يُلقي الباحث فابريزيو مينيتي –باحث إيطالي في المركز العسكري للدراسات الاستراتيجية، خبير في القضايا الأمنية العالمية- في مقاله المنشور عبر موقع “عين أوروبية على التطرف” European Eye on Radicalization الضوء على مسألة التطرف واكتظاظ السجون[1].
تختبر مجتمعاتنا في الوقت الحاضر الخوف وانعدام الأمن. وعلى الرغم من تبدل مخاوفنا فإن الشعور بالخوف يظل قائماً. ويبقى من الصعب تحليل هذه الظاهرة التي تقوض التعايش السلمي والثقة المتبادلة بين الشعوب، في ظل وقوع أحداث عدة في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، أدت إلى تنامي القلق والشعور بانعدام الأمن في المجتمعات الغربية، على الرغم من أن مناطق أخرى في العالم لم تكن بمنأى عن ذلك.
يُواجه العالم مخاوف كثيرة، منها: التدهور البيئي، والتلاعب الجيني، ونضوب الموارد، وتنامي معدلات الجريمة، وبعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)، ارتبط الخطر بالإرهاب الأصولي، الذي أدى إلى تنامي الادعاءات ما بين “ثقافتنا” كغرب، و”ثقافتهم” كمسلمين. لاحقا، تغيرت طبيعة الإرهاب، حيث أصبح مرنا ومتعدد الأوجه، وتخلى الإرهابيون عن الهرمية في التخطيط والتنفيذ. نتيجة لذلك تنامت صعوبة وقف انتشار الإرهاب الذي بات ظاهرة مأساوية، خاصة في ضوء تضاعف فرص الاتصال الحقيقي بين الخلايا والأفراد نتيجة توافر الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي، التي يمكن أن تؤدي لاحقا إلى اتصال مباشر بين الطرفين، ويمكن حدوث ذلك في المناطق التي يسهل فيها التمويه بين الجاليات المهاجرة، التي تحصل على الدعم من المجموعات العائلية ومن يحيط بهم ويدعمهم.
وفي هذا الصدد، يُشير الكاتب إلى انتفاء الصلات المباشرة بين المهاجرين والتطرف أو الجريمة. إلا أنه قد أكد دور التأثيرات النابعة عن وجود واقع مختلف اجتماعيا ودينيا وثقافيا، هذا الواقع الذي يخلق بيئة ليست سهلة على كافة الأطراف، ويكفي غالباً، ما يقوم به بعض المهاجرين من تشويه لصورة البلدان المستقبلة، في البلد الأم له، لأنها في تصورهم (علمانية أكثر من اللازم)، الأمر الذي يُعزز الإحساس بالهوية ويُكرس التطرف. ومن بين أولئك، الذين يأتون من دول إسلامية إلى الغرب، بما فيها إيطاليا.
وفقاً لتقرير صدر أخيراً عن وزارة العدل، بلغ عدد السجناء في إيطاليا (54,731) سجيناً، وكان ثلثهم من الأجانب، ومن بينهم كان هناك (11,029) سجيناً ينتمون إلى الدول ذات الأغلبية المسلمة. لا تنم الأرقام عن وجود صلة مباشرة بين العقيدة الإسلامية والتطرف الديني، لكنهم يطرحون أسئلة مهمة حول الوقاية من التطرف، والتي يُمكن تسهيلها خلال ظروف نظام السجن نفسه. يُشير الكاتب في هذا السياق إلى مخاطر التطرف في السجن، ويتطرق إلى أزمة اكتظاظ السجون التي وصفها بالخطيرة.
عام 2013، دانت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان إيطاليا، نظراً لاكتظاظ سجونها إلى مستويات غير مقبولة، الأمر الذي يتناقض مع الحقوق الأساسية للسجناء الذين ينتظرون المحاكم أو يقضون عقوباتهم.
نشرت اللجنة الأوروبية المعنية بمشكلات الجريمة التابعة للمجلس الأوروبي وثيقة تضم توصيات حول الاكتظاظ في السجون، في سبتمبر (أيلول) عام 2016، تقترح الوثيقة عدم تجريم بعض الأفعال، وتخفيض مدة بعض العقوبات، واستبدال بعض التدابير الاحتجازية بعقوبات مالية. كما يقترح التقرير، تطوير برامج الوقاية لعرقلة وقوع الجرائم، والعودة إلى الإجرام، وتقديم الدعم النفسي للسجناء، وتحسين المهارات التعليمية والمهنية.
وقد اعتمدت بعض الدول الأوروبية بالفعل أحكاماً محددة لمنع الاكتظاظ. على سبيل المثال، الحكم بأنه لا يمكن قبول الأشخاص المدانين في السجن ما لم يكن هناك مكان مناسب لهم. وقد أدى هذا في الماضي، إلى تنفيذ “قوائم انتظار” للسجناء في هولندا والنرويج. وبدلاً من احتجازهم يتم استبدال أحكام الاحتجاز مع تبني تدابير بديلة. إن استخدام التدابير غير الاحتجازية كبديل عن الاحتجاز هو أمر ذو أهمية كوسيلة للحد من اكتظاظ السجون، وكأداة لتسهيل إعادة الإدماج الاجتماعي وإعادة التأهيل.
على سبيل المثال، أنيس عامري الذي نفذ عملية دهس في إحدى أسواق عيد الميلاد في برلين بتاريخ 19 ديسمبر (كانون الأول) عام 2016، كان قد تطرف بشكل تدريجي خلال أربع سنوات من الاعتقال في سجن كاتانيا الإيطالي. تم سجنه بتهمة ارتكاب جرائم عادية كالاختلاس وإلحاق إصابات –لكن وزارة العدل ذكرت أنه أصبح قائداً متطرفا داخل السجن. وفي وقت لاحق، انضم إلى شبكة من الإسلاميين المتطرفين في ألمانيا.
ووفقاً للبيانات المتعلقة بسجناء السجون الذين أبلغت وزارة العدل عنهم، يوجد حوالي (375) سجيناً معرضاً لخطر التطرف، ويخضع حوالي (170) سجيناً لرصد محدد، تقدم المعلومات التي تخصهم إلى الجهات المعنية.
تتفاقم مشكلة الوافدين الجدد بسبب القضية الكبرى المتمثلة في اكتظاظ السجون الإيطالية. بين عامي 2015 و2016، ارتفع معدل الاكتظاظ من (105٪) إلى (108.8٪). وارتفعت إلى (112.8%) في الأشهر الستة الأولى من عام 2017. وبوجه عام، يرجع الاكتظاظ إلى الزيادة في عدد السجناء المحتجزين بسبب الجرائم الصغيرة، ومعظمهم ينتمون إلى الفئات المهمشة ثقافياً واجتماعياً.
إن اكتظاظ السجون يخلق أرضية مواتية لنمو التبشير بطابع إرهابي. وبالتالي يُمكن أن يؤدي الاكتظاظ إلى تحويل السجون لحاضنات تطرف.
ألقى الكاتب الضوء على التطرف واكتظاظ السجون في إيطاليا، إن قضية الاكتظاظ في السجون ليست قضية حديثة. كما تُبين الإحصاءات المنشورة في موقع (World prison brief) دول العالم ونسب الاكتظاظ في سجونها، أن إيطاليا تقع في الموقع (87) مقارنة بالدول الأخرى. وتجدر الإشارة إلى وقوع كل من هايتي والفلبين والسلفادور وأوغندا وزامبيا في المراتب الخمس الأولى الأسوأ على التوالي[2].
أي إن حالة الاكتظاظ في إيطاليا، مقارنة بالكثير من دول العالم، ليست بهذا السوء. وفي السياق ذاته، أسلط الضوء على قضيتين أساسيتين.
أولاً: ركز الكاتب على قضية المهاجرين في إيطاليا، عندما أشار إلى وجود اختلافات اجتماعية وثقافية تلعب دورا في تعزيز الإحساس بالهوية وتكريس التطرف لدى المهاجرين. وفي هذا السياق، أود أن أُشير إلى واحدة من الأفكار الرئيسة التي أطلقها أمين معلوف في كتابه (الهويات القاتلة) في هذا السياق، حين اعتبر أن ما يجعل المهاجرين يتمسكون بانتماءاتهم بشكل أكبر، عندما يكونون غير قادرين على شبه الأفراد بالمجتمع المضيف، وفي المقابل عندما تلقى ثقافة الوافدين الجدد التقبل والاحترام في المجتمع المضيف، كلما انفتح المهاجرون بشكل أكبر على ثقافته. ويبدو أن هناك مسؤولية تقع على عاتق المجتمعات المستقبلة تهدف إلى تشجيع المهاجرين على التماهي مع المجتمع، الذين يهاجرون له ليخلقوا نوعاً من الانتماء المزدوج، دون الانسلاخ عن الهوية الأصلية، أو تكوين عداء للهوية الجديدة؛ الأمر الذي يمكن أن يقلل حالات الانزلاق للتطرف.
ثانياً: فيما يخص اكتظاظ السجون والتطرف؛ نص الكاتب على اتخاذ تدابير تنظيمية تهدف إلى حل مشكلة الاكتظاظ في السجون، وتطوير أدوات تشغيلية تتسق مع النماذج التنظيمية والإدارية المقترحة على المستوى الأوروبي. والقيام بذلك يؤدي بدوره إلى تحقيق التوازن المرغوب بين الحاجة إلى أمن المجتمع المدني، وضمان حقوق الإنسان وحماية السجناء.
وهنا أؤكد أهمية ما طرحه الكاتب، إلى جانب تأكيد ضرورة عمل إدارات السجون في إطار المبادئ التي أقرها القانون الدولي، والمبادئ التي أقرتها الأمم المتحدة ذات الصلة، التي تضمن منع تحول السجون إلى حاضنات تطرف. ولطالما كان الاكتظاظ داخل السجون يساعد على تحفيز التشدد المفضي إلى العنف[3]، فإنه يجب الاهتمام بظروف السجناء كجزء لا يتجزأ من مكافحة التطرف العنيف.
إن تعزيز أفكار تقبل الآخر، إلى جانب وجود القوانين التي تحمي المهاجرين في الدول المستقبلة، فضلا عن التزام إدارات السجون بالقوانين والأعراف الدولية، كلها أمور تؤدي إلى تقليل النزوع نحو التطرف.
[1] -Fabrizio Minniti, “Prison overcrowding and radicalization” European Eye on Radicalization, 26th March 2018, https://goo.gl/RaJ9Bb
[3] – قواعد الأمم المتحدة النموذجية الدنيا لمعاملة السجناء، مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة، https://goo.gl/VdFcks