-1-
يشار إلى إندونيسيا في الغرب بوصفها النموذج الأكثر نجاحًا في التحول الديمقراطي بين الدول ذات الأغلبية المسلمة. بدأت عملية التحول سنة 1998 عقب تنحي سوهارتو عن الحكم تحت ضغط احتجاجات شعبية واسعة. وفي 1999 ظهر التوافق حول آليات النظام النيابي والتداول السلمي للسلطة، وأجريت أول انتخابات “حرة”، أسفرت عن وجود حكومة أغلبية ذات سلطة كافية لتشريع السياسات. لكن عملية التحول الديمقراطي لم تصل إلى ذروتها إلا بعد الانتخابات الثانية عام 2004، حيث تم إقصاء الجيش كليًا عن التدخل السياسي، بإلغاء تمثيله في البرلمان، وحصر آليات الحكم في السلطات الدستورية الثلاث: التنفيذية والتشريعية والقضائية. وفي 2006 صنف معهد “فيردوم هاوس” للأبحاث إندونيسيا على أنها “بلاد حرة” في مجال الحقوق السياسية، وهو التصنيف الذي لم تحظ به أي دولة في العالم الإسلامي، بما في ذلك تركيا التي عرفت تجربة ديمقراطية أقدم نسبيًا.
مثلت الانتخابات الأولى عام 1999 اختبارًا حقيقيًا لشعبية الإسلام السياسي في إندونيسيا مقابل الأحزاب المدنية العلمانية، والجمعيات الدينية التقليدية التي تتبنى نوعًا من الإسلام الشعبي “اللاسياسي”: من بين (84) حزبًا استوفت الشروط القانونية، تقدم (11) حزبًا إسلاميًا للترشح تحت شعار تطبيق الشريعة الإسلامية. وبدت واثقة من الفوز برهانها على تأييد الأغلبية المسلمة (وهي مسلكية اعتيادية لدى الأحزاب السياسية عمومًا، حيث يقدم كل حزب نفسه بوصفه التعبير الحقيقي عن إرادة الجمهور. وكالعادة، يخطئ “الإسلاميون” في قراءة “التدين الشعبي” كظهير مفترض للتوجهات الأصولية، وهو خطأ متكرر بفعل الطابع الوسطي لتدين الجمهور العام، ونزوعه العملاني للتكيف مع واقعة التطور).
-2-
أسفرت نتيجة الانتخابات عن فوز “الحزب الديمقراطي الإندونيسي من أجل الكفاح” وهو حزب علماني صريح بالمركز الأول، وجاء في المركز الثاني حزب علماني صريح آخر هو “حزب جولكار” الذي كان الحزب الحاكم في البلاد طوال عهد سوهارتو. أما الأحزاب الإسلامية فحصل كل منها على أقل من (3%) من الأصوات، باستثناء “حزب التنمية والوحدة” الذي حصل على نسبة (7%)، ولم تزد النسبة الكلية للأحزاب الإسلامية مجتمعة عن (20%).
ومرة أخرى يشار إلى إندونيسيا بوصفها الدولة الوحيدة ذات الأغلبية المسلمة التي لم يصل فيها الإسلاميون إلى السلطة عبر التجربة الديمقراطية الناشئة. لماذا فشلت الأحزاب الإسلامية في رهانها على الجمهور؟ هل تعبر هذه النتيجة عن حالة “سياسية” ظرفية مرشحة للتغير في المدى القريب أو المتوسط وفق قواعد اللعبة الديمقراطية؟ أم إن المسألة تتعلق بخصائص “اجتماعية ثقافية” أكثر جذرية في النموذج الإندونيسي تباعد بينه وبين الأصولية السياسية؟ كيف نقرأ هذا النموذج مقارنة بالنماذج “الديمقراطية” المماثلة التي جلبت الإسلاميين إلى الحكم في بلدان الشرق الأوسط، خصوصًا في مصر وتونس؟
تستدعي المقارنة فتح النقاش حول فوارق نوعية مفترضة بين النموذجين:
أولًا: من حيث خصائص “الإسلام السياسي” الناشط في كل منهما (مدى ارتباطه بالمدونة المدرسية الفقهية ذات الطابع الوثوقي/ مدى قربه من نسق التدين الشعبي السائد/ ومن ثم، مدى انغماسه في الفكرة الأصولية، وموقفه النظري من الدولة المدنية القائمة).
ثانيًا: من حيث خصائص التجربة الديمقراطية (مصداقية التحول/ نضج البنى الاقتصادية والثقافية والسياسية اللازمة/ حجم القوى المدنية العلمانية واستعدادها التنظيمي/ حجم القوى “الإسلامية اللاسياسية” واستعدادها التنظيمي مقابل قوى الإسلام السياسي “المنظمة”/ السياقات السياسية الإقليمية والعالمية التي توجه آليات التحالف والدعم، خصوصًا من قبل الغرب).
-3-
يمكن الإشارة إلى فوارق نسبية بين الإسلام السياسي “المحلي” الذي ينشط في إندونيسيا منذ الاستقلال في شكل أحزاب أو تشكلات شعبية ذات تكوين مدني، والإسلام السياسي “الحركي” الذي يتخذ شكل “جماعات” في الشرق الأوسط: يبدو الأول أقل أصولية من الثاني، أعني أقل انغماسًا في الوثوقية الفقهية، وأقل نزوعًا للصدام مع المجتمع، وفكرة الدولة المدنية الحديثة وأطرها التنظيمية، أي أقل نزوعًا للتشدد والعنف. ويرجع ذلك إلى مصادره التكوينية المبكرة المستمدة من التراث الصوفي، والمشربة بمؤثرات كلامية أشعرية، وخلفيات مضمرة من المخزون الثقافي (الهندوسي البوذي) البعيد. من هذه الزاوية لا تظهر مسافة واسعة بينه وبين ممارسات التدين الشعبي الإندونيسي التي تتسم إجمالًا بالوسطية والاعتدال. على عكس الإسلام السياسي الأصولي الذي ينطلق أساسًا من موقف نقدي متطرف حيال نمط التدين السائد وفكرة الدولة الوطنية.
تيارات الإسلام الأصولي ذات النفس العربي عرفت طريقها إلى الساحة الإندونيسية قبل نهاية القرن الماضي (ظهرت جماعة الإخوان المسلمين بخطابها الأممي الغامض، وأطرها الحركية التنظيمية ذات الطابع السري، وممارساتها البراجماتية التي تظهر نزوعًا مؤجلًا إلى العنف. كما ظهرت أفكار وتشكيلات متنوعة فقهية جهادية). وبرغم أن هذه التيارات ظلت محدودة من حيث الحجم قياسًا إلى الأحزاب والجمعيات الإسلامية المحلية، وجرى التعامل معها كأفكار دخيلة لا تعبر عن روح التدين العام، فإنها أشاعت نوعًا من التوتر في المشهد السياسي الديني، وصارت تظهر أخيرًا كمصدر تهديد لطابعه الوسطي الدارج. وفي هذا السياق يمكن رصد الإشعاع الأصولي النسبي الذي يتسرب تدريجيًا إلى خطاب الأحزاب الإسلامية التقليدية. (يظل الفارق بين نوعي “الإسلام السياسي” فارقًا في الدرجة- درجة التعبير عن شقه الأصولي- لا في النوع. أيّ فكر ديني “مدرسي” ينطوي على حد أدنى من الأصولية، يرشح لقابليات تشدد محتملة، وهو ما ينطبق على الأحزاب الإسلامية المحلية التي تتفاقم ميولها المدرسية).
-4-
ومع ذلك يبقى التعويل على سلطة التدين الشعبي كآلية قادرة على صد التطرف الأصولي، فرضية صحيحة في المدى الطويل: يملك التدين الشعبي قوة الدفع الواسعة التي تشكل سلطة التيار العام، ويتوافر على خصائص “الوسط” العملية التي تمكنه من احتواء الأطراف. ينطبق ذلك على نمط التدين الشعبي في جميع السياقات الاجتماعية بما في ذلك الشرق الأوسط.
لكن هذه الخصائص تبدو أكثر وضوحًا (فاعلية) في النمط الإندونيسي بسبب سياقات تشكله التاريخية المبكرة؛ الأقل انغماسًا في تجربة الدولة والشريعة، الأسهل اندماجًا مع الفكرة الصوفية الروحية. ولسبب آخر في غاية الأهمية يتعلق بسياقات تطوره المعاصرة، التي أسفرت عن وجود عدد من “المؤسسات” الجماعية المنظمة وذات الشعبية الواسعة، من طراز الجمعية المحمدية، وجمعية نهضة العلماء التي يقدر عدد أعضائها بعشرات الملايين.
من خلال هذه الجمعيات استطاع التدين الشعبي الإندونيسي أن يعبر عن خصائصه الوسطية، وأن يمارس دوره الاحتوائي بطريقة عملية واعية. لقد تبلورت حاضنة تنظيمية واسعة لما يمكن تسميته بنمط “الإسلام اللاسياسي”، وهو قوة اجتماعية وسط تقع بين التيار الإسلامي السياسي والتيار العلماني الصريح، وتتفوق عليهما في حجم التمثيل الشعبي.
وفي السياق نفسه، يشار إلى الدور البارز الذي أدته هذه الجمعيات كحاضنة تنظيمية لحركة التجديد الديني، التي أسهمت في نشر الأفكار المدنية، وكشفت عن الارتباط العضوي بين فكر الإسلام السياسي وفقه التراث التقليدي، وساعدت بشكل واضح في تحجيم قوة الأصولية السياسية المناهضة للحداثة (احتضنت جمعية نهضة العلماء رؤية عبدالرحمن وحيد التسامحية المتطورة، وتتسع الآن لرؤية يحي ثقوف الأكثر تطورًا. وروجت الجمعية المحمدية لأفكار أحمد سيافي معاريف التجديدية. ونشرت رابطة الطلاب الإسلامية أفكار نور شوليش مجيد).
-5-
في الشرق الأوسط، لم يعرف نمط التدين الشعبي مثل هذا الزخم التنظيمي، ولم تتوافر مثل هذه الحاضنة الجمعية المنظمة لحركة التجديد الديني منذ مرحلة “النهضة” المبكرة التي بدأت بجهود الأفغاني ومحمد عبده، وحتى الآن، حيث لا يزال التجديد الديني يطرح كفكرة نظرية مزمنة في ذهن النخبة المثقفة، أو كهدف طموح مؤجل في ذهن الدولة الوطنية.
هذا الغياب التنظيمي للتدين الشعبي يُبطِّئ من قدرته على امتصاص المد الأصولي، ويفتح الطريق أمام الإسلام السياسي الحركي المهجوس بفكرة التنظيم. وهو يمثل أحد أهم الفوارق بين نموذج الدين السياسي الإندونيسي ومثيله في مصر أو تونس، حيث تبدو المسألة أكثر تعقيدًا على الصعيد العملي بسبب الصعوبات التي تتعلق بتوافر إطار ديمقراطي حقيقي خصوصًا في مناخ الثورات الشعبية، وقبل نضج الشروط الاقتصادية والثقافية والسياسية اللازمة بما في ذلك تبلور قوى مدنية منظمة شعبيًا. إضافة إلى عوامل التحبيط الخارجي من قبل الغرب الذي يدعم الإسلام السياسي في المنطقة تنفيذًا لأجندات سياسية واقتصادية خاصة (قارن النموذج الإندونيسي- حيث يغيب هذا التحبيط نسبيًا- بالنموذج المصري الذي شهد تسلل جماعة الإخوان إلى السلطة عقب اضطرابات 2011 من خلال عملية “ديمقراطية” شكلية ومتعجلة، ثم سقوط الجماعة السريع بسبب احتجاجات شعبية واسعة. وبالنموذج التونسي الذي شهد وصول حزب النهضة إلى الحكم عبر عملية “ديمقراطية أقل شكلية وأقل تعجلًا، ثم التراجع التدريجي الواضح لسلطة الحزب وحضوره على المستوى الشعبي).
لكن هل يعني ذلك كله أن النموذج الإندونيسي يمثل يوتوبيا مدنية خالصة، يتصالح فيها الدين والعلمانية؟ أم إنه لا يزال يعاني من إشعاع الأصولية المتطرفة الوافدة من الشرق الأوسط؟ إلى أي مدى سيتمكن من صد هذا الإشعاع في المدى المتوسط، اعتمادًا على إرثه الثقافي الروحي، ونجاحاته الاقتصادية الراهنة؟
يتبع
عبدالجواد يسن
.