من المناطق ذات الشهرة التاريخية منطقة البهنسا –محافظة المنيا– والتي عرفت في العصر اليوناني– الروماني باسم أوكسيرنخوس، والتي كانت على مر العصور بداية العصور الفرعونية وحتى العصر الحالي من المحلات العمرانية التي استقر فيها الإنسان المصري. وقد بلغت تلك الشهرة ذروتها عندما كشف في ثراها عن آلاف من أوراق البردي، التي كان لها أهمية عظمى في معرفة تفاصيل الحياة اليومية في العصر اليوناني- الروماني، وكانت المدينة على أهمية بالغة في العصر القبطي، وذكرت في العديد من المراجع، وعلى لسان الكثير من المؤرخين، وبأنها كانت زاخرة بالعديد من الأديرة والكنائس، عامرة بآلاف من الرهبان والراهبات.
كانت مدينة أوكسيرنخوس مثلاً “مبالغاً فيه لجنون الرهبنة التي تفشت في مناطق معينة من مصر وقد قيل: إنها تضم ما لا يقل عن (10) آلاف راهب و(12) ألف راهبة في الأسقفية التي كانت هذه البلدة مركزها، ولا شك في أن هذا لم يكن في صالح المنطقة تماماً”[2] وذلك على حد قول الفريد ج بتلر.
وقد ذكر مراد كامل أن في مصر مناطق رئيسة لتجمعات رهبانية بلغت “ثماني مناطق كانت بمثابة مراكز لتجمعات الرهبان، منها منطقة البهنسا وكانت تعرف في العصر الروماني باسم أوكسيرنخوس”[3].
ولكن ما الأسباب التي أدت إلى الانتشار الكبير للرهبنة بمنطقة أوكسيرنخوس (البهنسا الحالية) وإلى وجود عدد ضخم من الرهبان والراهبات بالمنطقة؟ سنحاول في هذا البحث الإجابة عن هذه الأسئلة للتعرف على أسباب انتشار الرهبنة بالمنطقة وتطورها.
كلمات مفتاحية:
أوكسيرنخوس – البهنسا – الرهبانية – أسقفية – العصر اليوناني الروماني – العصر القبطي.
الموقع الجغرافي وتطور الاسم
على بعد (20) ميلاً –تقريبا- من الفشن نجد خطاً فرعياً ممتداً من بني مزار –وهي حاضرة “مركز”– إلى صندفا التي تقع على البر الشرقي لبحر يوسف الذي يجري هنا بواسطة حافة الهضبة الغربية، وعلى البر الغربي توجد قرية البهنسا التي نالت في السنين الأخيرة شهرة عالية، وهي تشغل مكان المدينة المعروفة باسم أوكسيرنخوس (Oxyrhynchus) ( ΟΞΨΡΝΧΟΣ ) التي عرفت في العصور القديمة باسم (بر– مدجت)[4]. فلقد عرفت في العصر الفرعوني باسم pr-mDd وفي القبطية: بمجي (PEMJE) وفي العصر اليوناني: أوكسيرنخوس[5].
ويذكر محمد رمزي[6] في قاموسه “أنها من المدن القديمة – ذكرها جوتييه في قاموسه، وذكرها إميلينو في جغرافيته” وأيضاً ذكرت زبيدة محمد عطا [7] “أن المدينة تمتد أصولها إلى العصر الفرعوني، غير أن اسم هذه المدينة الفرعونية تغير في العصر البطلمي إلى مدينة (أوكسيرنخوس) أي (مدينة القنومة) نسبة إلى سمك القنومة الذي كان يكثر في مكان تلك المدينة ويقدسه أهلها، ذلك أن الإغريق الذين تدفقوا على البلاد المصرية في العصر البطلمي دأبوا على تغيير أسماء كثير من المدن التي نزلوا بها، ليتفق مع أذواقهم وألوان معيشتهم” وذكر عبدالحميد زايد[8] أيضاً أن “البهنسا تقع مكان المدينة القديمة بيرمزيت ( per-mezet per mejet)”.
وإذ كانت المدينة في العصر الفرعوني تعرف باسم برمجدت ( Pr–mDd ) حيث يعني اسمها مكان اللقاء[9]، أو مكان الالتقاء، وكانت عاصمة الإقليم التاسع عشر، ويرمز لها بالصولـجان (وابو) وكان الإله ست هو الإله الرسمي للمدينة، ومن ثم فكان يسقطها أغلب المؤرخين من قوائمهم، حيث يذكرون المقاطعة الثامنة عشرة ثم العشرين، وكانت تضم أطلالاً لمنشآت مصرية قديمة باعتبار أنها تقع على الدرب الموصل للواحات البحرية، وبها معابد للإله ست والإلهين تاورت ورننوتت، وقد اهتم الملك رمسيس الثالث بمعبد الإله ست، وفي الأسرات المتأخرة اهتم بها الفراعنة كثيرا [10].
والمدينة ارتفعت مكانتها خلال العصر اليوناني الروماني وسميت أوكسيرنخوس ( ΟΞΨΡΝΧΟΣ ) نسبة لتقديس السمك النيلي ( Mormyus)[11] حيث اشتق اسمها اليوناني من سمكة (أوكسيرنخوس) التي كانت موضع تقديس في العصور المسيحية الأولى[12].
ومدينة أوكسيرنخوس (البهنسا) عاصمة المقاطعة، كانت تمتد أحياناً لتشمل الواحة البحرية، وسميت في العصر القديم -أحياناً- باسم واحة البهنسا نسبة إلى مدينة البهنسا ( Pemdje ) التي تقابلها في وادي النيل، وكان اسمها المصري “بعجي”، وكانت تتبع إقليم البهنسا إدارياً، وهو الإقليم التاسع عشر من أقاليم الصعيد[13]، حيث كان يوجد طريق يصل البهنسا بالواحات البحرية، وكان هذا الطريق تستخدمه القوافل التجارية وتسير فيه الجمال لمدة أربعة أيام[14].
شهرة أوكسيرنخوس:
إن شهرة المنطقة لا ترجع فقط إلى الوجود المسيحي، بل أيضاً للحفائر التي قام بها جرنفيل وهنت ( Grenfell and Hunt ) عام 1897. وما هو معروف عن تميز النفائس التي حصل عليها الباحثون عن البردي من الكيمان الأثرية المتخلفة عن كثير من المدن المصرية، فقد بزت خرائب مدينة أوكسيرنخوس غيرها في عدد أوراق البردي الثمينة، التي ظهرت بها نتيجة بحث الباحثين، على أن الاكتشافات التي جعلت من أوكسيرنخوس مدينة شهيرة كانت على الأخص تمثل في هاتين المجموعتين اللتين عرفتا باسم أقوال يسوع المسيح، والأوراق المماثلة لها مثل الأجزاء الخاصة ببضعة أناجيل مفقودة، لكن أوكسيرنخوس تشتهر أيضاً بسبب غناها في النصوص اليونانية، ومن بينها مخطوط أفلاطون المعروف باسم “مقالة أفلاطون – الهلينيكا” وهي نسخة من كتاب تاريخي لمؤرخ يوناني من الطراز الأول غير معروف، وكذا مخطوط من أشعار باخيليدس وكتابات جندار وقطع متناثرة من سافو وألكمان وكاليماكس، وكثير من النفائس الأخرى[15]. ومهما يكن من شيء، فإن أوراق البردي التي تم العثور عليها في البهنسا “لا يساويها إلا الذي عثر عليه بمدن الفيوم”[16].
ولقد اشتهرت البهنسا بصناعة المنسوجات، فهي من المدائن المهمة لنسيج الكتان والصوف وأيضا القطن[17]، فقد ذكر المقريزي في كتابه “المواعظ والاعتبار”: “بها تعمل الستور البهنسية، وينسج المطرز والمقاطع السلطانية، والمضارب الكبار والثياب المتحيزة”[18]. وتعتبر البهنسا من مراكز الإنتاج المهمة في مصر، وكانت ترسل إنتاجها إلى مدن مصر، كما كان يصدر إلى شمالي أفريقيا[19].
كما اشتهرت أوكسيرنخوس بصناعة الخزف، ووجد عدد من مصانع الخزف، بالإضافة إلى تجارة الأخشاب والخمور ومصانع الزجاج، وكان هناك نقابات خاصة لإمداد الجيش بالملابس، بالإضافة لعدد كبير من الرسامين والنحاتين، وكذا مصانع الطوب، ففي أوراق البردي إشارة إلى استئجار أرض من دير القديس بسطا ( Pustus ) لإقامة مصنع للطوب في مواجهة مزار الشهداء في مدينة أوكسيرنخوس[20].
وبهذا يتضح مدى القوة الاقتصادية لمدينة أوكسيرنخوس، فلم يعتمد اقتصـادها فقط على الزراعة، ولكن امتد إلى النشاط الصناعي فظهرت صناعة الزجاج والمنسوجات والطوب، بالإضافة إلى النشاط التجاري.
وصدرت منتجاتها عن طريق الميناءين الموجودين على بحر يوسف إلى باقي أنحاء مصر، بل وإلى شمالي أفريقيا، بالإضافة إلى قوة ثقافة سكانها، وهذا ما دلت عليه أوراق البردي المكتشفة في المنطقة، ولكن مع فداحة الضرائب الرومانية أصبح الأمر مختلفاً، إذ جعل المواطنين يعانون وطأة الفقر والعوز، بالإضافة إلى الاضطهاد الديني الذي وقع عليهم.
والبهنسا تضم آثاراً من كل العصور، على اعتبار أنها كانت تقع على الدرب المؤدي للواحات البحرية، كما عثر في الموقع على عدد كبير من العملات تحمل أسماء بعض الأباطرة الرومان[21].
أوكسيرنخوس والمسيحية
صارت أوكسيرنخوس مدينة مهمة في العصر البيزنطي، لاسيما حين كثر أتباع الدين المسيحي فيها، فظهرت الكنائس التي اشتهر منها الكنيسة الشمالية والجنوبية، كما تحول كثير من المعابد القديمة بها إلى كنائس، وحفلت المدينة بالرهبان الذين علا ذكرهم بما اشتهروا به من نسك وزهد[22].
وكانت مدينة البهنسا من أهم المدن المسيحية وكانت مدينة مهمة كثيرة السكان، وكانت مقر الأسقفية الأرثوذكسية، وقد كرست كنائسها بالأعمال الخيرة العامة، كما قيل: إن عدد كنائسها وصل إلى (40) كنيسة، حيث تحول عدد من المعابد الوثنية إلى كنائس[23].
وأثبتت مدينة أوكسيرنخوس قدرتها على استعادة نشاطها بالرغم مما تعرضت له من نكبات، ومن ذلك أن إحدى البرديات تشير إلى أن تلك المدينة كان يتبعها مئة وخمس وعشرون قرية، تناقصت إلى عشر قرى بسبب وباء اجتاح المنطقة في القرن الثالث الميلادي، ولكن مدينة أوكسيرنخوس استردت أمجادها وعظمتها، كما ظلت معالمها الكبرى قائمة حتى نهاية العصر البيزنطي وفتح المسلمين لمصر “فكانت المدينة وقت فتح المسلمين بلاد مصر عالية الجدران، حصينة الأسوار والبنيان، منيعة الأبراج والأركان، وكان لها أبواب أربعة إلى الجهات الأربع، وكان لكل باب ثلاثة أبراج، بين كل برجين شرفات، وكان بها أربعون رباطاً وكنائس وقصور”[24]. وقد قام الأقباط بتحويل المعابد والمباني الوثنية إلى كنائس منذ القرن الأول الميلادي، ومنذ عصر الإمبراطور ثيودوسيوس أصبح الطابع العام لمصر في نهاية القرن الرابع الميلادي مسيحياً بحتاً[25].
ففي أوكسيرنخوس وبعد مرسوم جاليروس الخاص بالتسامح، جعلهم يبنون عدداً من الكنائس، ففي بردية تعود لعام 300م من قائمة في أوكسيرنخوس (البهنسا) وهي تشمل أماكن عامة وحراستها، ورد ذكر كنيستين في الحيين الشمالي والجنوبي من المدينة، ومن المؤكد أنهما لم تكونا الكنيستين الوحيدتين، وربما كانتا ترجعان لفترة سابقة. ولقد دمرت الكنائس خلال فترة الاضطهاد التي قام بها دقلديانوس، ففي إحدي برديات القرن الخامس في أوكسيرنخوس، جرى تأجير أرض تتبع كنيسة، ويذكر أنها بجوار مزار الشهداء، وربما كان هذا المكان الذي جرت فيه مذابح المسيحيين، أو دفن فيه شهداء دقلديانوس، وإلى هذه الفترة ينسب ما يعرف باسم أدب الشهداء[26]. ويقال أيضا: إنه كان بها (12) كنيسة والعديد من الأديرة[27].
ويذكر المقريزي في هذا الصدد “أنه كان بمدينة البهنسا ثلاثمئة وستون كنيسة لم يبق منها إلا كنيسة واحدة في العصر المملوكي وهي كنيسة مريم، ومن هذه الكنائس ما اندثر بفعل الزلازل، كما خرب كثير من الكنائس والأديرة المصرية بخراب المدينة نفسها، بالإضافة إلى ما تعرض للهدم والتخريب في عصر الخليفة الحاكم بأمر الله (996-1020م/ 386-411هـ) وخلال الأحداث الكبيرة التي حدثت زمن الناصر محمد بن قلاوون عام 726هـ في العصر المملوكي”[28].
وصلت بعض الأديرة في البهنسا وفي المناطق القريبة منها إلى حد كبير من الشهرة، بحيث غلب اسم الدير على اسم القرية أو المكان، حيث يذكر علي مبارك في خططه “أنه توجد قرى عدة في مصر مازالت تعرف حتى الآن بالدير، إذ غلب اسم الدير على القرية فأُطلق على قرى عدة، منها دير السنقورية قبلي البهنسا ودير الجرنوس من قسم بني مزار وغير ذلك”[29]، ودير السنقورية هذا “الأمير تادرس” يقع على البحر اليوسفي تماماً أمام مركز بني مزار غرباً بالقرب من البهنسا[30].
ومن تلك الأديرة أيضاً التي عرفت قديـماً بالمنطقة ديـر بـريش (Prieche)، ودير بركا، ودير أبوللوس، ودير برتلميوس، ودير القديس جورج المسمى أبوسيمونيوس (Apusymonius) ودير القديس أبواندرياس[31].
كان للمسيحيين في أوكسيرنخوس فضل كبير في القضاء على الديانة الوثنية، وانتشرت الكنائس بدلاً من المعابد الوثنية، وأصبح لكل قرية من قرى البهنسا على الأقل في القرن الثالث الميلادي كنيسة خاصة بها، وكان لهذه الكنائس أملاك كبيرة، وحاول الرهبان والمشرفون على الكنائس تكوين اقتصاد قوي خاص بهم[32].
والأقباط كانوا عنصراً من أجناس السكان في البهنسا خلال العصر الإسلامي، ومازال اسم مطرانية بني سويف يحمل “مطرانية بني سويف والبهنسا”، وكان بعض الأساقفة يشمل أسقف الفيوم والبهنسا مثل “باسيليوس” أسقف مدينة الفيوم والبهنسا، كذلك كانت البهنسا كرسيا من كراسي البابوية في مصر، ولها أسقف خاص بها هو “أثناسيوس” وممن تولى أسقفية البهنسا في العصر الإسلامي من الأقباط أيضاً الأنبا أبرام فيما بين سنة (1139-1165هـ، 1716-1732م) وفي سنة 1173هـ-1740م تولى أسقفية البهنسا “غبريال”[33].
أسباب انتشار الرهبنة
كانت مدينة أوكسيرنخوس مثلاً “مبالغاً فيه لجنون الرهبنة التي تفشت في مناطق معينة من مصر، وقد قيل: إنها تضم ما لا يقل عن (10) آلاف راهب و(12) ألف راهبة في الأسقفية التي كانت هذه البلدة مركزها، ولا شك في أن هذا لم يكن في صالح المنطقة تماما”[34].
وقد ذكر أن في مصر مناطق رئيسة لتجمعات رهبانية بلغت “ثماني مناطق كانت بمثابة مراكز لتجمعات الرهبان، منها منطقة البهنسا، وكانت تعرف في العصر الروماني باسم أوكسيرنخوس”[35].
ويبدو أن عدد الرهبان والأديرة في مصر العليا قد تزايد باضطراد منذ القرن الرابع فصاعداً، وينسب روفينوس ( Rufinus ) هذا التزايد إلى منطقة أنصنا، حيث وجد –كما ذكرنا سابقاً– عشرة آلاف راهب في البهنسا أوكسيرنخوس حيث قدر الأسقف عدد رهبانه بحوالي عشرة آلاف، وعدد راهباته بحوالي عشرين ألفا، بينما كانت المدينة نفسها تضم ما لا يقل عن اثنتي عشرة كنيسة، وقد حولت المعابد الوثنية إلى استخدامات ديرية، كما زاد عدد الصوامع على عدد المساكن. والحقيقة أن المنطقة كانت مكتظة بالرهبان، ويجب أن نعرف أن المدن كافة ذات الأهمية بطول الوادي، كان بها كنائسها ورهبانها، بينما كانت أجزاء كثيرة من الريف والصحراء مشغولة بالتجمعات الديرية الواسعة[36]، فكانت أوكسيرنخوس من أولى المدن التي دخلتها المسيحية، وأصبحت فيما بعد مقراً لأبراشية[37]، وقد وُجِد في الضواحي التابعة لها الكثير من الأديرة[38].
وهذا ليس بغريب على الإقليم نفسه؛ ففيما يبدو أنه تم إنشاء أول كنيسة بمصر في الأشمونين، وهي من الأماكن المجاورة للبهنسا، حيث “يشير المؤرخ الكنسي أبو صالح الأرمني إلى أن أول كنيسة بنيت بمصر، كانت في الوجه القبلي في صحراء قوسقام من أعمال الأشمونين، حيث يذكر بيعة السيدة الطاهرة بالمحرقة من عمال الأشمونين، وفيها عاد المسيح إلى مصر، ومنها إلى الشام، وهي أول بيعة أنشئت في الوجه القبلي، وأول كنيسة بنيت في مصر، وفيها ورد المسيح إلى مصر، ومنها عاد إلى الشام، وهذه البيعة عرفت بقوس قام”[39].
وقد ساعدت الطبيعة الجغرافية لمصر على نمو حركة الرهبانية بها، وذلك أن الصحراء الواسعة والممتدة شرقاً إلى ساحل البحر الأحمر، وغرباً باتساع هائل وامتداد النهر العظيم من الجنوب باتجاه الشمال وسط هذه الصحراوات، وقيامه بدور أساسي في حركة الاتصال بين المناطق الرهبانية الواقعة على جانبيه داخل الصحراء الشرقية والغربية، والأخيرة بصفة خاصة، ساعد ذلك كله على أمرين على قدر كبير من الأهمية، أولهما: أن الطريق كان مفتوحاً تماماً وآمناً أمام الراغبين في سلوك دروب هذه الحياة النسكية. وثانيهما: أن مناطق التجمعات الرهبانية والديرانية لم تكن بمعزل عن بعضها البعض، بل كانت على صلة وثيقة بين أفرادها، فقد وجدت في الصحراوات المصرية أرضاً خصبة نمت فيها وترعرعت، وزادها حال السياسة الإمبراطورية الوثنية والمسيحية -على حد سواء- وانتشرت من فم إلى طيبة وإن كان يتضح أن هناك ثلاث مناطق رئيسة لهذه الجماعات تتكاثر فيها أعدادها، وهي منطقة وادي النطرون ثم البهنسا ثم طابينا قرب أخميم، وهي وما يتبعها من تجمعات أخرى قريبة من هذه أو تلك، تمثل عقداً يزدان به جيد الصحراء وتطل به على النيل[40].
أسباب سياسية
ومن العوامل التي أثرت في زيادة أعداد الرهبان “الاضطهادات التي حدثت أثناء حكم سيفيروس (193–211م) وداكيوس وفاليريانوس، ثم سمح للمصريين بحرية ممارسة ديانتهم في أيام الإمبراطور جالينوس (260–268م) وتلا ذلك الاضطهاد البغيض في أيام دقلديانوس”[41].
عوامل اقتصادية واجتماعية
أثرت العوامل الاقتصادية والاجتماعية بصورة أو بأخرى في ازدياد أعداد الرهبان “حيث أُهملت الزراعة لقلة العناية بالري والصرف، ولعدم تحسين وضع المزارعين فضلاً عن تقلب مناخ البحر المتوسط، والنقص في الأيدي العاملة في مجال الزراعة بسبب الخسائر البشرية، كما أن ظاهرة الهروب الجماعي للفلاحين بسبب عجزهم عن دفع الضرائب القاسية المفروضة، جعل نسبة الأراضي البور تزداد، وبدأت الإقطاعيات في مصر تظهر، فمثلاً تدل الإحصائيات على أن الإقطاعيين في هرموبوليس ماجنا (الأشمونين) كانوا يمتلكون سدس زمام الأراضي المزروعة، وقد تضخمت هذه النسبة فيما بعد حتى إن أسرة أبيون (Apions) [42] باتت تمتلك وحدها (112.000) أرورا[43] من زمام منطقة أوكسيرنخوس (البهنسا) البالغ (280.000) أرورا، أي إن الأسرة امتلكت الخمسين بالمئة من زمام أراضي هذه المنطقة الريفية، فما بالنا بباقي الأسر الإقطاعية الأخرى”[44]، كما يوجد من يعزو سبب انتشار المسيحية في البهنسا إلى أن ذلك كان لازدياد الذل والاستعباد للطبقات الفقيرة، كما أن الديانة المصرية القديمة كانت معقدة وصعبة الفهم والإدراك؛ لأنها تقوم على الخيال في معظمها وليس على الفلسفة[45].
أسباب دينية
على ما يبدو أن تلك الأسباب السابقة ليست الأسباب الوحيدة لانتشار ذلك العدد الكبير من الرهبان والراهبات في البهنسا “فقبط مصر مجمعون على أن المسيح وأمه مريم كانا بالبهنسا ثم انتقلا منها إلى القدس، وقال بعض المفسرين في قوله تعالى عن المسيح وأمه: ﴿وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50)﴾[46] الربوة البهنسا[47]، حيث يذكر أنه في أثناء رحلة العائلة المقدسة اتجهوا جنوباً إلى الصعيد حتى وصلوا إلى البهنسا، الذي يدعى أباي إيسوس، أي بيت يسوع، وهي الآن دير الجرنوس شرق البهنسا، وبها البئر الذي شربت منه العائلة المقدسة[48].
[1]* باحث دكتوراه، متخصص في ترميم الآثار بمنطقة آثار المنيا في وزارة الآثار (مصر).
[2]– الفريد. ج. بتلر، الكنائس القبطية القديمة في مصر، ج2 (القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب: 1993) ص 208.
[3]– مراد كامل، حضارة مصر في العصر القبطي (مطبعة دار العالم العربي، بدون تاريخ نشر) ص 214 .
[4]– جيمس بيكي، الآثار المصرية في وادي النيل، ج2-l (القاهرة: مركز تسجيل الآثار – 1990): 55 .
[5]– عزت، زكي حامد قادوس، آثار مصر في العصرين اليوناني والروماني (الإسكندرية: مطبعة الحضري، 2001) ص 238.
[6]– محمد، رمزي، القاموس الجغرافي للبلاد المصرية، من عهد قدماء المصريين إلى سنة 1945، القسم الثاني البلاد الحالية، مديريات الجيزة وبني سويف والفيوم والمنيا، ج3 (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1993): 211.
[7]– زبيدة، محمد عطا، إقليم المنيا في العصر البيزنطي في ضوء أوراق البردي، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1982): 19.
[8] -Abd el Hamed Zayed، the Antiquities of El Minia(Cairo: Dar El Hana press، 1960): 58.
[9] -Gauthier H.، Dictionnaire des noms Géographiques، vol. 2 (Paris: 1925): 83.
[10]– عزت، زكي حامد قادوس ، آثار مصر في العصرين اليوناني والروماني، مرجع سابق، ص 239-240 .
[11] -John Baines، Atlas in Ancient Egypt، (Phaidon Press LTD.، 1980): 129
[12]– جيمس بيكي، الآثار المصرية في وادي النيل، ج2، مرجع سابق، 55 .
[13]– محمد، إبراهيم بكر، صفحات مشرقة من تاريخ مصر القديم، (القاهرة: مطابع هيئة الآثار المصرية، 1992): 65 .
[14]– عزت، حامد قادوس، آثار مصر في العصرين اليوناني والروماني، مرجع سابق، ص 239 .
[15]– جيمس، بيكي، الآثار المصرية في وادي النيل، ج2، مرجع سابق، ص56.
– Kenyon F. ‘، the library of a Greek of Oxyrhynchus’، Journal of Egyptian Archaeology، (8) (London: 1922)، 135.
– Grenfell M.، ‘New papyri from Oxyrhynchus ’، Journal of Egyptian Archaeology (5) (London: 1912)، 45.
[16]– جيمس، بيكي، الآثار المصرية في وادي النيل، ج 2، مرجع سابق، ص 56 .
[17]– مراد، كامل، حضارة مصر في العصر القبطي، مرجع سابق، ص 146.
[18]– المقريزي، المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار، المجلد الأول (لندن: مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، 1422هـ – 2002م)، 643.
[19]– عبدالفتاح، محمد وهيبة، الجغرافية التاريخية بين النظرية والتطبيق (بيروت، دار النهضة العربية: 1980)، 344 .
[20]– زبيدة، محمد عطا، إقليم المنيا في العصر البيزنطي في ضوء أوراق البردي، مرجع سابق، ص 72.
[21]– عبدالحليم، نور الدين، مواقع الآثار اليونانية الرومانية في مصر، ط1 (القاهرة: 1999)، ص 137.
[22]– زبيدة، محمد عطا، إقليم المنيا في العصر البيزنطي في ضوء أوراق البردين مرجع سابق، ص23.
[23]– عزت، حامد قادوس، آثار مصر في العصرين اليوناني والروماني، مرجع سابق، ص 258.
[24]– زبيدة، محمد عطا، إقليم المنيا في العصر البيزنطي في ضوء أوراق البردي، مرجع سابق، ص 23.
[25]– محمود، أحمد درويش، محاضرات في تاريخ الفن القبطي والساساني (جامعة المنيا: كلية الآداب، قسم الآثار، الفرقة الثالثة، 1999-2000)، ص 12.
[26]– زبيدة محمد عطا، إقليم المنيا في العصر البيزنطي في ضوء أوراق البردي، مرجع سابق، ص 84-85.
[27] -Abd el Hamed Zayed، the Antiquities of El Minia: 58
[28]– مصطفى، عبدالله شيحة، دراسات في العمارة والفنون القبطية، مرجع سابق، ص ص43.
[29]– علي، مبارك، الخطط التوفيقية الجديدة لمصر والقاهرة ومدنها وبلادها القديمة، ج11 (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط2، 1987)، ص 710.
[30]– فائق، إدوارد غالي، الأماكن الأثرية بالكنيسة القبطية (القاهرة: مطبعة مدارس الأحد، ط1، 1991)، ص 17.
[31]– زبيدة، محمد عطا، إقليم المنيا في العصر البيزنطي في ضوء أوراق البردي، مرجع سابق، ص 88.
[32]– عزت، زكي حامد قادوس ، آثار مصر في العصرين اليوناني والروماني، مرجع سابق، ص 259.
[33] أحمد، عبدالقوي، مدينة البهنسا، دراسة أثرية عمرانية (رسالة ماجستير غير منشورة، كلية الآثار، جامعة القاهرة، 1999) ص 211.
[34]– الفريد.ج . بتلر، الكنائس القبطية القديمة في مصر، مرجع سابق، 208.
[35]– مراد، كامل، حضارة مصر في العصر القبطي، ص 214.
[36]– الفريد. ج. بتلر، الكنائس القبطية القديمة في مصر، ص 280.
[37] -Turner E.G.، Roman Oxyrhynchus، Journal of Egyptian Archaeology (36) (London: 1956)، 130.
[38] -Hardy E. R.، Christian in Egypt، church and people (New York: 1952)، 12.
[39]– مصطفى، عبدالله شيحة، دراسات في العمارة والفنون القبطية (القاهرة: مطبعة هيئة الآثار المصرية، 1988) ص 13.
[40]– رأفت، عبدالحميد، الفكر المصري في العصر المسيحي، (القاهرة: دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع، 2000) ص 270-271.
[41]– سومرز كلارك، الآثار القبطية في وادي النيل دراسة في الكنائس القديمة (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1999) ص 31.
[42] هي عائلة الكونت أبيون الذي ذاع صيته سنة 497م حيث كان أشهر أبناء إقليم المنيا التابع لمقاطعة أركاديا بمصر الوسطى كلها، وقد شغل منصب والي طيبة بالإضافة إلى ما شغله ولداه من مناصب عليا في الحكم المحلي، حيث تولى احدهما قيادة الحرس (Comes Domesticorum) والآخر تولى منصب القنصلية (Consuladraium) سنة 539م، ثم أصبح دوقا على مدينة طيبة سنة 548م، ويقال: إنه كان هناك ابن ثالث من أسرة أبيون كان آخر خلفاء تلك الأسرة في شغل المناصب الإدارية بإقليم المنيا، وقد شغل أحد أبناء أسرة أبيون من إقليم أوكسيرنخوس منصب مدير الخزانة بالقسطنطينية العاصمة.
[43] هو الفدان الروماني، يساوي حوالي أربعة أخماس الفدان المصري.
[44]– سيد، أحمد علي الناصري، تاريخ الإمبراطورية الرومانية، (القاهرة: دار النهضة العربية، ط3- 1998)، ص 481-482.
[45] -Maclenan H، Oxyrhynchus، an economic and social study (Amsterdam: 1960)، 83.
[46] القرآن الكريم، المؤمنون، الآية 50.
[47]– المقريزي، المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار، مج 1، مرجع سابق، 643.
[48]– جرجس، داود جرجس، رحلة العائلة المقدسة، المجلد الخامس (القاهرة: معهد الدراسات القبطية، ط1، 2005)، ص 80.