تقديم
أخذ مركز المسبار للدراسات والبحوث على عاتقه، منذ انطلاقته، مهمة فتح الأبواب التي توسّع مجال الرؤية وتجدد التفسيرات والقراءات حول تفاعل الإسلام مع الثقافات المختلفة، جذباً وطرداً، إيمانًا من «المسبار» أنّ الرؤية الرحبة قادرة على توضيح الصورة بشكل أوسع. بعد دراسة الإسلام السياسي والتقليدي في أوروبا، وإسبانيا، وجنوب أفريقيا، وإندونيسيا، وماليزيا، وغيرها، في إصدارات شهريّة سابقة، كان لابد أن نوفر دراسات لمناطق جديدة ومهمة، فكان كتابنا «الإسلام في روسيا: التاريخ والآفاق والقلق» العدد الرابع والثمانين، ديسمبر(كانون الأول) 2013، والذي يسلط الضوء على الإسلام والإسلاميين في روسيا الاتحادية، آخذين في الاعتبار الحمولة التاريخية، وضبابية المصادر، وغيرها من الصعاب العلمية.
مرّ الكتاب في تجارب تاريخية مميزة مثل الإسلام التتري، ومواقف مغيّبة مثل موقف المسلمين من الثورات الفلاحية الكبرى، والثورة البلشفية، والبعد القومي، وقد كشفت هذه المواقف، تجانساً تاريخياً بين المكوِّنين الديني والإثني والهويّة الوطنيّة لدى المسلمين الرّوس من جهة، واحتضاناً روسياً «ما قبل الثورة البلشفية» للإسلام الصوفي من جهة أخرى.
تناول الكتاب المتغيرات الكبرى التي مرّت بها روسيا وشمال القوقاز، ورصد الاتجاهات الإسلامية المختلفة الموزعة بين إسلام شعبي، وإسلام رسمي، وآخر موازٍ، كما يُفَصِّلها الباحثون.
تبقى الاشارة إلى أنّ البيئة الروسية أنتجت مصطلحات خاصة، وإسلاماً خاصاً، ومواقف مبهمة، تحتاج بالضرورة لمزيد من الدرس والتحليل العلمي.
لا يعدو هذا الكتاب الذي شارك فيه باحثون مختصون، أن يكون محاولة لكشف بعض معالم الإسلام الروسي، وجُهدًا قَدّم الأرضية الأولية التي يحتاجها الباحث في مجال الإسلام العابر للحدود والقارات، وخصوصاً من له اهتمام في تاريخ المسلمين وقضاياهم في روسيا .
فاتحة دراسات العدد قدّمها الباحث اللبناني في الشؤون الروسية ودول الكومنولث، خالد ممدوح العزي، وعلى الرغم من أن ورقته حملت عنوان «الإسلام السياسي وفق السياسة الروسية»، إلا أنّه قدم دراسة تحليلية وافية، مرت عبر تمهيد تاريخي شامل، وضّح فيه أن المسلمين الروس تشكلوا بهوية متصالحة مع روسيا. وأشار إلى اشتراك المسلمين في الانتفاضات الفلاحية الكبرى في القرن الثامن عشر، ملمحاً إلى السياسة القيصرية التي عملت في القرن السادس عشر على احتواء المسلمين، ودمجهم في الفلك الروسي. وفي العام 1917 اشترك المسلمون في الثورة، وبعد نجاحها وجّهت الضربات إلى الإسلام والأديان الأخرى على حد سواء. ويقول العزي: إن الروس يتعاطون مع الوهابية وجماعة «الإخوان المسلمين» بوصفهما الخطر الأكبر الذي يمكن أن يؤثر في شبابهم، ومع مرور السنوات تطورت الرؤية الروسية في تعاطيها مع الإسلام السياسي، خصوصاً في عهد بوتين الذي انفتح على التاريخ الإسلامي، ورأى أنّ على القيادة الروسية إظهار وعي عالٍ باحترام حقوق المسلمين من جهة، واستحضار الانسجام بين الإسلام الصوفي منذ عهد القياصرة مروراً بالاتحاد السوفيتي إلى اليوم من جهة أخرى.
كما تناول الباحث الأردني المختص في شؤون الجماعات الإسلامية، مراد بطل الشيشاني، موضوع الإسلام الرسمي والإسلام الموازي في شمال القوقاز، مُقَدِّماً تعريفه للإسلاميين، معتبرًا الأول وليداً لتأسيس إدارات دينية لمسلمي الاتحاد السوفييي، والشراكة الرسمية -آنذاك- مع رجال دين مسلمين. وقد أفضت تلك السياسة السوفيتية إلى إنتاج ظاهرة مقابلة لها، ومعارضة لـ«الإسلام الرسمي»، يُعبِّر عنها «تيار إسلامي موازٍ»، محافظ، وسري، اصطُلِحَ عليه بـ«الإسلام الموازي»؛ إذ برزت قوته بسبب خضوع «الإسلام الرسمي» للسلطة وانحسار جماهيريته. ويلفت الباحث في هذا الإطار إلى تحوّل لافت، فحينما بدأت الدعاية ضد الدين عام 1927 كانت شاملة، ولكنّها بعد عام 1957 تركزت لتوجه ضد «الإسلام الموازي» عبر أطر مختلفة، واشتدت الحملة في هذا الإطار ضد التيار الصوفي في الشيشان، وزادت مع انتصار الثورة الإسلامية في إيران، والغزو السوفيتي لأفغانستان، وشكلت الطرق الصوفية، آنذاك وعاء «الإسلام الموازي»، وسط غياب المنافس. وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي تزايدت النزاعات القومية، وبرز الدين بوصفه عاملاً اجتماعياً سياسياً، داخل كل قومية على حدة، وهنا صورة جديدة؛ فالنمط الجديد من الإسلام الموازي الذي دخل على الخط في شمال القوقاز بعد الحرب الشيشانية، هو نقيض الإسلام الصوفي، فتمثل الإطار الجديد في التيار السلفي والحركات الأقرب للإسلام السياسي في الشرق الأوسط، وقد استغلت روسيا حال الخوف لدى الشيشانيين على هويتهم من التيار السلفي، الذي كان يوصف بـ «الوهابية»، وتمكنت من استمالة مفتي الشيشان أحمد قاديروف، وعينته رئيساً للحكومة الموالية لروسيا. وبتحول مفتي الشيشان، إلى جانب روسيا، لخوفه من «التأثير الوهابي» المتزايد، تحول الإسلام الموازي المعادي لروسيا، ممثلاً بالطريقة القادرية لأول مرة منذ أكثر من 150 عاماً، إلى جانب السلطات الروسية، أما الآن فيمثل الإسلام الرسمي حالياً في روسيا الفيدرالية بـ«مجلس المفتين»، وأما في شمال القوقاز فإن الطرق الصوفية، التي كانت على طابع عدائي مع روسيا، باتت تشكل جزءاً من صورة الإسلام الرسمي، ما دفع رئيس جمهورية الشيشان الموالي لروسيا، إلى اعتماد الطريقة القادرية، وبناء «أكبر مسجد في أوروبا».
ولم يبتعد أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، أحمد عبد الحافظ فواز كثيراً عمّا قدمه الشيشاني. إذ درس معوقات إدارة التنوع الديني والمذهبي، والتي عبّر عنها بالاحتقان الطائفي بين الصوفية والسلفية في روسيا، الذي راح ضحيته 1225 شخصاً العام 2012. وسرد الباحث المقدمات التاريخية الضرورية، موضحاً أن الموقف التاريخي للصوفية الذي كرسته حركة المقاومة القوقازية، ضد روسيا القيصرية، شكّل العامل الأساسي الذي مكَّن دعاة الصوفية من الالتحام بالمسلمين خلال الحقبة السوفيتية، للحفاظ على تقاليد الإسلام، وأبدوا استعدادهم لقبول السلطة العلمانية والاحتفاظ بالدين في المجال الخاص.
فيما وجدت السلفية طريقها إلى الاتحاد السوفيتي، في أواخر ثمانينيات القرن العشرين، ضمن «ظاهرة الإسلام خارج المساجد»، مدفوعة بعوامل اقتصادية واجتماعية، وحتى سياسية، مثل العامل الشيشاني، والسفر إلى الخارج.
ويرى الباحث أن مظاهر التنافس أو الصراع بين السلفية والصوفية في روسيا تفجرت بحدة بدءاً من العام 1997، وتطوّرت لاحقاً إذ شهدت داغستان بين عامي 2011 و2012 سلسلة من الاغتيالات، طاولت الرموز الصوفية، مثل مقصود صديقوف (اغتيل 2011)، وسعيد أفندي (اغتيل في 28 أغسطس (آب) 2012)، وهي عمليات اتُهِمَت بها حركات سلفية جهادية مثل حركة «أبناء الغابات». وبينت الدراسة شكل تعامل الحكومات الروسية مع المد السلفي في شمال القوقاز، حيث تراوح بين محاولات الاحتواء والتعامل الأمني، ويخلص عبدالحافظ في ختام دراسته إلى أن النهج الروسي تجاه جماعات العنف المسلحة، يتعامل مع الأعراض، ويغفل أو يتناسى المسببات الرئيسة.
أما رئيس جمعية البحوث القوقازية الباحث الفرنسي، من أصل شيشاني، ميربيك فاتشاغيف، فكتب عن الإخوان المسلمين في روسيا دراسة قاربت دور حركة الإخوان المسلمين وتأثيرها في المسلمين الروس. إذ حاول التنظيم الدولي للإخوان –حسب الكاتب- الاستيلاء على الجماعات الإسلامية في روسيا، إلى جانب كثير من المؤسسات الإسلامية في الظروف التي أعقبت تَفَكُكَ الاتحاد السوفيتي بداية تسعينيات القرن العشرين. ووضعت السلطات حداً لتأثير هذا التنظيم كونه يقوم ضد السلطة في روسيا الاتحادية. ويتميز نشاط المنتسبين إلى هذه المنظمة في روسيا بخصوصيته؛ لأنهم مضطرون إلى القيام بنشاطهم بشكل غير نظامي، وبسرية شديدة؛ لذا فإن تأثير «الإخوان المسلمون» في روسيا أقل من تأثير المنظمات الإسلامية الدولية الأخرى. وتناول الباحث المحاولة الروسية لرفع الحظر عن الإخوان المسلمين لتمكين المسؤولين الروس من الالتقاء بقيادات الإخوان، وبعد تدابير التقى وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف قادة التنظيم، واستقبلت موسكو رئيس المكتب السياسي لحركة حماس خالد مشعل. ويلح الكاتب أن القيادة الروسية ستكون مجبرة على إلغاء قرارها تجاه «الإخوان المسلمون» في المستقبل، رغبةً منها في كسب الحلفاء في المنطقة، غير أنه يشير إلى بعض التوترات والخلط إزاء تصنيف الحركات الإسلامية، فقلة من الروس تميز السلفية عن الإخوانية، مستنتجاً أن نشاط الإخوان في روسيا سيولد نشاطاً مسيحياً موازياً. وأشار إلى أنّ الحركة الإخوانية ستقوم في روسيا ببعض التنازلات، وستوافق على الدخول في قواعد اللعبة، التي تفرضها القوانين الروسية، ما يساعدها على كسب مؤيدين إضافيين لأفكارها، علماً أنه لا يوجد من ينافس الجماعة على السّاحة الروسية، إلاَّ حزب التحرير الإسلامي، الحزب السياسي الوحيد المنظم بشكل جيد بين مسلمي روسيا. ويختم دراسته بالقول إن نشاط الإخوان المسلمين في الوقت الحاضر محدود، لكنهم في المستقبل قادرون على أن يكونوا قوة سياسية واقعية على الأرض في روسيا .
وقريباً من المياه الدافئة، تناول الأكاديمي الفلسطيني عمر محاميد، بعد مقدمة تاريخية مطولة، السياسة الروسية إزاء أحداث الربيع العربي، مشيراً إلى أن موقف الوسط الثقافي الروسي من الأحداث الجارية في دول الحراك العربي ليس موحداً، بل هناك العديد من الأفكار والمعتقدات والآراء التي تسود الشارع الروسي والفكر السياسي الروسي، والتي تشكل نواة لظهور فكر جديد في السياسة الدولية، مختلف عن الأحداث الخارجية والجيوسياسية. تمر روسيا الحديثة من تغيرات سياسية واقتصادية وثقافية، ويعتقد كثير من علماء السياسة الروس أن موسكو تخسر الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بسبب العوامل المتعلقة بالعهد السوفيتي السابق. يقول محاميد: إن المختصين الروس، يرون أن لا معنى أو فائدة كبيرة لصناديق الانتخابات في الشرق الأوسط، وما تم من تغيير، ظاهري وسطحي، عبارة عن مشاركة المجتمع في عملية إدارة الدولة والسلطة. وقد لاحظوا، منذ البداية أن الثورة في العالم العربي ستأتي وتعزز وتفاقم الصراعات الإثنية والصراعات الدينية والعرقية، وتؤثر في اقتصاد هذه البلدان سلبياً، وفي النهاية ستؤدي إلى كارثة سياسية. ويقول حول الأوضاع في مصر: إن موسكو تؤيد فعلياً تحرك الجيش المصري على الرغم من أنها لا تعلن عن ذلك صراحة وبصورة علنية، ويشرح الموقف الروسي حيال سوريا، ويشير محاميد إلى العقود والصفقات التي أبرمتها السعودية مع روسيا، وحرص البلدين على تطوير وترسيخ علاقات دول الخليج العربي مع موسكو، لما في ذلك من إيجابيات تعزز الاستقرار في المنطقة والعالم، ويختتم دراسته بالقول: «إن عودة بوتين إلى الحكم في روسيا أعادت إلى روسيا دورها العالمي، وهذا يبرز في مختلف الصراعات على الساحة الدولية، في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية. وأما نشاط الدولة الروسية والحكومة الروسية في منطقة الشرق الأوسط، فيعبر عن رغبة جامحة في استعادة الدور الذي لعبه الاتحاد السوفيتي سابقاً في هذه المنطقة الحيوية».
فيما أجرت الكاتبة والروائية السورية نجاة عبد الصمد، قراءة في كتاب «مصائر الإسلام في روسيا، تاريخ وآفاق»، لمؤلفه الكاتب الأكاديمي الروسي من أصل داغستاني، رمضان عبد اللطيبوف، وبينت أبرز الأفكار والإشكاليات التي عالجها الكاتب حول تاريخ المسلمين في روسيا ماضياً وحاضراً.
واختارت هيئة التحرير دراسة عدد، حملت عنوان: «ما وراء الفشل الأيديولوجي: الإسلاميون والثقافة»، قدّمها الباحث السوري المختص في الفكر الإسلامي، حمّود حمّود، اعتبر فيها أنّه وبالرغم من فشل الأفكار التي أسس لها «الإسلام السياسي»، إلا أنّه يشهد حال انبعاث قوية في ظل ما عرف بـ«الربيع العربي»، محاولاً تفسير هذه المفارقة. ويرى الكاتب أنّ البدائل عن الإسلام السياسي يجب أن تركز أولاً وقبل كلّ شيء على الفضاءين المعرفي والثقافي المتشكلين داخله، بعيداً من الأفكار الأيديولوجية. كما ناقشت الدراسة فكرة إعادة إنتاج الإسلاموية، ذهنياً وثقافياً، بواسطة أنماط فكرية قد لا تُحسب تقليدياً على التيار الإسلاموي، لكنها تتقاطع معه في القسمات الرئيسة لأنماط التفكير، التي يصفها بأنّها تدير الأفكار خفية.
ويواصل الأكاديمي المصري والباحث في الشؤون التركية، طارق عبد الجليل رصده للحالة التركية، ففي تقريره الثاني لمنتصف شهر نوفمبر (تشرين الثاني)، يعرض مواقف الأحزاب التركية، الإسلامية والعلمانية، من تصريحات رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، في شأن منع الاختلاط داخل مساكن الطلاب الجامعيين، واتجاهه لقوننة الفصل بين الجنسين في بيوت الطلبة.
في الختام يتقدّم مركز المسبار للدراسات والبحوث بالشكر للباحثين المشاركين، وللزميل إبراهيم أمين النمر، الذي نسّق الكتاب، وسهر عليه، ونأمل أن ترضيكم ثمرة جهده وفريق العمل، وتجدون فيه بغيتكم.
كما يتقدم المركز بالشكر الجزيل إلى رئيس مركز الإعلام والدراسات العربية-الروسية، الزميل ماجد بن عبدالعزيز التركي، على جهوده في تحكيم الدراسات، والمساعدات المقدرة التي ساهمت بشكل كبير في ظهور الكتاب بحلته النهائية، فله منا الشكر والتقدير.
رئيس المركز