دبي
يتناول كتاب المسبار «الدولة في التنظير العربي والإسلامي: التأصيل والتحديات» (الكتاب التاسع والعشرون بعد المئة، سبتمبر/ أيلول 2017)، حضور الدولة في النقاشات الفقهية والأدب السلطاني والفلسفة، آخذاً بالاعتبار السياقات التاريخية المعاصرة، بدءاً بالخلاصات التي أرساها بعض أقطاب الإسلام السياسي (السني والشيعي) مروراً بالدولة في الفكر الليبرالي العربي، وصولاً إلى كتابات المؤرخ المغربي عبدالله العروي الذي يُعد من أبرز المنظرين لمفهوم الدولة في المجال العربي المعاصر.
التنظير للدولة بين الفقه والأدب السلطاني والفلسفة
عبدالجواد ياسين، قاضٍ ومفكر مصري، وباحث في مركز المسبار للدراسات والبحوث (دبي). يقول في دراسته: إن النظرية السياسية لم تنشأ ترجمةً لنص، بل كإفراز مباشر للواقع السياسي. فهي لم تقدم نفسها جملة واحدة قبل الزلزال السياسي المعروف بالفتنة الكبرى، بل كانت تسفر عن مفرداتها واحدة بعد الأخرى استجابة للتداعيات الناجمة عن هذا الزلزال، أي كرد فعل للتطور في شكل النظام السياسي وعلاقة الدولة بالمعارضة. ويضيف بأنه يمكن الحديث عن ثلاث دول متعاقبة بثلاثة أشكال للسلطة تحت مسمى الخلافة؛ الأولى: دولة الراشدين التي نتجت عن السقيفة، والثانية: هي الدولة الملكية التي انبثقت من الفتنة الكبرى، والثالثة: دولة التفويض السلطانية التي أنشأها البويهيون في القرن الرابع. ولكن التنظير لم يبدأ إلا بعد انتهاء الدولة الأولى، وأخذ يتشكل خلال الدولة الثانية، وانتهى عملياً قرب زوال الدولة الأخيرة. ويقصد بذلك أن تاريخ التنظير لم يتطابق مع تاريخ الدولة منذ البداية، وهو يستعيد أحياناً -كرد فعل لاستفزاز الواقع- حوادث الماضي للبناء عليها بأثر رجعي، وفي أحيان أخرى، يكرس المفاهيم الصادرة أيضاً عن اعتبارات الواقع ثم يصدرها إلى المستقبل بعد خدمتها إسنادياً (بالتنصيص غالباً) وإخراجها فقهياً، فعلى مدى حقبة التنظير المبكرة ظلت القنوات مفتوحة بين «الفقه» و«التحديث» و«المحازبة السياسية». جرى التفكير في الدولة طوال عصر التدوين الإسلامي على ثلاثة مستويات: الفقه (السياسة الشرعية) والأدب السلطاني (السياسة العملية) والفلسفة (السياسة المدنية). كان الفقه يعبر بأدواته الأصولية عن الرؤية المذهبية للكلام، وقدم تقنياً «نصياً» لواقعة التغلب كآلية لإسناد السلطة، فيما قام الأدب السلطاني بتكريسها والترويج لها بتقنيات ثقافية وتاريخية متنوعة. أما الكتابات الفلسفية المتأثرة بالفكر اليوناني، والتي تتقاطع مع (الكلام) منهجياً وموضوعياً، فلم تقدم اختراقاً حقيقياً للطرح (الأوتوقراطي) الذي قننه الفقه وكرسه الأدب السلطاني، على الرغم من بعض الإيحاءات النقدية التي كانت تصدر غالباً عن دوافع مذهبية وسياسية.
البيعة والدولة في الفقه: السياسة الشرعية
محمد الدوسري، كاتب وباحث سعودي، تناول في دراسته الدولة في الفقه والمقاصد الكلية العامة للشريعة الإسلامية، وتهدف إلى عرض ومناقشة المبادئ والأطر الفقهية الناظمة للسياسة الشرعية في الإسلام. ويستعرض البيعة في اللغة والشرع وشكلها وشروط كتابتها وأحكام البيعة والخلافة، ويبين الأسباب الموجبة لأخذ البيعة كما يراها الفقهاء، وكيف يعقد للإمام ومن يعقد له، وطرق انعقادها، ومن هم أهل الحل والعقد، وما هي شروط الإمامة، وواجبات الإمام وحقوقه.
ويختتم الدوسري دراسته بقوله بأن الفقهاء قرروا أن الدولة من خلال النصوص الشرعية والمبادئ التي نصت عليها النصوص ذات المرجعية لتأسيس العلاقات بين الحاكم والمحكوم؛ هي رباط ووثاق ديني تنظمه النصوص الشرعية من خلال مفاهيم البيعة والخلافة، ومن خلال الوقائع والأحداث التي قررها المشرع في وقت التشريع، لذا فإن الدولة لا تخرج عن هذه الحقيقة لدى الفقهاء الذين كتبوا في السياسة الشرعية والإمامة، وعليه فإن استنطاق الفقهاء عن حقيقة الدولة لا يتجاوز هذه القواعد، ومن حاد عنها يتوسع: فإما متعسف أو تنقصه الدربة والدراية لما قرره الفقهاء الذين تأسست المذاهب الفقهية من خلال تصوراتهم ورؤاهم.
ولاية الفقيه.. دولة النُّصوص المختلف عليها
رشيد الخيُّون، باحث في التراث والفلسفة الإسلاميين، يرى في دراسته أن الشكل الوحيد الذي نجح، بين أشكال الدَّولة، حسب الفقه الشيعي، تراه يتعرض لأزمة، مع أن تأصيله في التراث الشِّيعي لم يصل إلى حد الاتفاق عليه، فقد بقيت نظرية «الانتظار» التقليدية هي الأصل، مثلما تبقى فكرة عدم الثَّورة أو الخروج على الحاكم المتغلب راسخة في الفقه السُّني، وفي الحالتين يفسر الأمر بفشل للإسلام السياسي، في شكل الحاكمية الشِّيعية المنوطة بالولي الفقية، وشكل الحاكمية السُّنية المنوطة بتطبيق شرع الله ودستورها القرآن والسُّنَّة، حسب العنوان الواحد لكتابي الخميني والمودودي «الحكومة الإسلامية».
تطور فكرة الدولة في المجال الديني الشيعي
توفيق السيف، باحث سعودي في العلوم السياسية، يتناول في الدراسة تطور فهم المجتمع الديني الشيعي لفكرة الدولة والمجال العام، لا سيما في ربع القرن الأخير. شهدت هذه الفترة مراجعات عميقة لأبرز التعبيرات عن تلك الفكرة، أي نظرية «ولاية الفقيه». يعرض في البدء موجزاً لأبرز المنعطفات في فقه الشيعة السياسي، بغية إبراز بؤرة اهتمام المدرسة الفقهية، أي مصدر شرعية السلطة. فضلاً عن كشف محرك التحولات السابقة والحاضرة على حد سواء، أي اقتراب الفقهاء من السياسة. كما تعرض الدراسة بإيجاز لآراء عالِم الدين محمد مهدي شمس الدين (1936-2001)، الذي قدم رؤية أكثر تطوراً من «ولاية الفقيه» في نسختها المعيارية. الجزء الأخير من الدراسة مخصص لنقاش رؤية بديلة، تنطلق من مراجعة معمقة لا تقف عند مجادلة النظريات الفقهية، بل تذهب إلى مجادلة الأساس الفلسفي الذي قام عليه الفقه الإسلامي ككل. وهي تنفي قدسيته وثبات أحكامه. ومن هنا فإنها تقدم منظوراً جديداً لدور الدين في الحياة العامة وعلاقته بالدولة، يقترب كثيراً من المنظور الليبرالي، ويدعو دون مواربة إلى ديمقراطية تكفل مشاركة المسلمين، ليس فقط في صناعة السياسة، بل وأيضاً في إنتاج وصوغ الرؤية الدينية التي تناسب زمنهم. اختار الباحث كأنموذج، النظريات التي يطرحها المفكرون الإيرانيون الثلاثة: محمد مجتهد شبستري، مصطفى ملكيان، وعبدالكريم سروش. أما الإشكالية الأساسية في الدراسة فهي ليست «كيف ينظر الشيعة إلى الدولة؟»، بل: كيف يريدونها أن تكون؟ ويخلص الباحث إلى أن فهم الشيعة للسلطة بدأ محدوداً في نطاق الإمامة. ثم انفتح قليلاً وانتقل جانبه المدرسي إلى الحقل الفقهي، حيث تلعب إلزامات وحاجات الواقع دوراً في تشكيل رؤية الفقيه. في مرحلة تالية مال المجتمع الشيعي إلى توحيد قيادته وتكثيفها في حملة العلم الديني، فتبلور مفهوم نيابة الفقيه للإمام، ثم ولايته العامة. أتاح وصول الفقهاء إلى السلطة الفرصة لاختبار كفاءة التراث الفقهي في الحياة الواقعية. لكن العقد الأول من عمر الجمهورية الإسلامية، كشف عن غربة الفقه عن عصره. نتيجة لذلك، تبلور داخل المجتمع الديني تيار يدعو صراحة إلى طيّ صفحة الفقه والكلام القديم، وبناء منظومة فكر ديني جديدة كلياً، تتضمن -بين أمور أخرى- تصوراً مختلفاً عن الدولة العادلة ومعنى الدين ودوره في الحياة العامة. وقد أوضحت الدراسة أن الاتجاه العام لهذه الدعوات يميل بقوة إلى المنهج الليبرالي في الفلسفة والسياسة، وهو يطرح دون مواربة، الديمقراطية الليبرالية كنظام سياسي أمثل للمجتمع المسلم في هذا العصر.
الأمة والدولة في الفكر العربي المعاصر
عبدالله السيد ولد أباه، أستاذ الفلسفة والدراسات بجامعة نواكشوط الموريتانية، استعرض المحاولات الفكرية الأكثر رصانة وعمقاً في تناول مسألة «الدولة- الأمة»، من خلال تقديم وتقويم سبعة من أبرز المفكرين العرب هم: عبدالله العروي، وهشام جعيط، ومحمد عابد الجابري، وبرهان غليون، ومحمد جابر الأنصاري، وعلي أومليل، ووجيه كوثراني. ويشير إلى أن ما يجمع هذه الأسماء السبعة هو الانخراط المزدوج في العمل الفكري والسياسي، وتبني المنظور النقدي للفكر السياسي العربي في تلويناته الأيديولوجية المختلفة. ويبين أن هذه المقاربات المذكورة في تناولها لإشكالية الأمة والدولة في السياق العربي الحديث، وجدت نفسها مضطرة للتعامل مع ثلاث ثنائيات بارزة هيمنت على الخطاب الأيديولوجي العربي: ثنائية الدولة القُطرية والدولة القومية، ثنائية الدولة التحديثية والدولة التقليدية، وثنائية الدولة التسلطية والدولة المدنية. ويخلص الباحث في الوقوف عند هذه الثنائيات الثلاث التي شغلت سبعة من أهم المفكرين العرب في مقاربتهم لموضوع الدولة والأمة، إلى أن الإشكال الرئيس الذي شغل الباحثين العرب في الاجتماع السياسي العربي المعاصر، هو علاقة الدولة الوطنية الحديثة ببناها المجتمعية العميقة في مستواها المحلي الضيق (مشكل التنوع القبلي والطائفي والديني والإثني) ومستواها القومي الأشمل (الأمة بمفهومها الثقافي والديني). ويضيف الباحث أن الوجوه الفكرية المذكورة انطلقت من أن المشكل السياسي الجوهري في نظام الاجتماع السياسي العربي ليس هو موضوع الشرعية بمنظوره القانوني الدستوري الضيق، بل شرعية التكون والتشكل التي يطرحها التمايز بين الدولة القائمة، التي أصبحت حقيقة تاريخية وإن كانت لا تزال هشة البناء السياسي والاجتماعي، والدولة المنشودة (الدولة القومية أو دولة الأمة) التي وإن كانت أفقاً مثالياً أقرب للطوباوية، إلا أنها هي المحرك الأيديولوجي والرمزي لموضوع الشرعية السياسية، بما فيها شرعية الدولة الوطنية ذاتها.
نظرية ابن خلدون في الدولة: رؤية نقدية
حميد زناز، باحث جزائري، يتساءل عن الأفكار والأطروحات التي كانت مهمة في الفكر السياسي الخلدوني وما تبقى منها، وهل يمكن أن تفيدنا في فهم طبيعة السلطة في مجتمعاتنا العربية في بداية هذا القرن الحادي والعشرين. بكلمة أخرى: هل نظرية ابن خلدون قادرة على الاندماج في راهننا، بحيث نستطيع أن نجعلها تسهم في فهم ثم حل مشكلة الحكم في بلداننا، وبناء الدولة الحديثة، وعلى الخصوص تجاوز إشكالية علاقة الدين بالسياسة؟ كان يرى ابن خلدون أنه يمكن أن يكون للدين -بصفة عامة- أثر كبير في تكوين السلطة، وعلى الخصوص في طور الاستيلاء عليها، ولكن بشرط أن يأتي لتقوية العصبية. وقد لعب الإسلام بهذا المعنى في ظروف ومراحل تاريخية كثيرة دوراً مهماً في توحيد الناس اجتماعياً وسياسياً. ولكن هل يستطيع أن يلعب دوراً سياسياً حاسماً في أيامنا؟ ذلك هو السؤال الأهم. من البديهي القول: إن مجتمعاتنا العربية الحالية أكثر تعقيداً بمئات المرات من ذلك المجتمع القديم الذي عاش فيه عبدالرحمن بن خلدون، ومن هنا يصبح استعمال الدين في مجال السياسة أمراً قد يكون خطيراً؛ إذ يمكن أن يؤدي إلى التطرف والتعصب والعنف كما حدث بالأمس القريب وكما يحدث اليوم. وهو ما يحجب المشاغل السياسية الحقيقية التي تعيشها المجتمعات العربية، كالانتقال إلى مرحلة المواطنة وتكوين وعي مواطني حقيقي يطالب بالعدالة الاجتماعية والاقتصادية ودولة القانون.
فتنة الخلافة: محنة علي عبدالرازق وفصل الديني عن السياسي
يوسف الديني، كاتب وباحث سعودي، يقول في دراسته: إذا كان الإسلام المبكر قد شهد فتنة عظيمة وسمت حينها بـ«فتنة خلق القرآن» بين المعتزلة وخصومهم من أهل الحديث والحنابلة؛ فإن المحنة الأولى في التاريخ الإسلامي المعاصر ولدت مع فتنة كتاب «الإسلام وأصول الحكم» (1925) للشيخ الأزهري علي عبدالرازق، الذي ألقى حجراً صلداً حرك به مياهاً كانت قارّة في مسألة بالغة الحساسية منذ الإسلام الأول، وهي مسألة «الحكم» و«الخلافة» أو بلغة معاصرة: «جدلية العلاقة بين الديني والسياسي». والحال، إن رسالة علي عبدالرازق لم تكتب في شكل كتاب علمي مكتمل المعالم والشروط، أو حتى بحث أكاديمي، بل كانت أقرب إلى البيان الذي نعى الخلافة ومهد لظهور الدولة القطرية الحديثة بعد سقوط الخلافة، ومعرفة طبيعة المؤلف تساعد في طريقة تلقيه وفهمه، بحيث لا يحاكم إلى المعايير العلمية كما فعل مناوئوه، بل يجب أن تناقش الفكرة الأساسية والجوهرية للكتاب وهي أن «الخلافة الدينية» ليست منصباً في الإسلام، بل فترة التباس سرعان ما تلاشت بعد وفاة النبي حيث تم فكّ الارتباط بين الديني والسياسي. ويرى الباحث أن علي عبدالرازق كان العاصفة التي ثارت في العالم الإسلامي ضد الدولة الدينية التي يراها محدثة في التاريخ وكارثة في الواقع المعاصر؛ واليوم تطور الإسلاميون إما عن إيمان بالمصلحة الشرعية أو قناعة باستحالة عودة الخلافة والدولة الدينية، فلجؤوا إلى المشاركة السياسية عبر صناديق الاقتراع، محاولين تأصيل ذلك بنصوص شرعية وتأويلات جديدة.
الإسلاميون: الدولة ونظريات الحكم
عبدالغني عماد، أستاذ جامعي وباحث أكاديمي لبناني متخصص في الحركات الإسلامية، يرى أن وطأة إلغاء نظام «الخلافة» العثمانية كانت شديدة على الوعي الإسلامي، إذ للمرة الأولى يواجه فيها عالمه بلا خلافة أو أي أنموذج لحكم سياسي إسلامي. لذلك كان طبيعياً أن يقوم سجال حاد حول سبل إعادة إحياء «حكم الإسلام» في نظام سياسي. تبلورت على تخوم ذلك الصراع ثلاث جبهات: الأولى تمثلت بالاتجاه الفقهي الذي أصر على الدعوة إلى أنموذج «الخلافة» التاريخي. الثاني تمثل بالاتجاه العلماني الذي لم يكن يرى من حاجة إلى تدخل الدين ونصوصه ورجاله في المسألة السياسية، استناداً إلى نماذج الحكم العلمانية الأوروبية الحديثة. الثالث تمثل بالاتجاه التوفيقي الذي سعى للجمع بين فضائل «الخلافة» وفوائد النظم الليبرالية الحديثة. يخلص الباحث في دراسته إلى إنه يمكن للمتابع والدارس اليوم، أن يجد في صفوف الإسلاميين من يذهب إلى تبني منهج التجديد والإصلاح ناهلاً من تراث الإصلاحيين الأوائل، كما يجد بينهم السلفيين الجهاديين. وبالتالي ليس في وسعنا أن نغامر ونستنتج أنموذجاً واضحاً ومحدداً للدولة الإسلامية قد تبلور بصيغة ما، فثمة أكثر من صيغة معاصرة اليوم للمشروع الإسلامي في علاقته بالدولة، فالنسخة السلفية الجهادية تقطع مع مفهوم الدولة بصيغته المعاصرة وتضع أولوية «الجهاد» على رأس مهامها لإقامة «حكم الله». أما الصيغة الإيرانية لمشروع الدولة الإسلامية فتقطع مع «الأمة» وولايتها لتؤسس نظرتها للدولة على منظومة «ولاية الفقيه العامة» التي تقيم سلطة دينية تتمتع بالهيمنة الكاملة وصلاحية «التكليف الشرعي» الذي يمتد إلى خارج حدود الدولة حيثما وُجِد الشيعة المتصلون وجوباً بالمرشد «الولي الفقيه». الصيغة التركية أكثر براغماتية في مقاربتها لمسألة الدولة والمواطنة والحريات والعلاقات الدولية، وهي تقدم تجربتها على خلفية إنجازات تنموية ونجاحات اقتصادية وحداثية مبهرة. لكنها تبقى متصلة بالمصالح القومية التركية بالدرجة الأولى. في الواقع أسقط النص الحركي الإسلامي العربي ولفترة طويلة الماهية السياسية للدولة، وألبسها ماهية عقدية، وحولها إلى مجرد أداة قابلة للتملك والاستعمال في مشروع سياسي أيديولوجي مسيّس. وهكذا لم تعد الدولة في هذا الخطاب كياناً يمثل الاجتماع الوطني السياسي والمدني في المقام الأول، ويعبر عن مصالحه ويرعاها، ولعل أبرز ما تضمنته الشريعة الإسلامية أنها قامت على أسس موضوعية للدفاع عن المصالح العامة، التي أطلق عليها الفقهاء قديماً الكليات الخمس: الدين، والحياة، والعرض، والعقل، والمال، وكل اجتهاداتهم قامت أساساً على جلب المنفعة ودفع المضرة، وهي المجالات العملية للدولة والتي تتعلق بالمصالح العمومية والتي كان نتاج النص الحركي فيها فقيراً، محوّلاً طاقته نحو الدولة في حدود إشكالية علاقتها بالدين. وقد أدى ذلك عموماً إلى بناء مقاربة للدولة تقوم على «مرجعية آحادية»، نصيّة وفقهية، على الرغم من أنه في بعض تجلياته وخصوصاً التأسيسية على يد حسن البنا وبعض مريديه وتلاميذه، اتخذ منحى «توليفياً» مستفيداً من مرجعيات فكرية أخرى، فحاول التوفيق بين منتجات الفكر السياسي الإنساني الحديث والمرجعية الإسلامية، الأمر الذي أدى إلى توليد «تيار الوسطية» التوفيقي، وإعادة شحن تراث الإصلاحية الإسلامية التي انطلقت مع الطهطاوي والأفغاني وعبده بمفاهيم جديدة تحاول أن تلائم العصر ومحدثاته، وقد نجح هذا التيار في توسيع «منطقة الفراغ التشريعي» أو «الاجتهاد في ما لا نص فيه» على ضوء روح المقاصد الكلية للشريعة وإيجاد نوع من المصالحة والتوليف مع مفاهيم مختلفة مأخوذة من التجربة الغربية، فنوقشت مسائل الحريات، والردة، والتعددية السياسية، وحقوق المرأة، والانتخابات، وتداول السلطة، وجرى الاقتراب من هذه المفاهيم في رحلة مصالحة مع النموذج السائد والمعاصر من جهة، والمعيش والأكثر قابلية للتسييل وسط الجماهير من جهة أخرى. إلا أن هذا النص «التوليفي» أو «التوفيقي» الجديد الذي يعتمد على «مرجعية تركيبية» كان يفتقر إلى محركات ناظمة وعملانية تجعله فاعلاً ومؤثراً من جهة، كما أنه بقي متردداً أمام مسائل جديدة لا تنفك تطرح نفسها بقوة في حياتنا المعاصرة من جهة ثانية.
أدبيات حسن البنا السياسية.. الدولة والسلطة والهوية
عمار علي حسن، كاتب وباحث مصري في علم الاجتماع السياسي، يقول: إن حسن البنا (1906-1949) مؤسس جماعة «الإخوان المسلمون» عام 1928 لم يكن مفكراً سياسياً بأي حال من الأحوال، فالمعروف عنه، والمشهود له، بشكل عام، أن «التنظيم» لديه أولى وأهم من «التفكير»، وأن كثيراً من الآراء السياسية التي حملتها كتاباته كانت إما تصورات عامة، تفتقد إلى الرصانة والعمق والعمومية التي يتسم بها ما أنتجه وأبدعه من اصطلح على وصفهم بالمفكرين السياسيين في تاريخ المجتمعات الإنسانية، وإما تعليقات على مواقف ووقائع جارية، أو حديث قصد به تحقيق بعض أهداف الجماعة وتأدية دورها سواء لحسابها أو لصالح قوى ورموز سياسية وظفت الإخوان، وعولت عليهم، سواء خلال سنوات ما بعد النشأة في ثلاثينيات القرن العشرين، أو في سنوات استعادتهم خلال سبعينياته، أو رد فعل على انتقادات وجهت إلى آراء الجماعة وتصرفات أتباعها. وفي أغلب ما ورد عنه، أو نسب إليه، يغلف البنا تصوراته السياسية بإنشائية وخطابية ظاهرة، تفتقد إلى ما يقتضيه العلم من نسبية وتحديد وقابلية للاختبار، الأمر الذي يجعلها تقترب من الدعاية السياسية وليس من الآراء الفقهية ولا النظريات والأفكار السياسية. كما تتصف هذه الآراء بقدر ظاهر من العمومية بهدف جمع أكبر عدد من الناس حولها، وبالتالي فهي أشبه بأفخاخ تستعمل الدين قناعاً أو غطاء ليقع فيها كثيرون. ومع ذلك ظلت هذه الأفكار حول الدولة والسلطة والأحزاب والهوية والعالم والآخر ترفد الجماعة بإطار يحكم حركتها طيلة تاريخها، تعود إليه لتغرف منه ما تناسل من أفكارها، أو تقوم بتفسيره وتأويله، وتستشهد به، وتقتبس منه، الكثير من المقولات والعبارات التي تجند بها الأتباع، وتحافظ على تماسكهم، أو ترد به على من يقدحون فيها، أو تسوي به الخلافات التي تنشب بين حين وآخر في صفوفها، وتلتف عليها أو تتجاوزها أو تتفادى آثارها التي كان من الممكن أن تؤدي إلى تصدع الجماعة، ووقف تمددها، أو خفض منسوب وجودها وتأثيرها في المجال العام. ويرى الباحث أن البنا نفسه يمثل المشكلة وليس الحل، وأن «الدودة في أصل الشجرة»، وأن ما قام به قطب لم يكن خروجا تاما على المسار الذي أطلقه مؤسس الجماعة، إنما مراكمة عليه، وأن الحديث عن مراجعة في صفوف الإخوان لا يتعدى العودة إلى البنا، بدعوى أنه يمثل «صحيح الدعوة» أو «صحيح الجماعة» محض وهم كبير.
الدولة في الخطاب السلفي المغربي
تنظر دراسة عبدالحكيم أبو اللوز (باحث مغربي في علم السياسة في جامعة ابن زهر بالمغرب)، إلى الحركات السلفية بوصفها تمثل نزعةً احتجاجية على التطورات التي طرأت على مستويين من مستويات الدين: الفكري والتعبدي، فقد تهتم بعض هذه الحركات بعملية إعادة تقنين الدين على المستوى العقائدي، هادفة إلى التوجيه الميتافيزيقي والأخلاقي للعقائد كما هي موجودة بالفعل، وقد تنصرف حركات أخرى إلى إعادة تقنين الشعائر الدينية، بتوحيد نماذجها، كلماتها، إشاراتها وإجراءاتها، لكي تحافظ على النشاط الشعائري الأصلي في مواجهة البدع المستجدة. ويرى أن الخطاب السلفي حول السياسة تأسس على عقيدة «الولاء للإمام وعدم شق عصا الطاعة»، مما جعل خطابه جامداً على الاعتقاد محاولاً مجابهة التحديات على أساس السلوك السياسي دون دعاء قوي للمراجعة والمواءمة، وعلى هذا الأساس ظلت السمة الأساسية التي ظل الخطاب السلفي يعبر عنها هي الاهتمامات السياسية بالقيم الدينية الموجهة نحو الإصلاح على مستوى الأفراد وليس الجماعة، فكان من الصعب عليه الحديث عن الجماعة بمفهوم الدولة المبنية على علاقات سلطة منظمة ومؤسسات معقلنة ووظيفية. عدا ذلك يبقى الأمل معقوداً على انخراط السلفيين القوي في الحراك السياسي والاجتماعي عن طريق قنواته التقليدية (أحزاب- نقابات- جمعيات) يتمرس فيها السلفيون وتلقح تمثلاتهم بالسياسة ويتحدث لسانهم بقاموسها، عدا ذلك يبقى الشك مراوداً سياسات الإدماج وقائماً ما دامت السياسة سجينة للمقدمات العقائدية والدينية لدى السلفيين وبالهواجس الأمنية والاستخدامات السياسية من جهة الدولة.
وحدانية التسلط في العالم العربي: البنى والآليات
تشير ريتا فرج، الباحثة اللبنانية في علم الاجتماع، وعضو هيئة التحرير في مركز المسبار للدراسات والبحوث (دبي)، إلى أن قضية الدولة تصدرت موقعاً رئيساً في نقاشات المفكرين والباحثين العرب في العقدين الأخيرين. وتزايد الانهمام الفكري والنقدي الراهن «بسؤال الدولة» إثر الاضطرابات السياسية والأمنية التي أعقبت «ثورات الربيع العربي». تنطلق إحدى الفرضيات الأساسية التي يطرحها علم الاجتماع من: «أن وعي الدولة لدى النخب السياسية والثقافية، ينمو في الحروب الأهلية والمراحل الانتقالية، نظراً لما تفرضه حالات الفوضى من حاجات ملحة لتوطيد أركان الدولة ومؤسساتها». ما ينبغي ملاحظته أن عوائق التحول الديمقراطي في العالم العربي عديدة ومعقدة، وقد أدت إلى إعادة إنتاج التسلط السياسي، الذي يستمد مقوماته من العلاقات المتوترة بين الدولة والمجتمع، وبين الدولة والأحزاب السياسية، وبين الدولة والمكوِّنات الدينية والإثنية، وبين الدولة والدين، وبين الدولة وتدهور التنمية. وتضيف الباحثة أن الدولة في العالم العربي ما زالت في طور التشكل والتكوين، حيث لم تتمكن الدولة الوطنية في عملية بنائها «من الملاءمة بين دولة الاستقلال أو الثورة وبين النـزوع الاستبدادي والدكتاتوري في إدارة شؤون الدولة»، كما يحاجج أستاذ الفكر السياسي والإسلامي الحديث المغربي سعيد بنسعيد العلوي. تحتاج المجتمعات العربية إلى ثورة علمية في التعليم والثقافة والاجتماع والدين للخروج من منظومة التسلط التي لا تقتصر على المؤسسات السياسية؛ فنحن أمام ذهنيات وعقليات وبنى مجتمعية تتغذى من أيديولوجيا قهرية مستمدة من الديني والمجتمعي والثقافي.
الدولة الوطنية في المجال العربي
يرى عفيف عثمان، أستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانية، أن قيام «الدولة» مثّل منعطفاً في التاريخ البشري، أسست له النظريات والمفاهيم الفلسفية والسياسية الساعية لربط وجود هذا البناء السلطوي بالأفراد والمجتمع، وقد نهضت الدولة الحديثة في صيغ عدة مستلهمة أفكار الفلاسفة الكبار، وأبرزهم هيغل (1770-1831) الذي عدّها «الفكرة الأخلاقية الموضوعية الواجب تحقيقها»، إذ يتجسد الحق والعدالة في هيكل الدولة ناهيك عن اعتبارها أعلى مراتب التطور التاريخي، ويتجلى فيها سمو العقل وإحقاق الحق بين الأفراد، في حين ربط كارل ماركس (1818-1883) شكل الدولة بصراع الطبقات وتحديداً بالطبقة المهيمنة ومصالحها، ولكنها وفي كل الأحوال، ليست إلا مرحلة من مراحل التطور، حيث ستنتهي حتماً في مرحلة الشيوعية. وثمة من رفض وجودها محبذاً اللادولة، ونجد نيتشه (1884-1900) في أصل هذه الدعوى، إذ رأى الدولة وحشاً أو «غولاً» يلتهم المجتمع ويفتته. وأخيراً، تظهر الدولة الليبرالية الحديثة نسقاً مقبولاً ومرغوباً، كونها تتأسس على ضرورة الحفاظ على حقوق وحريات الأفراد. يغلب النظر على الدولة الوطنية العربية المعاصرة، وليدة النسق الليبرالي، أنها صنيعة الاستعمار الغربي الذي دخل منطقتنا بالقوة، وحين غادرها كان قد رسم لها الحدود وأورثها المؤسسات. وتالياً، لم تكن الدولة ثمرة سياق تاريخي متدرج، ولا ثمرة عقد اجتماعي بين الأطراف والمكونات لكل إقليم جغرافي، بحيث تعبر الدولة عن الأمة أو الشعب وتجسدهما في هذا الكيان الضخم. وفي غياب الشروط الداخلية المصاحبة لنشوء الدولة، ذهبت أكثر السُلط العربية مدبرة أمر الدولة الوطنية إلى تبني المفهوم الهيغلي (نسبة إلى الفيلسوف الألماني هيغل) للدولة في وصفها كائناً طبيعياً لها إرادتها، وهي تعلو على تنازع المصالح الخاصة، وتضمن للأفراد حقوقهم وحرياتهم. على الرغم من الجدال واللغط حول سياقات نشوء الدولة في المجال العربي، أي عدها كياناً وليداً من رحم التجزئة في ظل الاستعمار الغربي، فإنها بيّنت، مع إخفاقاتها، ضرورة وجودها بسبب عاملين: الأول: العولمة التي استباحت الحدود وفرضت نظاماً يتجاوز إرادة الشعوب وحقوقها. والثاني: «الإرهاب» الذي اتسع مداه ليطاول في عدوانه البنى الدولتية نفسها، في ما يشبه الفوضى المدمرة، منادياً بالعودة إلى نظم أولية، تطيح بمنجزات السلطات الحديثة وما أفرزته من ممارسات سياسية وضعية تقوم على وجود دستور وقانون وفصل بين السلطات.
الدولة في الفكر الليبرالي العربي: الحيادية المنشودة
مأمون كيوان (كاتب وباحث سوري) يتناول في دراسته قضية الدولة العربية ومشكلاتها في وعي النخب الفكرية الليبرالية الحديثة والمعاصرة: كيف تمثلها هذا الوعي؟ وكيف عبر عنها خلال قرن من الزمن؟ وتغطي الدراسة بالمراجعة والتحليل الإنتاج الفكري الليبرالي العربي عبر أفكار وتصورات مجموعة من مفكري ومنظري التيار الليبرالي العربي. تستند رؤية هذه الدراسة لموضوع «الدولة في الفكر الليبرالي العربي» إلى: تتبع نشأة ومسار الفكر الليبرالي العربي، وتأثره وتأثيره بالتيارات الفكرية العربية الأخرى (إسلامية، قومية، اشتراكية وليبرالية). ومعالجة الخطاب الليبرالي العربي لأزمة الدولة العربية الراهنة التي عبرت عن نفسها في السنوات القليلة الماضية بأشكال مختلفة من التفكك والعجز عن أدائها لمهامها الرئيسة. وتستشرف درجة قدرة وكفاءة الفكر الليبرالي العربي على الإجابة عن أسئلة الواقع العربي الراهن، وسبل خروج الدولة العربية من أزمتها التي تهدد استمرارية وجودها. ويشير الباحث إلى أن تصورات وأطروحات الفكر الليبرالي العربي حول الدولة في الواقع العربي تتمحور حول الدولة المحايدة، وتكتفي بالترويج لها وتسويقها بوصفها الحل الوحيد المنشود لأزمة الدولة العربية بتجلياتها الراهنة البنيوية والوظيفية. ولعل التيار الليبرالي هو الأكثر قدرة اليوم على التعامل مع ملف الطائفية والقبائلية والعشائرية الذي بدأ يفرض نفسه بقوة، فضلاً عن أنه التيار الأكثر قبولاً من الأطياف السياسية المتباينة، كون منطلقاته الفلسفية والنظرية غير دينية أو مذهبية. لكن ثمة نقاط ضعف لا بد له من علاجها، وتتمثل في: وجود فجوة كبيرة تفصل هذا التيار عن الشارع العربي، وتمنعه من التأثير والالتحام مع هموم المواطن البسيط والاشتباك مع قضاياه، ناهيك عن فشل التيار الليبرالي في صوغ خطاب سياسي يجتذب قطاعات شعبية واسعة، واستعادة ذاكرة العمل السياسي النضالي للجماهير العربية.
مفهوم الدولة عند عبدالله العروي
تركز دراسة مرشد القبّي، الأكاديمي والباحث التونسي، على «مفهوم الدولة عند عبدالله العروي»، والكشف عن الرؤية العامّة التي يتنزّل فيها هذا التصوّر. يقول الباحث: إنّ طريقة عبدالله العروي في طرح مسألة الدولة ومعالجتها نظريّاً ومفهوميّاً في كتابه «مفهوم الدولة» قد بلغت درجة من العمق يقلّ نظيرها في الفكر العربي المعاصر على غزارة الكتابات في المسألة السياسية وفي موضوع الدولة، وإنّ الكثير من النتائج التي توصّل إليها بعد مسار مضنٍ من التحليلات المتشعّبة تبدو في غاية الوجاهة، لذا تبقى العودة إلى مقالة عبدالله العروي متجدّدة وملحّة، خصوصاً إذا رمنا الحدّ من التّلاعب اللفظي والتمييع المفهومي في ما يتعلّق بالسياسة ومفرداتها، هذه المفردات التي تبقى -في غالب الأحيان- أسيرة التوظيف في أدبيات السجال السياسي والتنازع الأيديولوجي الذي يطبع الكثير ممّا يكتب ويروج في الساحة الفكرية العربية المعاصرة، خصوصاً بعد بوادر التّحريك الفعلي للأوضاع الرّاكدة في الواقع العربي الذي باتت تشهده بعض البلدان التي تمرّ بما يعرف بـ«مسار الانتقال الديمقراطي». فالدولة يجب أن تعرف في ذاتها ولذاتها، وأن تكون مجال بناء قيم مشتركة توجّه مسار الفعل السياسي وفق ضوابط هي في النهاية قيم أخلاقية، ما دام الإنسان يتوق على الدوام إلى الفضيلة، وما دام المجتمع يتطلّع أبداً صوب العيش المشترك الآمن والحياة الكريمة. هذا هو الدرس المستفاد الذي قد يجعلنا نفكّر على الدوام في هذا الإطار الجامع الذي هو الدولة، وإن تدبّر ما يقوم به على الأسس التي تعيد بناء علاقة الفرد المواطن بالمجتمع والدولة بشكل واعٍ ومسؤول، يفضي إلى علاقة مشاركة فاعلة ونشيطة في إدارة الشأن العام وتحصيل المنافع الجماعية التي هي بالضرورة منفعة الفرد الواحد. فالمطلوب -إذن- أن نواجه الدولة التي نعيشها، أن نفكر فيها وبها ولأجلها تفكيراً عقلانياً، ولكن بأيّ معنى؟ ألا يكون الانشداد الدائم إلى أفق التصور الهيغلي الطاغي -على رؤية عبدالله العروي- عائقا يلقي بهذا التفكير إلى أحضان الطوبى؟ أليست العقلنة الطاغية على أنموذج الدولة الحديثة اليوم هي عقلنة الاقتصاد المعولم والمنفعة القصوى والمردوديّة الكميّة العالية التي باتت تهدّد الإنسان والبيئة والأخلاق وقيم الحرية والمساواة والعدالة؟ صحيح أنّ العروي كأنّه يميل إلى تبرئة النظريّة الهيغلية من مسؤولية تردّي دولة العقل المطلق إلى وهدة الكليانيّة في التجربة النازية بألمانيا، ولكن أليس لأحداث التاريخ صلة بالأفكار والنظريات؟ هذا، على الأقلّ، ما تعلّمنا إيّاه النظرية وخصوصاً منهجها الجدلي.
التبريرات الغربية للدولة الأصولية: مناقشة نوح فيلدمان وبرتراند بادي
يقول محمد الحدّاد الأكاديمي والباحث التونسي، وأستاذ كرسي اليونسكو للأديان المقارنة (تونس): إنه يشار عادة إلى حركات الإسلام السياسي على أنها تخرق الإجماع الكوني الحاصل في العلوم السياسية حول المقومات الأساسية للدولة في العصر الحديث؛ وتعاند من أجل إقامة دولة أصولية ذات ركائز وخصائص مختلفة، تستمدها من قراءة طوباوية للماضي والتراث، وهي تمثل بذلك نكوصاً بالمقارنة بحركات التجديد الإسلامي التي ظهرت في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وقد سعت آنذاك إلى التطوير السياسي في المجتمعات العربية والإسلامية، ودعت إلى التخلّي عن الأشكال القديمة وبناء دول وطنية حديثة، وحاججت على أنّ ذلك لا يتعارض مع القيم والمبادئ الإسلامية وإن عارض اجتهادات تنزّلت في سياقات ماضية ومنتهية. فروّاد التجديد والنهضة كانت مواقفهم متميزة بالانفتاح في الموضوع السياسي خصوصاً، على غرار خير الدين التونسي الذي يعتبر رائد أوّل تجربة دستورية في العالم العربي والإسلامي (الدستور التونسي لسنة 1861)، ومحمد عبده صاحب مقولة «الدولة المدنية»، وعبدالرحمن الكواكبي الذي كشف العلاقة بين الاستبداد والجمود الاجتماعي والثقافي، وعلي عبدالرازق الذي فنّد بالأدلة الشرعية ارتباط نظام الخلافة بالدين الإسلامي، وأبان مسؤولية ذلك النظام في تخلف المسلمين… إلخ.
إنّ تحويل القضيّة من الحاضر إلى التاريخ يتضمّن مخاطرة واضحة، إذ إن التاريخ يمكن أن يكتب لمجرّد تبرير هذا الحاضر. يمكن التضخيم من الجذور المسيحية للحداثة السياسية وإلغاء كل مواطن التقاطع بين هذه الحداثة والتراث الفلسفي الإسلامي، كي يتعارض أنموذج الدولتين. لكن ما الفوارق بينهما؟ إنّها استقلالية الفضاء السياسي عن الفضاء الديني والهيكلة البيروقراطية للسلطات، وفكرة التعاقد بين الأمير والشعب، والتمييز بين الفضاء الخاص والفضاء العام، وبين الفرد والجماعة، ثمّ خصوصاً أن تكون الدولة في ذاتها مصدراً شرعيّاً لسنّ القوانين. إنّ هذه المبادئ التي يلتقي الأصوليون وبعض الكتاب الغربيين في اعتبارها غربية قابلة لقدر كبير من التنسيب حسب التأويلات المختلفة للتاريخ، فليس متأكداً وجودها العريق في مجتمعات المسيحية الغربية ولا غيابها التام في مجتمعات الإسلام. لكنّ الأهمّ من ذلك أنّ الحكم على هذه القواعد بالتناقض الأبدي مع ثقافة المسلمين، يمثّل حكماً عليهم بالإعدام السياسي، إذ لا يمكن تصوّر حكم ديمقراطي دون حضور، ولو كان نسبياً، لهذه القواعد. فكأنّ المسلمين محكوم عليهم أن يبقوا كما هم، لأنّ هويتهم السياسية محدّدة سلفاً بهويتهم الثقافية، وهويتهم الثقافية محدّدة بدورها بتجربتهم التاريخيّة، بينما يمكن لغيرهم أن يطوّروا هويّة سياسية جديدة متفاعلة إيجاباً مع ثقافتهم وتاريخهم. على عكس ما يظنّ الأصوليون، هذه النظريات ليست متعاطفة مع المسلمين بقدر ما هي تتعامل معهم بمنطق الاستعلاء، وتحكم عليهم ضمنياً بأن يبقوا على ما هم عليه من فوضى وتخلف واستبداد. لكن ترحيب الأصوليين بهذه النظريات يؤكّد أن مشروعهم لا يختلف كثيراً عن هذا المقصد.