یتقاسمان السلطة في إقلیم كـردستان[5]، بعد انتخاب نواب برلمان الإقلیم. وسرعان ما اندلعت خلافات حادة بین الجانبین، أدت إلى معارك طاحنة بین سنوات ١٩٩٥-١٩٩٨ وسببت هذه المعارك خسائر فادحة للشعب الكـردي من النواحي الثقافیة، الروحیة، الحیاتیة، الاقتصادیة، السیاسیة والقانونیة. ولا يزال یعیش الشعب الكـردي أشباح تلك الأیام، حیث قسم الإقلیم إلى منطقة نفوذ صفراء ومنطقة نفوذ خضراء، كـإشارة إلى ألوان أعلام الحزبین الرئیسین.
وتسببت تلك الأوضاع بتدمیر معنویات الشباب الكـردي، ومراجعة الكـثیر منهم مساندتهم للحزبین، وابتعاد الكـثیر منهم عن السیاسة والانشغال بحیاتهم الیومیة، وأدی ذلك ببعضهم إلی فقدان الانتماء بشكـل مطلق، إلى كـل ما یمت بصلة إلى القومیة أو الدین أو الثقافة، لذلك بدأ الكـثیر منهم البحث عن البدائل والكـثیر منهم رحلوا وتركـوا الوطن.
دخول التكـنولوجیا إلى إقلیم كـردستان بشكـل مفاجئ وبأعداد هائلة، ومنها الصحافة غیر المنضبطة، والإنترنت، والهاتف النقال والانفتاح على العالم الخارجي بشكـل لم یسبق له مثیل، خصوصاً النظام العراقي السابق، حيث كـان يمارس تعتیماً إعلامیاً مخیفاً علی المواطن الكـردي بشكـل خاص، والعراقي بشكـل عام. فأدی هذا الانفتاح إلى تخبط في معرفة التعامل مع الوسائل الإعلامیة التي بدأ المواطن الكـردي یتعامل معها بشكـل یومي ومكـثف.
كـنتیجة للنقطتین الثانیة والثالثة، بدأ الشباب الكـردي بترك إقلیم كـردستان والتوجه نحو البلاد الأوروبیة منذ بدایة التسعینيات، بغرض الإقامة هناك. فنتیجة الفرق الهائل بین الإقلیم والبلاد الأوروبیة من جمیع النواحي الفكـریة والثقافیة، والسیاسیة والقانونیة والمعیشیة، واستناد الكـثیر منهم داخل الإقلیم علی ذویهم من الخارج من الناحیة المادیة، خُلِق نوع من هیمنة الخارج علی الداخل، فخَلق تأثیراً ثقافياً خارجياً علی المواطنین في الداخل كـان سهلاً جداً.
وفوق كـل تلك الأسباب، ظهور القاعدة وتنظیم الدولة الإسلامیة (داعش)، اللذين تسببا في خلق شرخ كـبیر في جدار الإسلام من نواحٍ عدة، وكـذلك ممارسة بعض السلوكـیات من قبل الإسلامیین والأئمة التقلیدیین بشكـل عام، والتي لا تتناغم مع الحداثة والفهم المعاصر لحقوق الإنسان[6]، وتسببا في ترك الكـثیر لدینهم والتوجه نحو الأدیان الأخری، ومنها الزرادشتیة.
المنهجیة المتبعة وأهمية الدراسة وأهدافها
في كـتابة هذا البحث تم اتباع منهجیة عملیة التشكـیل أو (Process Figurational) والتي أسس لها العالم الاجتماعي الألماني نوربرت إلیاس (Norbert Elias)الذي یتحدث عن نظریته «عملیة التشكـیل»[7]، كـعملیة لفهم الظواهر الاجتماعیة، وفي هذا الإطار یشكـل «التشكـیل، بنیویة مجتمعیة تتشكـل من مجموعة أفراد، ومرتبطة بمجموعة من المواقف والأسس والأعراف والقیم». إذاً نحن أمام شبكـة من أبعاد مختلفة، والأفراد ضمن إطار المجتمع، لا ینظر إلیهم كـأفراد بل كـجزء من البنیویة التي تربط النظام المجتمعي. وهذا النظام الذي يدفع باتجاه دفع الأفراد للوقوع بین حریة الحركـة والجبر المجتمعي».
ولكـي نصل إلى الوقائع كـما هي ولیس كـما نریده، نحن بحاجة إلى مقاربة ماضي المجتمع الذي نرید أن نعرفه، أي المجتمع المستهدف، وكـذلك دراسة الحاضر الذي نحن بصدده عن طریق الأفراد الذین یعیشون واقعهم الحالي في المجتمع المستهدف نفسه. وضمن تلك المعادلة بإمكـاننا تعیین بعض المظاهر التي قد تشكـل مجتمعاً معیناً بسمات ومعاییر خاصة. ولهذا الغرض، أجرینا مقابلات شبه بنیویة مع أشخاص رئیسین ضمن هذه الجماعة، لمعرفة آلیات الفكـر والسلوك التي تتحكـم ببنیویة العمل المستقبلي، وكـیفیة تعاملهم مع مجموعة من القیم والمعاییر المجتمعیة في مختلف مكـوناتهم وأیدیولوجیاتهم.
ولمعرفة مستوی فهم الزرادشتیین لدیانتهم ونظرتهم الدینیة والاجتماعیة حول بعض المسائل المهمة، أجرینا إحدی عشرة مقابلة مباشرة وبأسئلة محددة، من أجل الوصول إلى نتائج ملموسة نوعیة لمستقبل المجتمع الذي یتمناه الإنسان الكـردي، سواء كـان مسلماً أم غیر مسلم، في ظل الواقع الكـردي غیر المستقر وغیر الموحد.
لا نملك حتی الآن إحصائیة دقیقة لأعداد التابعین الذین تحولوا إلى الدیانة الزرادشتیة، ولكـن هناك تكـهنات تتحدث عن آلاف، إن لم نقل عشرات الآلاف، بالرغم من تقریر للولايات المتحدة التي تقیم أعدادهم فیما بین (١٠.٠٠٠) و(١٠٠.٠٠٠) كـردي اعتنق الزرادشتیة[8]، إضافة إلى انتشار واسع في جمیع المدن والأقضیة والنواحي والقری، ولكـن من الصعب التكـهن بأرقام دقیقة، والمعلومات الواردة بهذا الصدد غير دقيقة نظراً لعدم وجود إحصائیة، وكـذلك خوف الكـثیرین منهم من التعبیر عن توجههم الدیني والفكـري. وبالنسبة لخصوصیة الدیانة من نواح عدیدة في ما یتعلق بالإنسان الكـردي علی المستوی الثقافي والنفسي والاجتماعي، دراسة هذه الظاهرة أصبحت حتمیة ومصیریة لمعرفة موقع وتأثیر ومستقبل هذه الدیانة في كـردستان العراق، وحتی في الأجزاء الأخری من كـردستان، لأن الدیانة كـانت منتشرة في كـردستان قبل الإسلام بشكـل واسع، ولا یوجد منطقة كـردیة تخلو من آثار تشهد علی وجود الدیانة الزرادشتیة ومعابدهم، وكـذلك هناك مسائل ثقافیة كـثیرة لا تزال موجودة في عقائد الناس، والبعض منها أخذت طابعاً إسلامياً وتمارس وكـأنها جاءت مع الإسلام. وأبرز الظواهر للدیانة الزرادشتیة بحسب الكـثیر من المؤرخین هي عید النوروز (الیوم الجدید) ویحتفل الناس بذلك الیوم في جمیع أنحاء كـردستان بشكـل واسع. ففي مساء یوم العشرين من مارس (آذار) الذي يصادف الیوم الأخیر من فصل الخریف وفق التقویم الكـردي، یجتمع الشباب الكـرد في المرتفعات أو الأماكـن المخصصة لذلك، فیشعلون النار ویجتمعون حوله ویغنون ویرقصون. وفي الیوم التالي، الذي يصادف یوم النوروز أي (الیوم الجدید) المصادف لـ(٢١) من مارس (آذار) الیوم الأول من السنة الجدیدة الكـردیة، یخرج الناس بالآلاف إلى خارج المدن والقصبات لیحتفلوا بالسنة الجدیدة، ویلبسون ملابس كـردیة زاهیة، ویحضرون أطعمة مختلفة ویتمتعون بیومهم هذا إلى المساء ثم یرجعون لبیوتهم.
هذا یعني، أن الأبعاد الروحیة والثقافیة للدیانة الزرادشتیة ما تزال تشهد علی تأثیرها بالرغم من مرور أكثر من (١٣٠٠) سنة علی أقل تقدیر من دخول الشعب الكـردي علی مراحل في الدین الإسلامي، وترك الأكثریة للدیانات التي كـانت حاضرة في كـردستان، ومنها: الزرادشتیة، المسیحیة، الیهودیة، والدیانات الأخری التي تعتبر منبثقة من الدیانة الزرادشتیة، أو قریبة منها، ومنها الإیزیدیة، الیارسانیة، العلویة وفي بعض المصادر الخورشیدیة أیضا.
وسنأتي علی خصوصیة وتمیز الدیانة الزرادشتیة بالنسبة للشباب الكـردي بشكـل مفصل في هذه الدراسة لاحقاً.
اعتبار الزرادشتیة دینا كـردیاً، يرجع إلى أواسط القرن الماضي. وقبل ذلك لم تشهد الأدبیات الكـردیة مناقشة هذا الأمر، وأول من بدأها البدرخانیون، ومن ثم في سنوات السبعینیات والثمانینیات أصبحت الزرادشتیة، العقیدة المركـزیة للقومیین الكـرد، خاصة من الظاهر، ولكـن، بالشكـل الحالي، لم يكـن هناك وجود لأتباع الزرادشتیة إلا بشكـل منحصر[9]. فالهدف من دراسته ومتابعته تكـمن في معرفة الدیانة الزرادشتیة وخصوصیاتها، ومدی تجذر الدیانة وسط الشعب الكـردي وماهیة تبعیتهم وأبعاد وجودهم داخل المجتمع الكـردي.
الزرادشتیة: مختصر في التاریخ والمعتقد
زرادشت[10]، الذي كـان اسمه سبیتما (Spitma)، واسم والدته دغدوا (Dagdwa) واسم والده بورشاسب (Purshasip)، اختلف فيه المؤرخون من نواحٍ كـثیرة، ومنها تاریخ ومكـان ولادته، وتفاصیل كـثیرة عن حیاته ومقتله أیضاً، ولكـن بحسب أدبیات الزرادشتیین «فإن ولادته سبقت ولادة المسیح بـ(1754) سنة، في ضواحي بحیرة أورمیة أو (بحیرة جیجیست)، قرب نهر دائیتي (ئاراس) في منطقة كـانت تسمی ئاتروپادكـان (Atrupadgan) في شمال شرق كـردستان، أي شمال غرب إیران الحالیة، وسط قبیلة (أسبتمان) العائدة للماگس (Mags) المعروف عند العرب بـ(المجوس)، والتي -بحسب كـتاب «جنة أهورایی»- هي واحدة من أشهر القبائل الكـردیة في حوض زاگروس (Zagros) ولغتهم كـانت شبیهة باللهجة الهورامیة الكـردیة، والتي كـانت تعتبر لغة «المیدیین» . وكـذلك -بحسب كـتیب للزرادشتیین باسم «الدین المنتخب»- أن أشو زرادشت[11]، ولد قبل المسیح بـ(1786) سنة، في الیوم السادس من خورداد. ولكـن، هناك من یرجع ولادته إلى تاریخ أقرب، فبحسب عبدالله مبلغ العباداني فإن ولادته ترجع إلى (660) سنة قبل المیلاد[12]. فأیا كـان تاریخ ولادته، لم یغیر ذلك من حقیقة وجود هذه الشخصیة التي «لم یدع هو بنفسه النبوة، ولكـنه بالتأكـید أخذ تعالیمه من أهورامزدا[13]، وكـان معلماً حكـیماً، ذكـیاً، واعیاً وصاحب تجربة میدانیة، ورفض المعجزة واعتبر السحر عملاً منحرفاً، وكـذلك رفض اعتبار القصص والأساطیر والكـتب، منزلة من عند الله».
للزرادشتیین كـتاب مقدس یسمونه أفیستا (Avesta)، والتي تعني بالعربیة «رسالة النور». أفیستا في البدایة كـانت تتكـون من ثلاثة أقسام رئیسة وهي: (یسناكـان، یشتكـان و فیسپرد). لكـن في زمن الهخامنشیين، وداریوش الأول أضافوا إلى الأفیستا قسما آخر يسمی ڤندیدات (Vandidat)، ويتكـون من القوانین والتعالیم وعقائد الپارسا (Parsa)، كـانوا یستخدمونها في المسائل الإداریة والعدل وإدارة الدولة. وبحسب كـتاب (جنة الأهورایی) وأكده كـل من بیر لقمان وفرهاد بالوان فإن هذا القسم لا علاقة له بالأفیستا وبرسالة زرادشت لا من قریب ولا من بعید، وهي عبارة عن مجموعة نصوص خرافیة والعقائد البربریة للپارسا. وهم یعتقدون أن كـتاب الفندیدات القسم المضاف إلى الأفیستا، تم إتلافه والنظر إلیه كـكـتاب متخلف وأسطوري، من قبل أنوشیروان الكـبیر الملك السابع للساسانیین.
الزرادشتیة: القومیة الدینیة
إن الفكـرة القائلة: «إن القومیة الدینیة متصدعة وهجینة ضمن جوهر الخطاب الحداثي، الذي یقسم المجتمعات إلی حدیثة وتقلیدیة» [14]، تفكـیر غیر دقیق، علی الأقل بالنسبة للشرق الأوسط، والعراق، ومنها إقلیم كـردستان ومناطق أخری، لأنه بقدر تراجع القومیة، تنامت الهویة الدینیة ومن ضمنها البحث عن الهویة القومیة الدینیة، التي بدأت تدخل المجتمعات ذات التوجه العلماني.
وحصل هذا التناسخ في الدول العربیة في ستینيات وسبعینیات القرن الماضي بین القومیین العرب والإسلامیین، خصوصاً بعد هزیمة العرب في حربهم مع إسرائیل سنة ١٩٦٧ والتي سمیت بالنكـسة[15]، فبالرغم من اتهام الإسلامیین الأنظمة العربیة والقومیین العرب، بمسؤولیتهما عن تلك الهزیمة، بدأ الجانبان بالتقارب، وأول مؤشرات هذا التقارب كـان الدعوة للحوار القومي الدیني من قبل مركز دراسات الوحدة العربية سنة 1989 [16]، ولعل ولادة المؤتمر «القومي الإسلامي»[17] في التسعينيات كانت المؤشر الأوضح على هذا التقارب -بحسب الكاتب والباحث العربي في التاريخ الحديث بشير موسى نافع. وبذلك، برزت القومیة الدینیة بین العرب والإخوان المسلمين الذين كانوا سباقین لهذا التوجه، حیث یقول حسن البنا المرشد العام للإخوان المسلمین في رسائله[18]: «ثم إن الإسلام الحنيف نشأ عربياً ووصل إلى الأمم عن طريق العرب، وجاء كتابه الكـريم بلسان عربي مبين، وتوحدت الأمم باسمه على هذا اللسان يوم كان المسلمون مسلمين، وقـد جاء في الأثر: «إذا ذل العرب ذل الإسلام».
وخلال دراستي لتوجه الزرادشتیین الكـرد تبین لي أنهم الأنموذج الأقرب في جنوب كـردستان للقومیة الدینیة، بعد الاتحاد الإسلامي ذي الخلفیة الإخوانیة، حیث إنهم الآن یطرحون أنفسهم كأنموذج للقومیة الدینیة. وكـذلك الزرادشتیون، یرون أن نهضة الكـرد وخلاصهم يكـونان عن طریق عودتهم إلى دینهم الأصلي، ویطلقون على تلك النهضة «الثورة الثقافیة» كـما عبر عنها مرشدهم الروحي (بیر لقمان) عندما أجریت معه مقابلة طویلة بهذا الخصوص.
مسألة التاریخ عند الزرادشتیین الكـرد
التاریخ یكـتبه المنتصرون، هذا ما قاله الباحث بیر لقمان أثناء مقابلةٍ لإعداد هذه المادة، وأضاف: «نحن فقدنا امتلاكـنا لتاریخ مليء بالرفعة والحریة وقیادة الأمم، ویجب أن نسترجع تاریخنا المسروق». فخلال مقابلاتي معه وآخرین ومطالعتي لأدبیاتهم، تبین لي أنهم یهتمون بالتاریخ وبتصحیحه بحسب تصورهم، أكثر من أي شيء آخر. فعندهم، أهمیة معرفة الكـرد لتاریخهم أنها تعید للفرد الثقة بنفسه، فیحاول أن یبني حاضره علی ما تم فعله في الماضي، بدءاً من الدین والثقافة وانتهاء بالسیادة التي فقدوها تحت ضربات المهاجمین وهیمنتهم.
الموروث والمألوف عند المؤرخین أن الساسانیین كـانوا فرساً، وهذا ما تم تثبیته عند المؤرخین المسلمین، خصوصاً عندما یأتون علی الحروب التي خاضها المسلمون ضد الساسانیین. ولكـن الكـثیر من المؤرخین الكـرد الفیلیین وغیرهم، وكـذلك الزرادشتیون، ینكـرون أن تكـون للفرس إمبراطوریة اسمها الساسانیون[19]. فبحسب أدبیات الزرادشتیین الكـرد، وبالأخص المرجع الروحي للزرادشتیین «بیر لقمان»؛ فإن مؤسس الدولة الساسانیة أردشیر الأول، ولد في قریة شابانكـاره من عائلة الروحانیین الماج (Magi)، وهو ابن بابك وحفید ساسان، الكـاهن الأعظم للزرادشتیین. وهو أي «بیر لقمان»؛ یستمر ویقول: «ساسان كـان یقود المعبد المقدس الكـبیر الزرادشتي وسط وطن المیدیون في القریة المقدسة (شابانكـاره)، وهو كـان یقود الدین الزرادشتي وینتمي إلى عائلة بازرنجي».
أردشیر، الذي ربط الحزام الزرادشتي عندما كـان عمره (15) سنة ودرس علم الطب وعلم النجوم، جهز جیشاً عندما كـان عمره (30) سنة، وهاجم الملك أردوان الخامس ملك البارثیین الأشكـانیین سنة (632–651). وبحسب البیر لقمان، فإن السبب الرئیس للهجوم علی أردوان من قبل أردشیر العظیم، كـان نتیجة لرسالة تاریخیة كـتبها له أردوان، ونسخة من الرسالة لا تزال محفوظة في موزه ی طهران. ویقول أردوان للأردشیر البابكـان ما نصه: «أیها الكـردي الذي تربی تحت خیمة الكـرد، من أذن لك أن تتقلد تاج الملوك».
وغضب أردشیر من هذه الرسالة واعتبرها إهانة له ولقومه، لذلك قام بمهاجمة أردوان ملك الحیرة، وبعد حرب مصیریة استطاع قطع رأس أردوان، وأعلن الدولة الساسانیة، نسبة إلى جده ساسان العظیم. ویؤكـد بیر لقمان، بعكـس جمیع المؤرخین مثل دیاكـوف، ومؤرخي الفرس وآخرين، الذین نسبوا الساسانیین إلى الپارس، أن «هناك تزویراً مخیفاً للتاریخ، لأن جمیع ملوك الدولة الساسانیة كـانوا كـردا، وأسس أردشیر دولته علی أساس الدین الزرادشتي، واعتبرها امتدادا للإمبراطوریة المیدیة، والماجس كـانوا یقودونها».
الزرادشتیون الجدد ونفض التراب عن التاریخ
یؤمن الزرادشتیون الجدد بأن كـلمة الدین جاءت من كـلمة «دئینا» في الأفیستا، وتعني «الوجدان الیقظ»، أي «القوة التي تمیز الخیر من الشر، علی أسس الفكـر والوعي والاختیار الحر. وعلی هذا الأساس، یعتبر شخص ما متدیناً عندما یفكـر بحكـمة، وبفكـره النیر، یختار الطریق الصحیح من أجل الحریة وحیاة جیدة لنفسه وللآخرین».
هذه الدیانة كـانت منتشرة في أغلب مناطق كـردستان المقسمة حتى الزمن القریب لما قبل الإسلام، وما تزال هناك آثار ومواقع كثیرة تشهد لحضورهم في الماضي البعید، وأحد أهم هذه المواقع معبد كـبیر في دربندیخان[20] وفي مناطق أخری من كـردستان[21]. وما يزال هناك أتباع للدیانة الزرادشتیة في إیران وهندستان، وتمتد جذورهم إلى أعماق التاریخ. وبحسب الكـثیر من المصادر، عند دخول الجیش الإسلامي إلى مناطق متعددة في كـردستان، هرب الكـثیر من الكـرد إلى مناطق في آسیا خاصة إلى الهند. وهناك من الهنود الزرادشتیين یذكـرون هذا التاریخ وهجرة أجدادهم إلى الهند هرباً من الجیش العربي الإسلامي.
وبالرغم من وجود بعض أفراد النخبة بین القومیین الكـرد الذین كـانوا یظهرون نوعاً من الانتماء للدیانة الزرادشتیة ولو بشكـل صوري، أو علی الأقل اعتبارها دینا لأسلاف الكـرد والافتخار به ، وظهر هذا الأمر أول مرة عند عائلة البدرخانیین، ومرورا بالكـثیر من القومیین الكـرد في بدایات وأواسط القرن المنصرم، وانتهاء بالزعیم الكـردي عبدالله أوجلان، الذي قال: «إن الزرادشتية متفوقة أخلاقياً وفكريًا على الإسلام»[22].
إحدی أهم ممیزات الدیانة الزرادشتیة؛ دورها المحوري في تحول عقیدة تعدد الآلهة إلى الإله الواحد، ولكـنها عند الزرادشتیین الجدد، تتحول إلی نوع من القومیة الدینیة (Religious Nationalism). ویتم دراسة أبعادها الروحیة والاجتماعیة بمعزل عن تطبیقاتها الطقوسیة بالشكـل التقلیدي الذي كـانت علیه الدیانة، أي تحویله إلى دیانة حداثیة مدنیة تنسجم مع أسس الحداثة والمدنیة الجدیدة. الزرادشتیون الجدد یحاولون تثبيت وجودهم وترسیخ أقدامهم داخل المجتمع الكـردي، والذي لا یزال لا یعرف الكـثیر عنهم، وهم على الرغم من وجودهم الواسع في أكـثر المدن والقری الكـردیة، والذي یعد بالآلاف، ولكـنهم لا یزالون یعتبرون غرباء، ویتهمون بشتی الاتهامات غیر اللائقة. فلقد هوجموا من قبل بعض من أئمة المساجد وكـذلك من قبل السلفیین، لذلك، في بعض الأحیان، مسألة اندماجهم في المجتمع تواجه صعوبات جمة بالرغم من وجود ممثل للدیانة في وزارة أوقاف الإقلیم[23].
وأول معابد الزرادشتیین الكـرد الجدد، المعبد الزرادشتي في السوید[24]، ومن ثم معبد رسمي في مدینة السلیمانیة، فتم افتتاح آولهما في ٢٠١٥ [25]، وتم افتتاح المعبد الثاني[26] في ٢١/٩/٢٠١٦ حیث مدینة السلیمانیة التي تعتبر المعقل الرئیس لهم. فعملیة التحول إلى الزرادشتیة یقودها «بیر لقمان»[27]، وكذلك هناك مجموعتان أخریان خارج إشراف «بیر لقمان».
البنیویة الهرمیة للزرادشتیین بالشكـل التالي:
عملیة التحول إلى الزرادشتیة الرئیسة یقودها «بیر لقمان»، مع مجموعتین أخریین خارج قیادته. هذا، وحركـة الزرادشتیین الرئیسة تمتلك منظمتین مدنیتین ومركـزین:
المركـز العام للزرادشتیین في كـردستان، ويتفرع عن هذا المركـز فرعان:
الأول: منظمة الثقافة والفلسفة الزرادشتیة التي تم تأسیسها في 8/2/2015. ویعقد مؤتمرها سنویا، وينتخب رئیسها وأعضاء الهیئة الإداریة لها. وهي تعتبر منظمة دینیة ومدنیة، ولها فرع في مدینة طوزخورماتو التابعة لمحافظة كـركـوك.
الثاني: منظمة أشا للفلسفة الزرادشتیة، التي تم تأسیسها سنة 2016، وعقدت مؤتمرها الأول، وهي مدنیة فقط، ولها فرع في مدینة رانیة التابعة لمحافظة السلیمانیة.
وهناك ثلاثة مجالس للزرادشتیین بهیئة إداریة مختلفة:
الأول: المجلس العالي، والذي يتكـون من (١٠١) عضو، ويحوي تحت جناحه جمیع الكـوادر العلیا.
الثاني: المجلس الدیني (مري)، مكـون من مجموع الرجال والنساء الدینیین، ویقومون بتنفیذ الأمور الدینیة.
الثالث: المجلس القیادي، والذي يتكـون من ثلاثة أشخاص، یعتبر «بیر لقمان» رئیسا للمجلس ويقود الحركـة الزرادشتیة بشكـل عام.
وكـما یقول بیر لقمان، تم افتتاح مركـزین من قبل القیادة، في السلیمانیة ورانیة، وكـذلك تم افتتاحه في أربیل العاصمة، ولكـن تم إغلاقه بعد ستة أشهر من قبل أسایش أربیل. وكـذلك هناك محاولة لفتح مركـز في مدینة كـركـوك وتمت التحضیرات بهذا الشأن. ولدینا مجلس تحت اسم (مري) في بریطانیا وألمانیا، وكـذلك عندنا مجلس في بغداد، دهوك، كـركـوك، خانقین، وفي أربیل.
وهناك منظمة أخری خارج المركـز، باسم (یسنا)، ولهم مركـز في السلیمانیة.
وكل هذا، كـان قد أعلن في بیان للزرادشتیین، ونشر في صفحتهم علی الفیسبوك، وهنا مقتطف من البیان كـما یلي:
في یوم 25/7/2017 تم إعلان البشری الكـبری، بحسب البیان، وتقول:
بصحبة أهورمزدا العظیم الخالق، وأشو زرادشت، نبي الحكـمة والمعرفة
إلی الرأي العام الكـردستاني.
الموضوع/ البشری الكـبری
«نحن في الممثلیة، نمثل مجموعة منظمات متعلقة بقیادتنا للحركـة الزرادشتیة، ومجموعة من الشخصیات المؤمنة بهذه القضیة، وعلی مستوی الوعي والمسؤولیة أمام مسألة الزرادشتیین كـقضیة (قومیة، فكـریة، فلسفیة، تاریخیة، دینیة وروحانیة)، وكـنتیجة لمجموعة من الاجتماعات الاستشاریة وتبادل الآراء، تم اقتراح مجلس تحضیري لاتباع الإجراءات الضروریة من أجل تأسیس مجلس للزرادشتیین باسم (مجلس مري) تحت رایة واحدة. وتعمل من أجل هدف عظیم، والذي هو عبارة عن توحید طاقات جمیع الشخصیات والمنظمات الزرادشتیة، التي جاءت إلى المیدان من أجل خلق استراتیجیة عظیمة وسوف تتجسد عن (مجلس الماج في كـردستان)، ونعمل من أجل انتفاضة تاریخیة علی أسس السلام الاجتماعي والعدالة، وتعمل علی إعادة تعریف نظام الحیاة العلیا والمناسبة للمجتمع الكـردي وشعوب زاگروس والتي تشكـل المیزوبوتامیا مركـزه، وتكـتب وتقرأ وتصبح دستورا مستقرا.
بشری تأسیس مركـز «مري»، تعتبر بشری لملایین البشر، في كـردستان ومساحات شاسعة لشعوب المیزوبوتامیا، الذین كـانوا ینتظرونه، وستبدأ عملیة تحریر «الفكـر الإنساني الذي كـان تم احتلاله» تخطو خطواتها العملیة. وتم تحدید یوم 25/7/2017 مقابل 3/5/2717 السنة الكـردیة، كـیوم البشری لإعلان مجلس المري. والجدیر بالذكـر أنه تم تأسیس هذا المجلس یوم 19/7/2017 المیلادیة.
ويعتبر هذا المجلس، مجلساً تحضیرياً لتأسیس «مجلس ماج كـردستان»، الذي سوف يصبح مسؤولاً عن جمیع تحركـات الزرادشتیین، للوصول إلى جمیع المسؤولیات التاریخیة بهذا الخصوص.
المكـان: كـردستان الجنوبیة.
عدد أعضاء المجلس: (٩) أعضاء.
كـیفیة التشكـل: تم تجاوز جمیع التمایزات الجنسیة والتمایزات الأخری، بناء علی الأسس العلمیة، وعلی أسس المقدرة والكـفاءة وتبني القضیة، تُعطی الثقة للأعضاء.
هناك أسس أخری لانتخاب الأعضاء منها تجاوز أسس الدیمقراطیة الشائعة، ویحل محلها الإدارة الذاتیة الأفقیة بناء علی الوعي والعقل الإداري، وكـذلك تبني عملیة الانتقاد والمطرقة الدائمة لدعم العملیة الإداریة وتقویة الأسس والبنیة الموفقة. وكـذلك إعطاء حق الحصانة، لجمیع الأعضاء التسعة. ویتم إلغاء حصانة أي عضو یتجاوز علی الأسس الثلاثة للزرادشتیین.
وهكذا، عن طریق اجتماعاته التشاوریة، یجتمع «مجلس مري» في الأسبوع مرة واحدة، ویقیم أعمال أسبوع من العمل ویخطط لأعمال الأسبوع القادم.
وهرمیة المجلس تكـون كـالتالي:
مجلس زرادشتيي كـردستان/ فرهاد عبدالحمید بالوان
مجلس زرادشتيي كـردستان. لقمان كـریم حمه میرزا
منظمة الثقافة والفلسفة لزرادشتیي كـردستان/ أشنا عبدالقادر رضا
منظمة أشا/ نیشتمان إبراهیم إسماعیل
منظومة وجود الإنسان بالفكـر الأفیستايي/ كـاظم كـریم رشید عزیز
أكـادیمیا زرادشتيي كـردستان/ طاهر رشید قادر إبراهیم
شعلة حریة كـردستان/ حسین محمد كـریم رحمان
الشخصیة المستقلة/ أژي عثمان أحمد رضا
أكـادیمیا زرادشتيي كـردستان/ ماكـو ساوین
العقد الاجتماعي لمجلس مري:
أعضاء مجلس مري، منذ إعلان هذا المجلس، مسؤولون عن تنفیذ هذا الإعلان التاریخي.
الهیئة التأسیسیة/ جنوب كـردستان، سلیماني)
الزرادشتیين الجدد والتعایش السلمي
بالرغم من وجود أناس متطرفین بین كـل المكـونات، وبعض الخطباء الذین لا یراعون في خطبهم مسألة السلم الاجتماعي بسبب خطبهم التحریضیة، ووقوع بعض الناس تحت تأثیر هؤلاء الخطباء، ولكـن بشكل عام المجتمع الكـردي مجتمع مسالم، والجمیع یعیش جنبا إلى جنب بدون مشاكـل جدیة بین مكـوناته.
لمعرفة مواقف الزرادشتیین، وفهمهم للدیانة التي یعتنقونها وأسباب اختیارهم لهذه الدیانة، وعقیدتهم، وكـیفیة التعامل مع دینهم والأدیان الأخری، وما إذا كـانوا آمنین في مجتمعهم ویمارسون طقوسهم وأعمالهم بشكـل عادي والعقبات التي تواجه هؤلاء، أعددنا عشرة أسئلة مختلفة لمعرفة الزرادشتیین بشكل أوضح.
دین العقل والمنطق
هذا البعد يكـمن في السؤال التالي:
حضرتك كـزرادشتي، كـیف تفهم الدیانة الزرادشتیة؟ أي فهمك لهذه الدیانة ولیس ما تم تداوله في نصوص الكـتب.
أول الأشخاص الذین وجهت لهم هذا السؤال، كـان المرشد الروحي لهؤلاء المتدینين الزرادشتیين الجدد. فكان جوابه، یضم خمس نقاط. ویمكـن اعتبارهذه النقاط الخمس، ولیدة الفهم الحداثي ولیس الفهم الدیني بحد ذاته، سواء كـان هذا الدین یضم هذه النقاط أم لا، ولكـن نری تأثیر الحداثة بشكـل جلي علی الجواب.
أولاً: إنه یقول: «الزرادشتیة دین مليء بالسلم والاختیار الحر». لمعرفة ما إذا كـانت الزرادشتیة في زمنه دینا للسلام أم لا، نحن بحاجة إلى بحث وتقص ولا مجال هنا لمعرفة هذا الجانب، وبشكـل عام، نستطیع أن نقول بأن العنف والصراع سِمَتان غیر منفصلتين عن البنیة الاجتماعیة والدینیة للمجتمعات. ولكـن بالتأكـید التعلیمات الدینیة كـان وما يزال لها التأثیر المباشر علی السلام الاجتماعي الداخلي.
ثانیاً: «الزرادشتیة دین له علاقة بالفرد ولیس بالجمیع». إذن إنه یؤمن بنوع من الفردانیة، أي أن لا یتدخل الإنسان في شؤون الآخرین فیما یتعلق بالدین، واعتباره مسألة فردیة بحتة. هذه أیضا من روح الحداثة ومن قیم الحضارة الغربیة الحدیثة، والتي لها هیمنتها علی المجتمع الإنساني بشكـل عام. وكـذلك مسألة مهمة لاستقرار السلام الاجتماعي والتعایش السلمي بین المكـونات الدینیة والعرقیة والقومیة.
ثالثاً: إنه یقول: الزرادشتیة دین متعلق بطبیعة الوجود بشكـل عام. كـما فهمت من هذا المقطع ومن خلال مقابلة أجریت معه لأكثر من ساعة، أن دیانتهم تهتم بالزراعة وأنها ملتصقة بالطبیعة، التصاقها بالنور، لأنه أصل الطبیعة.
رابعاً: «الزرادشتیة تُعرّف الدین من جدید، وتخرجه من الإطار الجامد، وباتجاه توجهه الطبیعي والفلسفي تبني الدین من جدید». وهذا یعني أن باستطاعة الزرادشتیة أن تغیر جلدها وفحواها بتغیر الزمان والمكـان. أو بمعنی آخر، الزرادشتيون الجدد یعتقدون أن زرادشت لم یدع النبوة، وأن الزرادشتیة وضعیة أكثر مما هي سمائیة. وهذا یفتح الباب واسعا للزرادشتیین لكـي یقرؤوا النصوص الدینیة وفق ما یطلبه الواقع منهم. وكـما هو الحال، بقدر ما أنا فهمت من هذه الحركـة، فإن الزرادشتیة فلسفة أكثر مما هي دیانة، وإنهم یتعاملون معها بهذا التوجه.
خامساً: «الزرادشتیة هي علاقة الذات بالذات والطبیعة والبیئة ولا تملك دستورا أو قانونا. أي لیس لها شریعة». إذن الزرادشتیة قبل كـل شيء انتماء وعقیدة خاصة بمسائل حیاتیة، ولا تتعمق بمسائل الآخرة، أو بالأحری لا تنتظر جزاء أو شكـورا في الآخرة، لأنهم یعتقدون أن الجنة في الدنیا وتحت قدرة الشخص بحد ذاته، فالشخص یستطیع أن یهیئها لنفسه أو یحولها إلى جحیم.
الجواب الآخر جاء من «فرهاد عبدالحمید بالوان» الذي یسمونه «المفكـر الزرادشتی»، في جوابه عن السؤال السابق نفسه، أجابني باختصار، بأنه اختار الزرادشتیة لسببین، الأول: لأن الزرادشتي كـردي، وبرهنا على أنه كـردي. ثانیا: الجانب الإنساني لرسالة زرادشت، ونستطیع أن نحولها إلى رسالة إنسانیة.
هذا الجواب یشدنا إلی ظاهرتین، أولاهما: القومیة الدینیة، التي نری ملامحها أكثر من أي وقت مضی. وثانیهما: تأثیر العولمة، والجانب الإنساني الحداثوي الذي يركـز علی جمالیات الإنسان والتعایش السلمي بین المكـونات.
وحصلت علی الجواب السابق نفسه من السیدة أشنا، التي لها صلاحیة إدارة طقوس التحول إلى الزرادشتیة وشد الحزام الزرادشتي[28] في تجمع للزرادشتيین، المختص باللباس الكـردي. والحزام عبارة عن مترین أو أكثر من القماش، يوضع علی خاصرة الرجل أو المرأة، ويشد بثلاث حلقات علی البطن كـإشارة إلی الثلاث كـلمات التي یؤمن بها الزرادشتيون، وهي: (التفكـیر الجید، والقول الجید، والعمل الجید). وهي قالت: «الزرادشتية دین كـردي أصیل، وكـنا نحن الكـرد في البدایة ننتمي لهذه الدیانة، ولكـننا قمعنا وأمرنا بتركـه، وفرضت علینا دیانة أخری رغماً عن إرادتنا». إذن القومیة هنا هي الدافع الرئیس للرجوع إلى هذه الدیانة.
وفي جواب لرئیس منظمة الثقافة والفلسفة الزرادشتیة، عن السؤال الأول نفسه، قال: «الزرادشتیة دیانة حداثوية، لأن زرادشت یقول: (لنكـن من أولئك الذین یجددون العالم بشكـل مستمر)». وقال أیضا: «إنني أری ما أعتقد به في هذه الدیانة بدءاً من خلق الإنسان وانتهاء بالخلیقة. وكـذلك لكـوني متخصصاً باللغة العربیة، عندما قرأت القرآن، أثیرت عندي أسئلة كـثیرة». فجوابه یضم جانبین: الجانب الحداثوي ومسایرة الواقع، وكـذلك جانب سیكـولوجي، والذي يتعلق باختیاره الحر. ولشاخوان الاتجاه نفسه في تحوله لهذه الدیانة، حیث یقول: «رجعت إلی الزرادشتیة، لأنني أعتبر الزرادشتیة دین آبائي وأجدادي، ولأنها تفسر كـل المظاهر بطریقة علمیة جمیلة».
فعلینا أن نلاحظ هنا، أن الزرادشتیین لا یعتبرون اعتناق هذا الدین تحولاً، بل عودة، وهناك فرق كـبیر بین كـلمة «التحول» من دین إلى دین، وبین «العودة» إلی دین سابق. فمن الناحیة السیكـولوجیة، یعتبر هؤلاء؛ أن الزرادشتیة ملك لهم، أي دین قومي، والإسلام دین دخیل، ومفروض علیهم بغض النظر عن أیهما أفضل.
نیشتمان، مشاركـة أخری، وهي رئیسة منظمة «أشا»، قالت لي بثقة عالیة: «الزرادشتیة، عودة إلی الذات. هناك ظلام مفروض علینا، فنرید أن نزیل هذا الظلام، والمهم عندي هو الإنسانیة، وتقدیم خدماتي للإنسانیة، ولكـي نصل إلی تلك المرحلة، یجب أن نفهم الفلسفة الزرادشتیة، لأن الجانب الدیني مسألة روحیة، ومتی استطعت أن أحافظ علی إنسانیتي، فهذا یعني أنني زرادشتیة كـاملة. وهذا الشعور يعود إلى ١٩٩٥ عندما خلعت العبودیة، وتزوجت بهدیة حلقة واحدة».
إذن، نری نوعاً من الروح الحداثوي في هذا الخطاب، بتأكـید مسألة الإنسانیة خارج التدین، ونوعا من التحدي المختلط بمسائل الجندر، وعدم الاكـتراث بمسألة الدین والنظر إلى الزرادشتیة كـفلسفة ولیس كـدیانة. ورأیت «رابر» یركـز أیضا علی العقل والمنطق بربطه بالجندر، حیث قال: «الزرادشتیة، فكـر حر وتفكـر بالعقل والمنطق، واحترام المرأة، لأنه في مجتمعنا الإسلامي -شئنا أم أبینا- المرأة عبارة عن الأشیاء». وهذا ما أكده أیضاً، عطا زرادشتی، الذي قال: «أنا أری الزرادشتیة فلسفة فكـریة، وإنها تساعد علی تقدم المجتمع». إذا الروح الحداثوي يتجلی هنا أیضاً في فكـرة التقدم عبر مفهوم الفلسفة بعیداً عن مسألة التدین بالمفهوم التقلیدي.
الجدید عند مشارك آخر باسم أسو، أنه یعتبر الزرادشتیة دیناً غیر تقلیدي، حیث یقول: «في الحقیقة الزرادشتیة لیست دیناً تقلیدیاً مثل الأدیان السامیة، وهي لیست دیناً مقفولاً، لأن الإنسان في الزرادشتیة حر في تفكـیره ویستطیع أن یعطي تعریفاً جدیداً لمسألة الأخلاق، والإله والإنسان والوجود». هنا أیضاً، في الاتجاه نفسه، النظرات السابقة ولكـن الجدید هنا، هو مسألة الإبداع، أو الإصلاح في الدین عبر صیاغة جدیدة لمسألة الأخلاق والله والإنسان والوجود. أي بمعنی آخر؛ إنهم مقبلون نحو المستقبل ویرون دینهم في جوهر الحداثة. لذلك، یمكـن أن نری هذا الدین حداثياً داخل عجلة التاریخ ولیس خارجها، بشروط الزمن الحاضر، ولیس بشروط الماضي مهما كـان تشكـیله وأطره التاریخیة.
هذا الحضور في الزمن الحالي والمستقبلي يتجلی في جواب المشارك «ألان»، حیث یقول: «الزرادشتیة، دیانة بعیدة عن الخرافة، وقریبة من العقل والعلم. أنا لا أؤمن بفكـرة الإله، والأنبیاء، فالزرادشتیة بعیدة عن هذا، وهي أقرب إلى الفلسفة». إذن، یمكـن أن نستنتج من هذا الجواب مصطلحاً آخر وهو العلمانیة. ألان، یعتبر هذا الدین دیناً علمانیاً، داخل أطر العقل وخارج أطر الخرافة، ویبدو الإیمان بالغیبیات عنده تدحرج داخل أطر الخرافة، وتمركـز داخل الفكـر العقلاني الذي یمكـن النظر إلیه ضمن موجة الحداثة، وفي كـنف نیتشه عندما أعلن موت الإله، علی لسان زرادشت، في حواره مع شیخ قدیس في غابة نائیة، حیث قال: «هل يكون هذا الأمر مقبولا، ألم يتعلم هذا الشيخ القديس في هذه الغابة أن الإله قد مات؟»[29].
والجواب الأخیر، في نظرة هؤلاء لهذه الدیانة الجدیدة القدیمة، يتجلی في منظور فاضل، الذي قال: «الزرادشتیة حیاة. إنها سعادة للإنسان، ولیست مجموعة نصوص فقط. ویجب أن لا یكـون لدینا شكـ للوصول إلى الحقیقة، وكـذلك عندنا مناسبات لقضاء الوقت والاجتماع حول بعضنا البعض. إنها دین العقل والتفكـیر». هذه الرؤیة أضافت لنا بعدا آخر، وهو السعادة. فهل السعادة تكـمن في دین أو أیدیولوجیا، أم تكـمن في الاعتقاد بدین أو فكـر ما؟ فمهما كـان إبراز البعد الاجتماعي والعملي للدیانة، فإن إعطاء البعد العقلاني للدیانة يكـاد يكـون إجماعا بین هؤلاء الزرادشتیين.
اختیار الزرادشتیة
السؤال الثاني الموجه للمشاركـین: «ماذا تعتقد أن تقدم لك هذه الدیانة؟ ولماذا من بین كـل الأدیان الموجودة هنا في كـردستان، اخترت الزرادشتیة؟». من هنا، سوف أقدم الأجوبة، لمعرفة مجمل المعرفة، ومن ثم نعرج علی تحلیل سریع لها. بیر لقمان یركـز علی الحریة، حیث یجیب: «إنها (أي الزرادشتیة) تقدم لي الحریة، وتجعلني أحس بوجودي، وكـذلك هي طریق للسعادة والحیاة معاً بسلام، وتعلمني أن لا أرفض الآخر ونفكـر معا من أجل المساواة بغض النظر عن اللون والقومية واللسان والجغرافیا». ویركز فرهاد بالوان علی بعد واحد حیث یقول: «لا أری في الزرادشتیة شیئاً یثبطني، بل یجعلني أتقدم نحو الإنسانیة». تكـتفي أشنا خان بعائدیة الدین إلى كـردیتها، ولكـن یوسف، یقول: إنها تقدم لي كل سعادة الحیاة، وتقدم لي التاریخ الذي سرق مني من قبل المحتل، سيعود لي التاریخ المسروق والثقافة».
یعترف شاخوان بأن الزرادشتية تقدم له «إحساساً عجیباً، ولا یستطيع التعبیر عنه، ولكـنني أتصور أن قربها من الحیاة الكـردیة والكـثیر من الجمالیات واحترامها للقیم الإنسانیة». وبالقدر نفسه تؤكـد نیشتمان خان أن «نورهم وجمالیاتهم قد تمت سرقتها، وبالعودة إلى الزرادشتیة أرید إعادة ذلك النور والجمال». وعطا زرادشتي یضیف أن «الزرادشتیة، هي الدین الوحید الذي یحترم الإنسان بدون التميیز بین الذكـر والأنثی، الدین الذي یعلم الإنسان الحب». ولكـن أسو یؤكـد أنها «تقدم له الحریة». وألان یقول: «إنها تقدم لي أسس الإنسانیة». ورابر یری بأنها «تصله إلى أهداف الحیاة». وفاضل كـذلك یؤكـد أنها تقدم له «الحریة من قيود الشریعة، والإنسانیة».
فالجمیع یركـز علی أن الزرادشتیة تقدم لهم الحریة والإنسانیة والسعادة. وأركـز هنا علی كـلمة الإنسانیة، التي تعتبر إحدى نتائج الحداثة. وبذلك، نستطیع أن نقول: إن الحداثة فشلت في تجسید المعاني الإنسانیة بشكل عملي، لأنها فشلت بالضرورة في تقدیم المساواة بین البشر بالرغم من ادعائها، فعندما تفشل قیم الحداثة وكـذلك قیم الدین الذي تعتنقه الشعوب في الهیمنة والتعبئة من أجل إبقاء الكـردي مجزأ مشتتا، وفي نفس الوقت تحرمه من الإحساس بالسیادة علی نفسه، یبحث عن البدائل، وعندما یكـتشف البدیل، بدون الغور في أعماق ذلك البدیل، وخاصة عائدیة قومیة الدیانة، وكـذلك تحریره من الكـثیر من قیود الشریعة، إلی فضاء دین بلا شریعة، والتصاقه بالطبیعة التي يحبها الإنسان الكـردي بطبعه ، ویعطیه السعادة ولو مرحلیاً.
ولمعرفة تطبیق الجانب الإنساني لدی هؤلاء، وجهت لهم سؤالاً عما إذا كـانوا یعتقدون أن دیانتهم هي الحقة والدیانات الأخری باطلة، فالجواب كـان متناغماً مع التوجه الحداثوي أیضا. فبالنسبة لـ(بیر لقمان) لیس هناك في الزرادشتیة حق من السماء وغیر حق من غیرها: «لا یجوز عندنا رد اعتقاد الآخر. فالحریة الشخصیة في الاختیار، هي البنیان والأصل» (بیر لقمان: المقابلة). وقال فرهاد بالوان: «افعل ما شئت، ولكـن لا تكذب». فالصدق عنده يعتبر محور العلاقات بین الأدیان والمكـونات. وأضافت أشنا: «كـل الأدیان مقبولة عندنا». وقال یوسف: «أعتقد بصلاحیة كـل الأدیان، ولكـن بشرط أن تبتعد عن السیاسة. فالإسلام السیاسي خطر علینا جمیعاً، مسلمین وزرادشتیین». وقال شاخوان: «لا أعتقد بأني الوحید الذي أملك الحق، لأن الجمیع حر في اختیار ما یریدونه، والمهم أن لا یؤذي أحد أحدا». وقالت نیشتمان: «الرجوع إلى دیني وثقافتي، لا یعني أن أعادي الآخرین، ونرید أن یعیش الجمیع معا بسلام». لكـن قال عطا زرادشتي: «أنا لا أری دینا علی حق، باستثناء الزرادشتیة». وأضاف أسو: «كـل الناس أحرار في اختیار ما یریدون، ولكـني أعتقد بأن الفكـر والفلسفة الزرادشتیة أقرب إلى العقل». وقال ألان: «لا یوجد دین مرتبط بالإله، لذلك فإن التفسیر الزرادشتي أقرب إلى القبول». وقال رابر: «أنا أؤمن بالتعایش، ولكـي نعیش كـذلك، یجب علینا إدارة نظام جمیل». وأضاف فازل: «لا أعتقد بسماویة الأدیان، وإنها نسبیة، وفي الجمیع نقص».
إذن التوجه الحداثوي الشخصي ولیس الدیني، أسس لقراءة ورؤیة جدیدة، بعیدة أو قریبة من روح النصوص في الأفیستا، وهذا ما نستطیع التعامل معه، والتي تتكـون من نسخة دینیة أرضیة، یمكـن أن تتغیر قراراتها وقدسیتها مع تغیر الأزمنة والأمكـنة، أو بمعنی آخر، یمكـن لأتباعها الانسجام مع ما یتطلب الواقع والظروف التي یعیشون فیها، واندماجهم معها لا یتطلب الكـثیر.
وضمن إطار السؤال السابق نفسه، وجهت لهم سؤالاً آخر، عما إذا كـانوا یعتقدون أنهم الوحیدون الذین یدخلون الجنة أو لا؟ فأجاب بیر لقمان: «في وجهة نظر الزرادشتیین، الجنة والنار موجودان في الحیاة. الفكـر، والقول والعمل الجید، ینتجان الجنة، وبعكـسهما النار والخسران». وكـذلك قال فرهاد بالوان: «الجنة حاضرنا، الحیاة الحالیة». وهذا الاعتقاد جماعي، لأنهم كـما قال أسو: «نحن لا نؤمن بالخرافات، فكـل ما لم ینسجم مع العلم لا نؤمن به». وهكذا، إنهم لا یتعبدون من أجل جزاء أخروي، بل التعبد كـما قالت نیشتمان: «حتی لو كـان هناك حیاة أخری، یوجد في دیننا ست مراحل من العرفان، وآخر المراحل هي مرحلة الحیاة الأبدیة».
الهویة الكـردیة الجدیدة
من هنا، كـان لا بد من تغییر مسار السؤال، عما إذا كـانت الدیانة الزرادشتیة، فقط دیانة أو عندها أبعاد أخری، مثلاً؛ هل یبحثون عن هویة كـردیة جدیدة؟
المرونة الفكـریة المتأثرة بالحداثویة، خلقت لدي شعوراً، بأن الزرادشتیة التي یتحدث عنها أتباعها الجدد، ولیدة شوارع لندن وباریس، ولیس الأزقة غیر المبلطة في شهرزور وحرارة سهول كـركـوك. وكـأن زرادشت یحمل الجنسیة السویدیة، ویزور كـردستان بین فینة وأخری لتقدیم تعالیمه والتبشیر بروحانیته الوردیة. فلما وجهت هذا السؤال لـ(بیر لقمان) أجاب:
«الزرادشتیة، حركـة فكـریة فلسفیة، علمیة، إنسانیة، قومیة ودینیة. طریقة جدیدة غیر مكـشوفة لإیجاد هویة الفرد الكـردي، ولذلك اخترتها».
إذ إنها حركـة فكـریة، وبقدرها تتغیر وتنتج معالمها بتغییر معالم الحداثة، وكـذلك تتماشی مع أسس العلم، ولا مجال لإیمان غیبي عند هؤلاء الأتباع. وفي النهایة؛ تنتج هویة جدیدة بوجه كـردي ووجه دیني زرادشتي». وهذه هي القومیة الدینیة التي تبحث عن موطئ قدم لها لإثبات وجودها في الحاضر وفي المستقبل. وكـأن لسان حالهم یقول: طالما القومیات العربیة والتركـیة والفارسیة أنتجت أنموذجاً متمیزاً بواقعهم وأفادوا منه، فلا بد أن يكـون للكـرد أیضاً أنموذج دیني یرفعونه مقابل الأنموذج الذي استند علیه العرب، وانتشروا بظلاله في أرجاء شمال أفریقیا وشرق آسیا. والأتراك كـانوا قبائل رحل، فاعتنقوا الإسلام وسادوا المنطقة وكـانت لهم في النهایة دولة باسمهم علی حساب شعوب المنطقة. وأمامنا الفرس، لقد اعتنقوا الأنموذج الشیعي الإسلاموي، وها هم یهیمنون علی أرجاء كـثیرة في الشرق الأوسط.
وقال فرهاد بالوان: «إنها الفلسفة ومنظورنا للعالم». وأفصحت أشنا عما عبرت عنه سابقاً حیث قالت: «الزرادشتیة إضافة إلى كـونها دیناً، فإنها فلسفة وثقافة، وتنسجم مع العلم والحداثة». وقال شاخوان: «أنا أعتقد أن الكرد سوف یرجعون سریعا إلی الزرادشتیة، لأنني أعتقد أنها سوف تكـون مفتاحا جیدا للنجاة». وقال عطا زرادشتي: «انفتاح نحو ثقافتنا وأصالتنا، وزرادشت تاریخنا». ویؤكـد أسو: «نرید أن نحافظ علی هویتنا عن طریق الفلسفة والدین الزرادشتي». وقال رابر «الإنسان بحاجة إلی فلسفة للحیاة، لذلك أنظر إلی هذه الفلسفة كـهویة». وهكـذا جمیعهم یؤكـدون التوجه نفسه ویبحثون عن هویة أخری، رافضین الهویات الموجودة الشائعة. وكـل هذا، نتاج لمجموعة تراكـمات مجتمعیة، ویقظة «اعتبرناها سلبیة أو إیجابیة» تخطت حاجز الخوف والریبة والتردد، إلی فضاء أقرب إلى الثقة بالنفس، وراء ماض قد یكـون مرآة لواقع متأزم.
الإجهار بدینهم والدعوة إلیه
لمعرفة مستوی التسامح المجتمعي، ومستوی الأمان الذي یعیشه الإنسان في كـردستان، سألت الجمیع ما إذا كـانوا قد أعلنوا عن تحولهم للزرادشتیة، أو استعدادهم لدعوة الناس إلى الزرادشتیة؟ فجاءت الأجوبة بعكس التوقع حیث جمیع من قابلتهم قالوا لي: إنهم أعلنوا عن دینهم القدیم- الجدید، وهذا هو سر استعدادهم للمقابلة والإفصاح عن ما یریدون. لكـنهم أكدوا لي أن الكـثیرین منهم لم یفعلوا ذلك خوفاً من رد الفعل المجتمعي والأهل كـذلك. فأكثریتهم حذرون من إعلان ذلك، خصوصاً الذین لهم موقع اجتماعي أو سیاسي في المجتمع. فمثلاً قالوا لي: هناك مسؤولون كـبار جاؤوا و«شدوا الحزام الزرادشتی»، وكـذلك هناك خطباء وأئمة مساجد، أو أبناؤهم، ولكـن موقعهم لا یسمح لهم بالإعلان عن زرادشتیتهم. وكـذلك بالنسبة للدعوة إلیها، فقال بیر لقمان: «الزرادشتیة هي دین الدعوة، وأنا مستمر في ذلك». وهذا ما أكـده الجمیع في إجاباتهم عن هذا السؤال.
معرفة ما إذا كـانوا یحسون بالراحة وسط مجتمع أكثریته مسلمة، وما إذا كـانوا یحسون بالغربة، أم لا؟ فالجمیع بلا استثناء عبروا عن ارتیاحهم، وأنهم لا یحسون بالغربة أبداً، بل یدعون الآخرین لدیانتهم بافتخار. فالدعوة لهذه الدیانة مسألة أخری ینهمكـون فیها، بعودة المزید من الكـرد -كـما یقولون- إلى حاضنة دینهم وتاریخهم وثقافتهم. وعند مقارنة هؤلاء مع الزرادشتیین في إیران وهندستان ومناطق أخری، بأن الزرادشتیة أصبحت طائفة» ومنغلقة علی نفسها، فأجاب فرهاد بالوان: «في زمن حكـم القاجار، كـان الزرادشتیون یواجهون ظلماً كـبیراً، وكـان هناك رئیس للوزراء یسمی (أمیر كـبیر) في زمن ناصر الدین القاجاري الذي أصبح رابع ملك علی إیران في ١٧ سبتمبر (أيلول) ١٨٤٨. أمیر كـبیر كـان شخصا دیمقراطیا وكـان یكـره ذلك الظلم الواقع علی الزرادشتیین. لذلك فكـر في حل للخروج من هذه الأزمة. وعقد اجتماعا مع كـبار الزرادشتیین في ذلك الوقت، واقترح علیهم ترك الدعوة لدینهم، مقابل رفع الظلم عنهم. فقبل الزرادشتیون بذلك، وتم رفع الظلم، ولأن الزرادشتیین یؤمنون بالمعاهدات، لذلك بقوا علی معاهداتهم لحد الیوم. وهذا لا یشملنا نحن الزرادشتیین الكـرد.
الخاتمة
هناك أسباب ذاتية وموضوعية لعودة هؤلاء الناس للتوجه نحو الزرادشتیة. وهناك أسباب متجذرة وأسباب آنیة تجعل الكـثیر من الكـرد يفكرون في هویة جدیدة وترك الهویات التقلیدیة القدیمة، التي أصبحت بشعة وكـریهة بسبب سلوك الكـثیرین من الذین یمثلون هویاتهم، ومنها الهویة الإسلامویة المتطرفة أوالقومیة أو الیساریة.
ونتیجة لهذا الوضع المشتت، توجه العشرات أو المئات إن لم نقل الآلاف إلى الدین الزرادشتي، واعتبار ذلك عودة لدین الآباء وتشكـیل الدین القومي، وهي تعتبر ظاهرة جدیدة في المنطقة نتیجة تصاعد الصراع الطائفي. وقد تمت دراسة الزرادشتیة، وإبراز مختصر شدید في تاریخهم ومعتقداتهم، والتعامل مع التاریخ بشكـل غیر تقلیدي، كـما یعتبرونه تاریخاً مسروقاً ویجب إعادته. وكـذلك تمت دراسة البنیویة الهرمیة للزرادشتیین بشكـل مفصل. وتمت دراسة الأبعاد الاجتماعیة للتعایش السلمي بین الزرادشتیين الكـرد الجدد وآخرین، وإبراز الجوانب الدینیة التي یؤمن بها الزرادشتیون. والحدیث حول أسباب اتخاذهم لهذه الدیانة كـهویة قومیة، واعتبارها ظاهرة حداثیة واقعة تحت تأثیر العولمة.
[1] أستاذ علم الاجتماع في جامعة سوران – كردستان.
[2] مسألة تعبئة الدین في عملیات الأنفال، تمت دراستها في أطروحة ماجستیر لكـاتب هذا الموضوع تحت عنوان: «الدين والقومية؛ كيف تم تعبئة الدين في حملات الأنفال؟».
[3] Szanto, E. (2018). Zoroaster was a Kurd; Neo-Zoroastrianism among the Iraqi Kurds. Iran and the Caucasus. doi:10.1515/9783111372341-012, p.97
[4] Szanto, E. (2018). Zoroaster was a Kurd; Neo-Zoroastrianism among the Iraqi Kurds. Iran and the Caucasus. doi:10.1515/9783111372341-012
[5] إقلیم كـردستان، مصطلح قانوني ودستوري في العراق، ویشمل ثلاث محافظات في جنوب كـردستان التابع للعراق، والتي تقع في شمال العراق، ولكـن لا يشمل إقلیم كـردستان جمیع المناطق الكـردیة علی الإطلاق، حیث هناك مدن وقصبات كـردیة بشكـل كـامل، ما تزال تتبع للحكـومة الفدرالیة، منها مدینتا خانقین وسنجار، وهناك مدن أكثریة قاطنیها من المكـون الكـردي مثل كـركـوك، وفیها العرب والتركـمان الذین یشكـلون المكـونين الثاني والثالث في المدینة، وجمیع هذه المدن والمناطق، تم إدراجها في الدستور العراقي ضمن المناطق المتنازع علیها. فكـلما استعملنا مصطلح الإقلیم نعني به المحافظات الثلاث، وعندما نستعمل جنوب كـردستان أو كـردستان العراق، نعني به جمیع المناطق التي یقطنها المواطنون الكـرد، ویعتبرونها تاریخیاً مناطق كـردستانیة.
[6] Szanto, E. (2018). Zoroaster was a Kurd; Neo-Zoroastrianism among the Iraqi Kurds. Iran and the Caucasus. doi:10.1515/9783111372341-012, p.96.
[7] التشكـیل، لا یوجد المعنی الدقیق للـ(فیجوریشن) ولكـن لیست عندنا كـلمات أخری أكثر جدیة للمعنی المقصود.
[8] Szanto, E. (2018). Zoroaster was a Kurd; Neo-Zoroastrianism among the Iraqi Kurds. Iran and the Caucasus. doi:10.1515/9783111372341-012, p.98
[9] Szanto, E. (2018). Zoroaster was a Kurd; Neo-Zoroastrianism among the Iraqi Kurds. Iran and the Caucasus. doi:10.1515/9783111372341-012, p.98
[10] (ئشو زرادشت، بحسب لغة الأفیستا، التي تعتبر لغة قریبة جدا إلی اللهجة الهورامیة الكـردیة، سمي بـ«زرشوسترا»، ومن ثم تغیر وأصبح زرتوشت أو زرادشت، ومعناه بحسب كـتاب الجنة الأهورایی؛ عین الشعلة الذهبیة).
[11] رسول دین الصدق والعقل.
[12] عبدالله مبلغ اباداني (2002) تاریخ دیانة زرادشت (مترجم من الفارسیة للكـردیة)، مؤسسة سردم للطباعة والنشر، السلیمانية، ص 58.
[13] أهورامزدا، كـلمة مشتقة من ثلاث كـلمات: أهورا: أي الخالق، مز؛ معناها أكـبر أو كـبیر، دا: أي الحكـیم والعالم. وكـلمة (مز) بالكـردیة الحدیثة تلفظ بـ(مزن) وكـذلك (دا) أصبحت (دانا)، وهذا یعني أن الكـلمتین لا تزالان موجودتین باللغة الكـردیة (نیكـتام، ١١).
[14] Fuller, C. J., & Veer, P. V. (1994). Religious Nationalism: Hindus and Muslims in India. Man, 29(4), 1024. doi:10.2307/3034024
[15] Jazeera, A. (2017, June 20).
النكسة.. إسرائيل تهزم العرب في ستة أيام.
Retrieved March 28, 2018, from https://bit.ly/1UrGHsa
[16] المؤتمر القومي الإسلامي: نظرة فاحصة.
(n.d.). Retrieved March 28, 2018, from http://al-ommah.org/?p=903
[17] كيف أخطأ الكثير من القوميين العرب التقدير؟. (2015, November 05).
Retrieved March 28, 2018, from https://bit.ly/2pKD7EA)
[18] مجموعة رسائل الإمام الشهيد حسن البنا
Quotes by Hassan al-Banna. (n.d.). Retrieved March 28, 2018, from https://www.goodreads.com/work/quotes/6433056
[19] ميردرويش, كاردوخ. (2012), May 20). ملوك الكرد الساسانيين وإحياء ذكراهم من جديد.
Retrieved April 05, 2018, from https://bit.ly/2GCEcIU).
انظر أيضاً:
Suleman D. Suleman. (2010, July).
[20] Rudaw TV. «الدین الزرادشتی، دیانة في كـردستان».
Trollclip.Net, Retrieved April 4, 2018, from trollclip.net/play-troll-clip–TrWM6JyUOjKbo.html.
[21] ميردرويش, كـاردوخ. (2012 May 17) معبد زرادشت وتخت سليمان وجنات عدن في كردستان.
Retrieved April 05, 2018, from https://bit.ly/2EmoV9j
[22] Szanto, E. (2018). Zoroaster was a Kurd; Neo-Zoroastrianism among the Iraqi Kurds. Iran and the Caucasus. doi:10.1515/9783111372341-012, p.98
[23] Gulan, Media. «حقوق وواجبات الأدیان في أقلیم كـردستان».
Gulan-Media.com, 15/7/2017, Retrieved April 4, 2018, from www.gulan-media.com/sorani/print.php?id=48604§ion=1.
[24] Najari, Jamal. «افتتاح أول معابد الزرادشتیین الكـرد في السوید».
Rojivar, 14/4/2014, 14 Apr. 2014, Retrieved April 4, 2018, from bit.ly/2GRvDJN.
[27] بڵباس, شیدا. (2015, September 3). بیر لوقمان.
Retrieved April 05, 2018, from https://bit.ly/2q85z2s
[28] كـل شخص یدخل الدین الزرادشتي، یُعَد له طقس خاص في معبد الزرادشتیین، ویتم ذلك بشد حزام له وفق تقالید اللباس الكـردي سواء كـان رجلا أم أمرأة. «Zerdeştyekan».
[29] Ma›zuz, H. (2015, August 07). موت الإله في فلسفة نيتشه.
Retrieved April 01, 2018, from https://bit.ly/2EbwgbH