تقديم
يأتي كتاب «أزمات الحرب الأوكرانية- الروسية ومستقبل الإرهاب» (الكتاب السادس والثمانون بعد المئة، يونيو (حزيران) 2022)، استكمالاً لكتب عدة أصدرها مركز المسبار للدراسات والبحوث، رصدت تَشكُّل محاضن التطرف والعنف والإرهاب، بسبب تفاقم النّزاعات الدولية، وتمدد الفراغات الأمنية، وهشاشة الدّول؛ خصوصًا إبَّان الصراعات والحروب التي تأخذُ طابعًا دوليًا.
ينضوي الكتاب جغرافيًا في خانة إصداراتٍ سابقة، تطرقت إلى دراسة الإسلام والسياسة في آسيا الوسطى وشمال القوقاز، والمحافظة المسيحية في أوراسيا، والتيارات القومية في روسيا، والآثار الجيوسياسية لأحداث أفغانستان. ويتقاطع في المحتوى مع مسارين للمشروعات البحثية: تخصص الأول في دراسة التطرف الديني والقومي والمحافظ؛ وانكبّ الثاني على رصد ظروف تَشكُّل الملاذات الآمنة والمحاضن التي توفّر للجماعات الإرهابية بيئةً ملائمةً للتدريب والتجريب والتجنيد.
يؤدي تصدُّع الجبهة العالمية؛ وتفاقم الاستقطابات، إلى بروز ثغرات تتسرّب عبرها جماعات اللادولة، ويتربح منها مقاولو التطرف، فتترسخ الدعاوى التعصبيّة والشوفينية القومية. لذا مثّل تفاقم الصراع الأطلسي- الروسي؛ واجتياح القوات الروسية الأراضي الأوكرانيّة، حدثًا مقلقًا لدارسي التطرّف والإرهاب؛ لما تحمله الحرب من آثارٍ إنسانية مقلقة، وما تجره من عواقبَ اقتصادية وخيمة، ونزاعٍ فكريّ يؤججُ التطرّف، قبل أن يتضاعف هذا القلق مع الدعوات لانضمام مقاتلين غير نظاميين للتطوّع والقتال تحت لواء أحد جانبي الصراع! ولبّت النداء قوميّات متنافرة؛ وجنود سابقون؛ ومقاتلون؛ يزعم أن بعضهم سبق له القتال في جماعات إرهابية. وقد تسببت ظاهرة «المقاتلين الأجانب» بوجهها الجديد، في ارتباكٍ أثار النقاش حول متانة المفاهيم الأساسية للإرهاب والتطرف والقومية والمحافظة، واليمين، والانفصال، بل وبُعِثت جدالات ظنّ العالم أنّها قُبِرت بانتهاء الحرب العالمية الثانية، أو أقله مع انهيار جدار برلين (1989).
بدأ الكتاب، بتعريف قانوني لمفهوم المقاتلين الأجانب، ثم انشغل بنشاطهم في أوكرانيا منذ عام 2014؛ وتداعيات تمدد التنظيمات المتطرفة فيها، وصولاً إلى بحث ظاهرة الإرهاب في القوقاز وآسيا الوسطى، ثم درس التيارات القومية في أوكرانيا، وصولاً إلى قياس التأثيرات المحتملة على القارة الأوروبية والشرق الأوسط، مرورًا بمحاكمة فكرة مقارنة الأفغان العرب، بالمقاتلين العائدين المحتملين من أوكرانيا، وتقيّيم الموقف من النزعات الانفصالية.
تصدرت الكتاب دراسة مفاهيمية عن البُعد القانوني لمفهوم المتطوعين والمقاتلين الأجانب المنخرطين في النزاع، فحاكمت المشروعية القانونية، وبيّنت ما يترتب عليها، في معايير حقوق الإنسان، والقانون الدولي، قدمتها الباحثة والقانونية اللبنانية فاتن فرج، مستكملةً بها دراسات سابقة، عن جدلية تعريف الإرهاب.تناولت دراسة ثانية الزاوية الميدانية لظاهرة المقاتلين الأجانب في أوكرانيا منذ عام 2014، فركّزت على تنامي ظاهرة الجماعات المسلحة الأممية، وانخراطها في نزاعات خارج حدود بلدانها الأصلية، ومبررات استعانة طرفي النزاع الروسي والأوكراني بها. أشارت الدراسة استنادًا إلى مصادر أوروبية إلى أن نحو ثلث قتلى الجانب الروسي الذين تم رصد أسمائهم –في الحرب الراهنة- ليسوا من العِرق السُّلافي! حاول الباحث أن يجد أدوات الربط بين الكتائب القومية الأوكرانية، وبعض العناصر الأوروبية، قبل أن يُحذّر بحسم من «عسكرة حركات اليمين المتطرف»، في ظلّ الدعائية القومية التنافسية، والأبعاد الدينية والهوياتية للصراع.
كانت حركة المقاتلين من أوكرانيا، وإليها، محلّ دراسة غطت تمدد التنظيمات المتطرفة في أوكرانيا وتداعياته؛ لقد تحوّلت منطقة شرق أوكرانيا منذ عام 2014، إلى بؤرة تجّمع لمعارضي روسيا وحلفائها. وعلى الرغم من أنّ الدراسة أشارت إلى جهود أوكرانيّة أدت إلى القبض على البراء الشّيشاني في 2019 في كييف، فإنّها لفتت إلى بقائه مستترًا فيها بأمان لمدة عامين، مما يدلّ على الرخاوة الأمنيّة في التعامل مع المتطرفين الشيشان في أوكرانيا.
زعمت الدراسة أن المقاتلين الشيشان المتحدرين من منطقة بانكيسي (Pankisi) الجورجية، يعودون من القتال في سوريا إلى أوكرانيا مباشرةً، محتمين بجبال الكاربات (Carpathian Mountains)، ومستغلين ثغرات قانونية، أزعجت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي من أوكرانيا، إذ تجمعت بعد 2014 قوات شيشانية «معادية لروسيا»، وبدأت تُجمّع مقاتليها من «دول أوروبية» في كتائب أشهرها كتيبة جوهر دوداييف، وتنظيمات أحمد زكاييف. بعد انطلاق الحرب، نُقل نحو مئتي مقاتل أجنبي مِن سوريا للقتال إلى الجانب الأوكراني! تلمّح الدراسة إلى أنّ تجميع المقاتلين الأجانب في أوكرانيا ليس اعتباطيًا، وكأنها ترى ملفَ «العائدين من أوكرانيا»، عين الإعصار الناشئ!
تطرقت دراسة إلى تأثير النزاع الحالي، على عودة نشاط الجماعات الإسلامويّة المقاتلة؛ الكامنة في شمال القوقاز، ومنطقة آسيا الوسطى، وفرص استغلالها للفوضى وتدفق الأسلحة على أوكرانيا، ونَقَلت عن قائد فيلق أحد الكتائب الشيشانية المعادية لروسيا قوله: «أعلنّا عن معسكر في أوروبا عام 2014، وفي غضون أسبوعين ظهر في قوائمنا (600) شخص، قدم ثلثهم إلى أوكرانيا».
تناولت دراسة «الإخوان المسلمين» في أوكرانيا ومؤسساتهم وواقعهم، وشرحت ديموغرافيا توزع المسلمين في البلاد، وهياكل ممثلياتهم. يسرد الباحث واقع النزاعات بين الجماعات المتفرقة، مركّزًا على الجمعية الأوكرانية للمنظمات الاجتماعية (الرائد)، ودورها في خلق ثقافة تنظيمية، متأثرة بأفكار منظري الإخوان، آوت بعض المنتمين للتنظيم الدولي، والمدانين بقضايا عنف وإرهاب في مصر. تبني الدراسة فرضية الصلة بين المؤسسة والإخوان على زيارة الباحث لمقر المؤسسة، ومكتبتها، ومطالعة مفرداتها. متناولاً تفاعل الجمعية مع الحرب الراهنة، عبر جمع التبرعات، وملاحظًا وجود مجموعات من المقاتلين لم تنضم للجيش الأوكراني، بل انضمت لكتائب عسكرية مستقلة، تضم أوكرانيين أوروبيين وشيشان وقوقاز.
مثّلت العناصر المنضوية تحت لواء «الكتائب والأحزاب القومية الأوكرانية»، عصب «مقاومة التمدد الروسي»، وانتشرت في العالم شبهة انضواء هذه الأحزاب تحت شعار شديد التطرف، يصل لحدِ اعتناقها الأفكار «النازية الجديدة». فقامت دراسة بتفكيك الاتّهام، لشرح سياقه التاريخي بدايةً من تحالف القوميين الأوكرانيين مع أدولف هتلر ضد بولندا وروسيا، ثم اهتزاز تحالفهم بعد الاتفاقية الألمانية- السوفيتية عام 1939، ولكنّه ما لبث أن قوي مع تقدم القوات الألمانية داخل روسيا، إذ ساهم القوميّون بقتال عدوّهم السوفيّتي ورأوا في الألمان «جيش تحرير». ولكن التّحالف المؤقت نفسه انتهى حين رفض هتلر انفصال أوكرانيا، فنشبت مواجهات أدت إلى اعتقاله القوميين الأوكرانيين، وعلى رأسهم: ياروسلاڤ ستيتسكو (Yaroslav Stetsko ) (1912-1986)، وستيبان بانديرا (Stepan Bandera) (1909-1959)، ورومان شوخيفيتش ( Shukhevych Roman) (1907-1950). لاحظ الباحث تَركّز الحركة القومية في الغرب الأوكراني بسبب كثافة السكان وتوافر المظالم والانفتاح المعرفي للثورة، على شحّ الموارد وتوزيعها، بالإضافة إلى عوامل هيكلية تفصلهم عن الشرق الذي يتحدث الروسية، ويتدين بالأرثوذكسية، بينما تسود عند غالبية القيادات القومية الكاثوليكية المحافظة. تشير الدراسة إلى أنّ النزاع بين شرق أوكرانيا وغربها، خلق جلّ الثورات، وأنّ توظيف إرث الحركة القومية في مقاومة روسيا، هو الذي أدى إلى إحياء شبهة النازية، وتاريخها المندثر، وهو عرَض لمرض أكبر.
ظلّ انتماء كتيبة/ فوج آزوف (Azov Regiment) لتيارٍ يميني متطرف، أساسًا لكل هجوم على المقاومة الأوكرانية، وكانت الشعارات الواضحة ضد النسوية والحرية والديمقراطية تثير غضب حلفاء أوكرانيا في الكونغرس. قارنت دراسة كتيبة آزوف بالجماعات الإرهابية، لذا فسح الكتاب، مساحةً لترجمة أبرز مقالين يدافعان عن الكتيبة، لكلٍ من الصحافيتين الأوكرانيتين غالا سكلياريفسكا (Gala Sklyarevska)، وألينا ستارا ( Stara Alina).
يفترض السيناريو الأكثر تشاؤمًا، في دراسة «الحرب الأوكرانية وجماعات التطرف والعنف في أوروبا»، انخراط جماعات إسلاموية في الحرب الحالية. وبعدما رصدت أبرز أسمائها وتوجهاتها، طرحت سيناريو عودتها إلى بلدانها بعد نهاية الحرب، وما الذي يمكن أن تخلقه من تغيير في البيئة الأمنية، والجهود الاستباقية لعدد من الدول الأوروبية عبر وضع تشريعات قانونية، واتخاذ خطوات عملية للتصدي لمخاطر تمدد الإرهاب.
حاولت دراسة أن تقيّم استعداد أوروبا، في مواصلة مكافحة الإرهاب، تأهّبًا لمرحلة «ما بعد الحرب الأوكرانية»، بتعقيداتها، فرصدت الهجمات الإرهابية بحسب الأيديولوجيات المختلفة (الدينية، واليمينية، واليسارية، والانفصالية)، خلال الفترة الممتدة بين عامي (2007-2021)، وسجلت ملاحظة عولمة التطرف، وأثر الأزمات الاقتصادية المترتبة على النزاع الحالي في صعود جماعات التطرف اليمينية واليسارية، وإمكان حدوث صِدام داخل بلدان الاتحاد الأوروبي تستغله الجماعات الإسلامويّة الكامنة، مع تقدير موقف لأحوال بعض البلدان الأوروبية المرشحة أكثر من غيرها لمثل هذا السيناريو.
ناقشت دراسة تالية «أثر النزاع الروسي- الأوكراني على تمدد داعش في الشرق الأوسط»، ورصدت ردود فعل تنظيم داعش الذي وصف الحرب بـ«الصليبية- الصليبية». جزم الباحث بأنّ الحرب خففت الضغط العسكري والاستخباراتي على التنظيم الإرهابي، مفترضاً «أن أميركا وروسيا قد تخلتا عن مواجهة الإرهاب في منطقة الشرق الأوسط».
رصدت دراسة أخرى التنافس (الأميركي- الروسي) في سوريا، حيث تدخلت روسيا في معادلة معقّدة، نتج عنها اندفاع «عشرات الآلاف من المقاتلين من أوروبا والقوقاز والصّين» إلى الحرب السّورية؛ ثم فَصّلت الباحثة في المحطة الليبية، وزَعمت أنها تحوّلت إلى ساحة لتصفية الحسابات الروسية والأميركية. أشارت الدراسة إلى أن «تفرد فرنسا بسياسةٍ خاصةٍ في أفريقيا» نتج عنه صراع ثلاثي، أدّى لسلسلة انقلابات، رُبطت بسلسلة اضطرابات بدأت عام 2011، تبعها موجة فوضى، وصولاً إلى تحوّل التّحالفات لكفة روسيا؛ إلى أن ظهرت استراتيجية «شد الأطراف»، ثم الاستدارة التي تحاصر روسيا في قره باغ وأفغانستان وكازاخستان ثم أوكرانيا. وختمت بأنّ النزاع الدولي وأبعاده سوف يؤدي إلى فراغات واضطرابات قد توفر للتطرف في الشرق الأوسط الفرصة للعودة، ملمحة إلى أن السماح بعودة الحركات المتطرفة للمشهد؛ ليس مستغربًا في ظل الممارسات الدولية الراهنة.
طرح الكتاب فرضيّة «تكرار النموذج الأفغاني في حرب أوكرانيا»، وازن فيها بين الغزو السوفيّتي لأفغانستان في 1979، والأحداث الراهنة، مستعيدًا بروز ظاهرة «الأفغان العرب» ومتسائلاً عمّا إذا كانت الحرب الراهنة سوف تنتج ظاهرة «القوميين الداعمين لأوكرانيا»، واحتمال ربطهم باليمين المتطرف! قبل أن يُمايز بين عوامل نجاح تحوّل التطوّع لمؤازرة الأفغان وفق سياقه التاريخي، إلى ظاهرة إرهابية، أضاف الكتاب إلى عامل التنافر القطبي الذي قاد إلى الدعم الأميركي؛ توافرَ حاضنة أيديولوجية ودعاية دينية واضحة، للمقاتلين، مستبعدًا تكرره لدى «المتطوعين المفترضين» الآن، خصوصًا في ظلّ النظام أحادي القطب في العالم.
حرّكت المواقف العالمية من الحرب الأوكرانية- الروسية، المشاعر السياسية، والتحالفات الأساسية، والمخاوف، لذا ركز الباحث المغربي محمد بوبوش، على ما وصفه بـ«مخاطر النزعات الانفصالية»، وانتهى بحسم إلى أن القانون الدولي لا يمنح الحق للمجموعات العرقية في الانفصال عن أراضي الدولة التي تشكل جزءًا منها!
في الختام، يشكر مركز المسبار للدراسات والبحوث الباحثين المشاركين في الكتاب، ومن شاركوا في إعداده وتحريره؛ ويخص بالذكر الزميل منير أديب الذي نسَّق العدد، ويتمنى أن تجدوا في سطوره شيئًا من بغيتكم.
رئيس التحرير
عمر البشير الترابي
يونيو (حزيران) 2022